فزاعة طيور.. على هيئة امرأة

ظاهرة «المرأة الفصلية» تكشف عن طبائع العشيرة في العراق منذ الدولة العثمانية وحتى اليوم

TT

في طابور طويل للنساء الأرامل والثكالى أمام دائرة الرعاية الاجتماعية تروي كاظمية خنجر (57 عاماً) قصة معاناة شريحة من النساء في العراق يتم تسميتهن «المرأة الفصلية»، وهو وصف يبدو غامضاً للوهلة الأولى، إلا أنه يعني «المرأة التي تفص أو تفصل في النزاعات بين العشائر في العراق». فـ«الفصليّة» هي تلك المرأة التي تعطى لأهل المقتول في أية حادثة كانت كجزء من التسوية بين عشيرتين أو أكثر، دون أخذ رأيها بالرجل الذي سيصيح زوجاً لها، سوى أنها ترتبط به بعقد شرعي. وعادة ما يكون الزوج من كبار السن إمعاناً بإذلال العشيرة الجانية. تذهب الفتاة التي يتم اختيارها كـ«فصلية» إلى العشيرة الأخرى وسط بكاء أسرتها وعويل الأقارب. أما مصيرها فهو واحد من اثنين: إما أن يتم تطليقها في اليوم اللاحق نكاية وإهانة لعشيرتها، وإما أن تبقى لدى العشيرة الأخرى، لكنها في هذه الحالة لا تعامل كفرد من العشيرة، بل كجانٍ، فلا يشترى لها ملابس في الأعياد والمناسبات أو مجوهرات ولا تأكل مع العشيرة الجديدة في نفس المكان. وتقول كاظمية خنجر التي مرت بتجربة «المرأة الفصلية» لـ«الشرق الأوسط»: «لا تقدر أية امرأة أن تصف تلك المعاناة ما لم تذق طعمها. لقد تحملت مرارة الحياة بشكل يومي طوال عشرة أعوام ابتداء من سوء المعاملة، من ضرب وسب وشتم وإهانة وتوصيف بأقسى الكلمات وانتهاء بالعوز والفاقة والبؤس». وأضافت: «كنت صغيرة لا أفقه الحياة عندما تم دفعي إلى رجل أكبر من أبي أشبه بمعتوه في صفقة تسوية عشائرية على أني امرأة فصلية، كان الزوج وعائلته يعاملونني بروح عدائية وكأنني الرسم الذي يذكرهم في كل لحظة بمقتل ولدهم.. لم أعرف الحنان الذي فقدته منذ وفاة والدتي وأنا في المهد ومن ثم العيش في كنف زوجة الأب القاسية.. وجدت نفسي بعد وفاة الزوج أرملة وأم لثلاث بنات صغيرات لا إرث لهن ولا معيل. عشت بعض الأشهر على الصدقات وعطف الناس الذي بات بمرور الأيام شحيحاً لا يسد رمق الأفواه الجائعة، فطرقت أبواب العمل من الخدمة في البيوت إلى خبز طحين الجيران، إلى بيع الشاي والسجائر في مرآب السيارات. أعمل مثل الناعور منذ الصباح الباكر وحتى المساء». وتخلص كاظمية خنجر حالها بقولها: «المرأة الفصلية هي أقسى شيء يمكن أن تتعرض له امرأة.. لم أشعر يوماً بآدميتي.. المرأة الفصلية تعيش بلا روح.. وأشبه ما تكون بفزاعة طيور على هيئة امرأة». ويوضح سجاد منخي، رئيس فخذ، الفخذ يعني رئيس جزء من عشيرة كبيرة: «بعض العشائر تقوم بطلاق الفصلية بعد الزواج بليلة واحدة نكاية في أهلها، وإن بقيت لديهم فتتم معاملتها بقسوة وإذلال، وهي صاغرة مغلوبة على أمرها، فليس لها حقوق الزوجة المعروفة. يطلب منها الخروج في صباح ليلة الدخلة إلى العمل في الحقل إذا كان أهل الزوج في الريف، أو إلى أعمال البيت في المدينة، وتتعرض إلى شتى أنواع الضرب والتحقير إن ارتكبت أبسط الأخطاء، ولا يسمح لها بزيارة أهلها إلا مرة أو مرتين في العام». ويتابع منخي: «المرأة الفصليّة تقدم خدمتها لكل من في البيت وليست مقتصرة على الزوج لوحده. ولا تعامل كواحدة من نساء العائلة عند إكساء النساء بالملابس الجديدة في الأعياد والمناسبات. إن بعض العشائر تكون غير عادلة في اختيار المرأة الفصليّة، فليجأ شيخ العشيرة في أحيان كثيرة إلى اختيار بنات الفقراء من رجال العشيرة بعد إغراء الآباء بالأموال إذا كان القاتل من المقربين للشيخ أومن المتنفذين بالعشيرة أو من الميسورين».

