أردوغان.. وثمن «قنبلة» دافوس

«دقيقة واحدة» أرادها للرد على بيريس كانت كافية لرفع نسبة شعبيته مع الاستعدادات للانتخابات المحلية

أتراك يلوحون بالأعلام التركية ويحملون صورة لأردوغان، يستقبلون رئيس الوزراء في مطار اسطنبول لدى عودته من دافوس. (أ.ف.ب)
TT

عندما كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يعد نفسه لقضاء أربعة أشهر كاملة في سجن اسطنبول في عام 1999، بسبب قراءته مقاطع من الشعر وصفت وقتها بأنها استفزازية تحريضية، قال حينها إنه سيمضي وقته هناك بتحسين لغته الإنجليزية. وقد سنحت له فرصة التطبيق والممارسة العلنية الأولى والأهم ربما في أواخر الشهر المنصرم، على مرأى ومسمع العالم بأكمله، في إحدى أهم قاعات منتدى دافوس السويسري الشهير. فأردوغان الذي كان يشارك قبل أيام في حلقة نقاش دولية موضوعها الحرب الإسرائيلية على غزة، أغضبه فيها كلام الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس وتصرف مدير الندوة، الإعلامي والكاتب الأميركي المعروف ديفيد اغناتيوس، لم يتمالك نفسه وتدخل على الفور باللغة الإنجليزية مكررا عبارة «ون مينيت» أي «دقيقة واحدة»، مطالبا مدير الندوة بإعطائه الكلام الذي أخذه كمن يسحب الفريسة من فم الأسد، ليفجر غضبه في وجه بيريس واغناتيوس على السواء، ثم يقاطع الجلسة ويغادر المكان، من دون أن يعود إليه، ويدفع العالم إلى مناقشة أقواله وتصرفه هذا منقسما بين مؤيد ومعارض، وبين داعم ومنتقد.

كتابات كثيرة نشرت حول ما جرى، رافقتها عشرات التحليلات حول هذا الزلزال الذي تسبب به رئيس الوزراء التركي، والعاصفة التي فجرها في أحد الأماكن، الذي يفترض أن يكون منصة للحوار والنقاش والتعاون بين الدول. ولكنه أمام هذه الواقعة، أشعرنا أردوغان بطعنة قوية تعرضنا لها لا نعرف حتى الساعة موقع ودور منتدى دافوس في هذه الحادثة. وقد سارع كبار المشرفين على المنتدى للإعلان بأنهم أبرياء مما جرى، وأن الدبلوماسيين الأتراك والإسرائيليين ناقشوا هم أيضا موضوع جلسة الحوار وتفاصيلها فيما بينهم قبل انعقادها، محاولين رمي الكرة في ساحة اللعب بين الفريقين وإشراكهم في تحمل مسؤولية ما جرى.

كيف تعامل الداخل التركي مع عاصفة دافوس، وما هي الأبعاد المرئية وغير المرئية لنتائجها المستقبلية على الأرض في تركيا سياسيا واستراتيجيا؟ وكيف سينعكس كل ذلك على مستقبل حزب العدالة والتنمية السياسي في الحقبة القادمة، خصوصا وأن تركيا تنتظر انتخابات محلية عامة في أواخر الشهر المقبل قد تقدم لنا صورة موجزة حول مسار العملية السياسية في البلاد للسنوات الخمس المقبلة على أقل تقدير؟ الداخل التركي وكما هو متوقع انقسم بين مساند ومنتقد لما فعله أردوغان في دافوس، ويبرز في مقدمة الداعمين الصحافي الإسلامي المعروف إبراهيم قره غل، الذي يؤكد أن بيريس واغناتيوس يستحقان ردة الفعل هذه. ويقول إنه لو أن أردوغان لم يتصرف على هذا النحو، لكان خرج الرئيس الإسرائيلي مسجلا انتصارا سياسيا ودبلوماسيا كبيرا في الدفاع عن إسرائيل وحملتها ضد غزة أولا، ولكان تعرض لانتقادات لاذعة من قبل المعارضة السياسية التركية التي كانت ستركز على سماحه لمدير الجلسة بوضع يده فوق كتف أردوغان ومقاطعته واستفزازه.

