الحياة بدون.. الكاديلاك والشفروليه

هل تفلس «جنرال موتورز» التي تحولت من عربات تجرها الجياد.. إلى رمز لأميركا والفخامة الأميركية ؟

جنرال موتورز ليست فقط شركة عربات بل رمز اميركي للفخامة وأسلوب الحياة المترف (« الشرق الاوسط»)
TT

«تعال إلى الفخامة الأميركية، تعال إلى جنرال موتورز». هكذا كانت تقول إعلانات في ملصقات كبيرة منذ ستينات القرن الماضي. تلك الإعلانات التي تتحدث عن البذخ الأميركي في مجال السيارات، ظلت منتشرة حتى التسعينات في كثير من المدن حول العالم. «جنرال موتورز» أو «جي إم» لم تكن مجرد أنواع من السيارات، بل بقيت في أذهان كثيرين، فخر الصناعة الأميركية، ورمزا للحياة الأميركية المرفهة. لأن سيارات «جنرال موتورز» أو «جي إم» ليست سيارات فقط، بل هي احيانا شقة صغيرة باذخة تتحرك. يتذكرها كثيرون كما يتذكر آخرون «التبغ الفرجيني الفاخر»، قبل أن يتم تضييق الخناق على التدخين والمدخنين. لكن فخر الصناعة الأميركية هذه راحت تترنح في الفترة الأخيرة، إلى حد أنها وقفت تماما على حافة الإفلاس، ولولا تدخل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، التي طلبت من المجموعة أن تغير كل شيء وخلال 60 يوما، لكانت «جي إم» أصبحت جزءا من تاريخ أميركي مضى، مقابل صفقة إنقاذ مالية هائلة. مجموعة جنرال موتورز، التي انطلقت عام 1908، أي قبل قرن كامل من الزمان، تنتج عدة أصناف من السيارات، وهي جميعا تعد رمزا للفخامة والوفرة، إلى حد أن كثيرين يعتقدون أن المجموعة تنافس نفسها، إذ أنتجت «بيوك» و«كاديلاك» و«شفروليه» و«جي إم سي» و«هولدن» و«همر» و« اوبل» و«بونتياك» و«وفوكسهال».

ظلت سيارات هذه المجموعة العملاقة تتصدر المبيعات على مستوى العالم منذ عام 1931 حتى 2007، أي على مدى 77 عاما ظلت «جي إم» تتربع على عرش الشركة الأغنى في العالم، باعتبارها المجموعة التي تبيع أكبر عدد من السيارات، إلى أن اختطفت تويوتا اليابانية منها هذه المكانة. مصانع المجموعة توجد في 34 دولة حول العالم، وتشغل شركاتها 252 ألف شخص في العالم، في حين توجد رئاستها في ديترويت في ولاية ميشغان في شمال الولايات المتحدة.

أسس المجموعة وليام كرابو ديورانت، عام 1890، لإنتاج العربات التي تجر بالخيل، وقبل أن تظهر السيارة التي تعمل بالمحرك، التي اخترعها الألمان. لكن هذه الصناعة عندما انتقلت إلى أميركا اعتمدت ما يسمى تصنيع السيارات عن طريق «خط الإنتاج»، وهي فكرة ابتكرها هنري فورد، مؤسس شركة «فورد» لصناعة السيارات، واستفادت منها مجموعة «جنرال موتورز» في وقت لاحق. والطريف أن فورد جاب العالم في بدايات القرن الماضي، ولم يجد أفضل من العرب لتحمل الإرهاق، الذي يتسبب فيه التركيز من خلال التصنيع عن طريق «خط الإنتاج»، حيث يجلس أو يقف العمال أمام خط الإنتاج، ويتولى كل عامل إضافة قطعة أو تثبيت جزء من السيارة، حتى تكتمل عملية التجميع. وكان هنري فورد زار منطقة الشرق الأوسط عام 1914، ولاحظ مثابرة وقوة تحمل العمال في منطقتي الشام واليمن، فقرر جلب العمالة من هناك، وهكذا بدأت الأفواج الأولى من المهاجرين اللبنانيين واليمنيين في الوصول إلى ديترويت، وتزايدت هجرتهم بعد أن بدأت الشركات الثلاث الكبرى، وهي «جنرال موتورز» و«فورد» و«كيسلر» بتطبيق نظام خط الإنتاج الواحد للسيارات. وأغلب أفراد الجالية العربية في ميشغان من اللبنانيين واليمنيين والفلسطينيين والأردنيين والعراقيين (معظمهم من الكلدان) والمصريين. وكان تعداد هذه الجالية تضاعف في الستينات أثناء حرب فيتنام، حين اضطر عدد كبير من الأميركيين إلى الذهاب إلى القتال هناك، وبدأت معظم المصانع تعاني نقصا في العمالة، مما دفع شركات السيارات إلى جلب عمالة من منطقة الشرق الأوسط.