ويرى الشيخ محمد منصور (رئيس عشيرة): «يتم الفصل بعض الأحيان بزفاف أكثر من امرأة، ويتم اختيارهن بالأسماء حسب مكانة القتيل. وتجرى تلك الأعراف عند مقتل شيخ أو ابنه أو أحد كبار رجال العشيرة، إضافة إلى تقديم مبالغ كبيرة من الأموال»، مشيراً إلى أن بعض الزيجات من الفصليات تحدث تقارباً بين العشائر بعد أن تفرض الفصليات محبتهن واحترامهن لدى أهل الزوج معززة وجودها بكثرة إنجابها لأعداد من الأولاد والبنات. وتقول أم سلون، 32 عاماً، لـ«الشرق الأوسط»: «العرف العشائري هو السائد في العلاقات الاجتماعية بين سكان منطقة الحيانية غرب مركز محافظة البصرة.. أنا واحدة من ضحايا تلك الأعراف والتقاليد، حيث تم زفافي على رجل بوصفي فصلية أو (ديّة) جراء قتل أحد إخواني رجلا عن طريق الخطأ». وأضافت أم سلون: «مازلت أتذكر يوم زفافي عندما كان عمري 17 عاماً، حيث تم إخراجي من بيت الأهل إلى بيت الزوج بملابس البيت وسط بكاء والدتي، وكان عزائي أن أبقى لدى أهل المقتول بعد أن أنجب لهم مولوداً ثم أعود إلى أهلي بعد طلاقي حسب العرف العشائري، لكني لم أستطع التخلي عن رضيعي وارتضيت البقاء لدى الزوج وحتى الآن، حيث تغيرت معاملتهم معي وأطفالي الثلاثة. لقد أنسيتهم مقتل ولدهم». وتابعت «أشد ما يبهرني هي حفلات الأعراس التي حرمت منها، حيث أبقى أتطلع بذهول وانتعاش إلى كل عروس وهي في فستان الزفاف، لذا أحرص كثيرا على حضور حفلات الأهل والأقارب والجيران بشغف كبير». وتؤكد إيمان سالم، ناشطة نسوية: «إزالة هذه المظاهر لا تتم عبر الشعارات. لابد من اعتماد سياسة التنمية البشرية الشاملة.. وهي مهمة مجتمعية وطنية.. للتوعية النّسوية دور جوهري في التصدي للعنف، إذ لابد من معرفة المرأة لحقوقها الإنسانية والوطنية وكيفية الدفاع عنها وعدم التسامح والتهاون والسكوت على سلب هذه الحقوق». ويروي علي المرواني (57 عاماً) حكايته مع المرأة الفصليّة التي تزوجها قبل ثلاثين عاماً، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «أقمنا حفل زواج أخي الأكبر عندما كنا نسكن في ضواحي مدينة الناصرية وسط عشيرتنا. وكانت الأعراف السائدة مشاركة شباب العشائر القريبة في حفلات الأعراس، إذ يطلقون من بنادقهم عدداً من الطلقات النارية في الهواء، ومن سوء الطالع أن إحدى طلقات القادمين من عشيرة أخرى استقرت عن طريق الخطأ في صدر العريس وخر صريعاً، وتحول العرس إلى مجلس فاتحة». وأضاف: «تمت تسوية المشكلة وفق الأعراف العشائرية، مع عدم اكتراثنا بأحكام القضاء الذي أصدر حكما بسجن الجاني، إذ قدمت عشيرة الجاني اثنين من النساء الفصليات ومبلغاً من المال، كانت واحدة منهن لي». وتابع: «تعرفت عليها ليلة الزواج. لم تكن تبلغ من العمر 15 ربيعاً، تجيد القراءة والكتابة وتسكن المدينة مع أهلها. وتم اختيارها كونها ابنة خال القاتل. كانت مطيعة كما عانت من