الإعلامي في جريدة «يني شفق» هاقان البيرق، يرى أن أردوغان نجح مرة أخرى في إثبات قدراته السياسية وإبراز شخصيته القوية قاطعا الطريق على الرئيس الإسرائيلي وعلى اغناتيوس، للتصرف كما يشاءان. ويضيف أن «إسرائيل حاولت أن تظهر بمظهر من يزرع الورد على طريق السلام في المنطقة وأن تحملنا نحن مسؤولية تخريب وتهديم ما تحاول هي فعله، فلم تمنح هذه الفرصة، دون أن نهمل طبعا مواقف وتصريحات قيادات سياسية وحزبية إسلامية عبرت بأكثر من شكل وأسلوب عن وقوفها إلى جانب أردوغان وكانت أبرزها تصريحات أركان قيادات الحزب الإسلامي المعارض «السعادة»، الذين لم يترددوا هم أيضا في الوقوف إلى جانب أردوغان ودعمه، تحت عنوان هي المرة الأولى التي يقول فيها أردوغان كلاما سليما منذ سنوات طويلة أمضاها في الحكم». الكاتب فهمي قورو استعرض مطولا حادثة دافوس وخلفياتها وأبعادها، وذكر خصوم أردوغان السياسيين أنها ليست الوقفة الأولى له من هذا النوع وإنها لن تكون طبعا الأخيرة. ويقول، «هو يتصرف كما تملي عليه قناعته وتجربته السياسية دون مناورة أو طرح حسابات بسيطة ضيقة، ويكفي التذكير بمواقفه عام 2003 عندما رفض مجلس النواب التركي طلب الحكومة فتح الحدود أمام القوات الأميركية المتوجهة إلى العراق والمشاركة في عملياتها العسكرية هناك، ودخل في نقاش حاد مع الكثير من السياسيين والإعلاميين حذروا من أن البلاد ستدفع ثمنا سياسيا باهظا لموقفها هذا، وها هم يكررون ذلك اليوم.

وربما هذا هو السبب الأكبر الذي أغضب العديد من الدبلوماسيين الأتراك المتقاعدين الذين وصفهم أردوغان بجماعة «مون شير»، وهم الذين حملوا على رئيس الوزراء التركي وتصرفاته في دافوس ملمحين إلى أنها قد تكلف تركيا الكثير في المستقبل، وكان في مقدمتهم يالم ارلب والتر توركمان واوزدام صانبرك».

وعلى الرغم من أن السفير الإسرائيلي في تركيا حاول جاهدا التأكيد أنه تم محاصرة حريق دافوس وإخماده وهو في المهد، مستبعدا حدوث أي أضرار أو انعكاسات سياسية، وردد أن أنقرة وتل أبيب عاشتا حالات مشابهة في الحروب على لبنان وفلسطين والمواقف حيال السياسة الإيرانية الإقليمية، لكنها مع ذلك لم تتأثر كثيرا واستمرت على ما هي عليه زوبعة، تعبر في تاريخ العلاقات التركية – الإسرائيلية. ومعظم الصحافة التركية المناوئة لحزب العدالة والتنمية، اتفقت على أن رئيس الوزراء التركي نجح في إيصال العديد من الرسائل السياسية إلى أنصاره وإلى الداخل التركي، وأن أحلام المعارضة السياسية في تحقيق انتصار مفاجئ في انتخابات الشهر المقبل قد ولت، وأن عليهم المراهنة على أحداث ومفاجاءات كبيرة تحدث إذا ما كانوا فعلا يريدون الاستمرار في منافسة العدالة والتنمية على مواقع إدارة شؤون البلديات في المدن والقرى التركية.

أما أكثر الأصوات اعتراضا في وجه أردوغان، فقد جاءت من الدبلوماسي التركي المخضرم النائب في حزب الحركة القومية اليميني المتشدد دنيز بولوك باشي، الذي سأل أردوغان لماذا لم يلجأ إلى إعادة الميداليات التي منحه إياها قيادات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة نتيجة ما أبداه من تعاون وانفتاح على إسرائيل. وتابع متسائلا، «لماذا لم تجمد الحكومة تعاونها العسكري والأمني مع تل أبيب مثلا ولم ينسحب رئيس الوزراء من موقعه ودوره في مشروع الشرق الأوسط الكبير؟».

وكذلك علت الأصوات المعترضة من النائبة الكردية في البرلمان ونائبة الرئيس في حزب المجتمع الديمقراطي امينة اينة، التي حاولت الربط بين الصواريخ الإسرائيلية على غزة والعمليات العسكرية التي تنفذها القوات التركية ضد مواقع حزب العمال الكردستاني بتكنولوجيا وتجهيزات ودعم من إسرائيل نفسها.

ومن بين الإعلاميين الذين تشددوا في انتقاداتهم لتصرف أردوغان في غزة، قال جان دوندار إن أردوغان على حق عندما انتقد تصرفات مدير الحلقة، لكن حجم الغضب وردة الفعل تذكرنا بقرار الحاكم الذي أصدر تعليماته إلى رئيس «حزب الشباب» التركي جيم اوزان قبل سنوات، بقراءة مجموعة من الكتب في علم النفس للجم غضبه وانفعاله الذي فجره وقتها ضد أردوغان نفسه خلال مهرجاناته الخطابية. كتاب كثر يتقدمهم اوكتاي اكشي وانيس بربر اوغلو وقدري غورسال ورئيس تحرير جريدة «حريت» ارتوغرول اوزكوك، التقوا جميعا على أن أردوغان بعد حادثة دافوس خرج وقد قسم العالم إلى قسمين، عالم إسلامي يفتخر بما فعله، وعالم غربي متردد في أن تتفاقم نسبة العداء إلى السامية. أردوغان قبل نصف ساعة كان يهاجم إسرائيل وسياستها في غزة، لكنه بعد نصف ساعة خرج من دافوس ليقول إن مشكلته كانت فقط مع مدير الندوة لا أكثر ولا أقل. هل سيطالب أردوغان حماس الآن بإلقاء السلاح والتوجه إلى طاولة الحوار مع إسرائيل؟ هو ربح الشارع الإسلامي لكنه عرض علاقات تركيا بإسرائيل إلى الخطر الكبير كما يرى هؤلاء الكتاب. فالإعلامي سميح اديز يعتبر أن أردوغان بعد دافوس، وما جرى هناك، عزز حقا حجم أصواته ونقاطه لدى القواعد الشعبية التركية، وهو سيستفيد من ذلك في الانتخابات المحلية. لكنه لم يقل لنا حتى الآن شيئا عن أسباب عدم حضور ميتشل إلى أنقرة خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة. «وان مينيت»، «دقيقة واحدة»، أرادها أردوغان في دافوس. لكنها كانت كافية لتقود إلى ارتفاع نسبة الداعمين لما فعله هناك إلى أكثر من 70 في المائة من الناخبين الأتراك، ولإشعال مواجهة سياسية ونقاشات مطولة داخل تركيا وخارجها حول قراره مغادرة طاولة الحوار على هذا النحو المقلق. وتحمل معها الكثير من علامات الاستفهام حول المستقبل السياسي في العلاقات التركية – الإسرائيلية، والتركية - الأميركية تحديدا. فهل ستخفف أنقرة من حجم تعاونها العسكري والأمني والاستراتيجي مع إسرائيل في المرحلة المقبلة؟ وهل أن مواقف أردوغان الأخيرة حيال الحرب على غزة سيكون لها ثمن ما سيدفع كما يلمح الصحافي المعروف طوفان تورانج؟ حزب العدالة والتنمية التركي يراهن، كما يبدو، على دعم العالمين العربي والإسلامي لمواقفه الأخيرة أكثر من عدم مراهنة الغرب وإسرائيل على مسار العلاقات مع تركيا التي تشهد دائما خضات وضربات سياسية ودبلوماسية موجعة تعيد الجميع إلى خط البداية. وعلى الرغم من أن أردوغان يصر على أن قنابل إسرائيل الفوسفورية كانت أكثر وأكبر ضررا من تصريحاته ومواقفه في دافوس، فإن السياسي التركي المخضرم ورئيس الجمهورية التركية الأسبق سليمان دميرال، يصر على أن ثمنا ما سيدفع بسبب دافوس لكننا لا نعرف تاريخه ومكانه وحجمه.