قسوة في التعامل بالأشهر الأولى من الزواج لعدم إجادتها أعمال المرأة في القرية. كانت تردد: هذا هو قدري ولابد من الاقتناع به»، موضحاً: «إلا أنها تمكنت بأخلاقها الحميدة وحسن طباعها واحترامها للآخرين من فرض وجودها في البيت حتى انتزعت محبة واحترام الجميع وأنا أولهم. وبعد عام رزقت بولد منها.. وعادت العلاقة الطبيعية مع أهلها حتى نسينا أنها امرأة فصلية.. أما المرأة الفصّلية الأخرى فتم طلاقها من أخي وعادت إلى أهلها». وتتساءل الدكتورة سندس عباس مدير عام معهد المرأة القيادية، إحدى منظمات المجتمع المدني في العراق: «هل المرأة الفصّلية شعيرة جاهلية لم تستطع القبائل التخلص منها، أم أنها ظهرت في عصور متأخرة؟ إن هذه النظرة الدونيّة للمرأة في الأعراف العشائرية تلاحقها حتى بعد موتها، إذ اعتادت العشائر على إقامة مجالس الفاتحة عند وفاة أحد من أفرادها. يرفعون بيرق العشيرة، وهو رمز له مكانة مهيبة بينهم، إذا كان المتوفى رجلا ولا يرفعونه في حالة وفاة امرأة وحتى لو كانت أم شيخ العشيرة». ويرى الشيخ دحام ساجد المرزوق (76 عاماً) أن المرأة الفصليّة من العادات العشائرية التي ظهرت إبان عهد الدولة العثمانية، نافياً وجودها في العصور التي سبقت ظهور الإسلام، قائلا «إن الإسلام منح المرأة الكثير من الحقوق وهذب مكارم الأخلاق التي كانت سائدة في مجتمع الجزيرة العربية ومنها تحريم وأد البنات». وأضاف: «الدولة العثمانية اهتمت بشكل خاص بالعشائر لكسب ودها لترسيخ سيطرتها وخاصة في مناطق جنوب العراق الذي شهد بعض الاضطرابات والفتن ومن بين تلك الرعاية توزيع البيارق الحمراء التي تحمل النجمة والهلال على كل العشائر ولا زالت بعض العشائر تحتفظ بها حتى الآن باعتبارها أحد رموزها. فيما قامت بعض العشائر بتغيير ألوانها وأشكالها بغية التميز عن غيرها». وتابع: «المجتمع وقتذاك كان فقيراً ولا يملك سيولة نقدية ميسورة من الليرة الذهبية وهي العملة السائدة. كانت نادرة جداً ولهذا استعاضت العشائر في تسوية نزاعاتها بالتعويض عن المال بالنساء والإبل والماشية». ويوضح المرزوق على أن ذكورية المجتمع العشائري استساغ طريقة الحصول على النساء إضافة إلى اعتبار النساء عنصر إنتاج في الريف، وهكذا أصبح فضّ المنازعات بين العشائر بواسطة المرأة الفصليّة التي اتخذت من الفصل العشائري اسماً لها، إلا أن المفهوم تطور مع الزمن. فمن عدم توفر النقد إلى رمزية الإهانة والنيل من عشيرة القاتل وإظهار قوتها وقدرتها على انتزاع حقوقها. ويتابع المرزوق: «إن المرأة الفصليّة انحسرت كثيراً في المجتمع لكنها باقية وخاصة في القرى والمدن الصغيرة والأحياء الشعبية بالمدن الكبيرة، مع ظهور الدعوة من العقلاء والمشايخ ورجال الدين بضرورة معاملة المرأة الفصليّة معاملة حسنة باعتبارها لا ذنب لها عما جرى من مشاكل بين عشيرة أهلها والعشيرة الأخرى».