انطلقت جنرال موتورز بإنتاج سيارة «بويك» ثم أنتجت «كاديلاك» و«اكولاند»، إضافة إلى ذلك، قامت بتصنيع الشاحنات، وبدأت بشاحنة «ديلكو». ثم تعرضت الشركة إلى هزة مالية عام 1910، مما أدى إلى دخول مستثمر جديد هو لويس شفروليه، واستطاع مع المؤسس وليام كرابو ديورانت، السيطرة من جديد على «جنرال موتورز» عام 1915، لكن دويرانت كان يتدخل في جميع التفاصيل، بما في ذلك تصميم إعلانات الصحف ورسم شعار الشركة، إلى أن أجبر عام 1920 ليترك الشركة من جديد.

ومن بين الأخطاء الجسيمة، التي ارتكبها دويرانت، التوجه نحو إنتاج جرارات للمزارعين في السهول والبراري الأميركية، الذين اعتادوا استعمال الدواب وخاصة الجياد في أعمال الزراعة، إذ قام بتصنيع جرار أطلق عليه اسم «الحصان الحديدي»، وفشل ذلك الجرار فشلا ذريعا، لأن المزارعين الأميركيين لم يتركوا طرقهم التقليدية في العمل داخل مزارعهم. وفي عام 1927 قبل سنتين مما يعرف بالكساد الكبير، استطاعت «جنرال موتورز» أن تحقق قفزتها الكبرى، حيث فاقت مبيعاتها من السيارات لأول مرة مبيعات شركة فورد العريقة. أصبحت جنرال موتورز تنمو مع تعاقب السنين، وبعد الحرب العالمية الثانية خاصة في مطلع الخمسينات، أصبح اختصار الاسم باللغة الإنجليزية GM يتطابق في أذهان الناس مع صورة «إمبراطورية» ناشئة تجتاح العالم عبر مشروب «كوكاكولا» والسيارات الكبيرة الفاخرة والمنازل الضخمة وشاشات التلفزيون العملاقة. أي كل ما هو كبير وضخم وفخم. وراحت المجموعة تتمدد داخل أروقة السياسة الأميركية الداخلية، ليبادر الرئيس الأميركي ادويت ازينهاور، عام 1953 إلى تعيين تشارلس اروين ويلسون، رئيس مجموعة جنرال موتورز، وزيرا للدفاع.

وعندما سئل اروين ويلسون، أمام لجنة فرعية في مجلس الشيوخ في الكونغرس، كانت تبحث أمر تثبيته في المنصب، حول ما إذا كان قادرا على اتخاذ قرار كوزير للدفاع يتعارض مع مصالح شركة «جنرال موتورز»، رد ويلسون قائلا: نعم استطيع. لكنه أضاف، «لا يمكنني تصور مثل هذا الوضع». وأوضح قائلا: «طوال سنوات بقيت أعتقد أن أي قرار في صالح أميركا هو بالتأكيد في صالح جنرال موتورز والعكس صحيح».

والواقع أن «جي إم» تحولت ليس فقط إلى عملاق صناعي، بل إلى إخطبوط صناعي، بحيث أنشأت مصانع رديفة مثل مصانع المطاط والزجاج والأقمشة والراديوهات والمكيفات، بل وأنشأت حتى البنوك وشركات السياحة الفاخرة، وشركات لإنتاج المواد الموسيقية والأشرطة الغنائية، التي تستعمل في أجهزة الاستماع والمسجلات داخل السيارات. كما دخلت مجال الصناعة العسكرية لتنتج الدبابات والطائرات.

والمجال الوحيد الذي دخلته جنرال موتورز لكنها خرجت منه بسرعة قياسية هو مجال الحافلات، فقد صنعت حافلات النقل داخل المدن، والحافلات الكبيرة التي تربط بين الولايات الأميركية وتسير في رحلات تمتد من نيويورك وحتى لوس أنجليس في الغرب الأميركي، وصنعت ما عرف بالقطار الهجين وهي حافلات ضخمة وطويلة، لكن سرعان ما تخلت المجموعة عن هذه الصناعة. واكتفت بالقول وقتها بإصدار بيان مقتضب يقول: «جنرال موتورز تقرر التخلي عن تصنيع الحافلات»، دون أن تقدم أي تفسير لذلك، لكن كان واضحا أن الأمر يتعلق بالمردود أو العائد الاقتصادي. لم تتراجع «جنرال موتورز»، على الرغم من النجاحات المتوالية التي كانت تحققها منذ منتصف الثلاثينات، عن إستراتيجيتها، التي ترى أن «جي إم» تعني الفخامة، لذلك عمدت إلى تطوير سيارة «كاديلاك» لتصبح السيارة الأكثر كلاسيكية في العالم. لكن أزمات جنرال موتورز بدأت عام 2004، عندما أغلقت أحد أهم خطوط إنتاج السيارات، على الرغم من أنها شرعت في ذلك الوقت في إنتاج سيارتها «الهجين»، التي تستعمل محروقات الطاقة الكهربائية في الوقت نفسه التي تنتج بواسطة بطاريات صغيرة الحجم، وهي تستعد عام 2010، إذا اجتازت هزتها الحالية، إلى إنتاج سيارة لا تستعمل البنزين أو الديزل على الإطلاق.

حتى تخرج جنرال موتورز من أزمتها، اضطرت للتضحية بصانع ازدهارها. أي الرجل الذي قاد عمليا المجموعة من عام 1977 حيث شغل منصبا في قمة الهرم حتى الأسبوع الماضي. وعندما أبلغ ريك واجونر، الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز أن إدارة أوباما تريد رأسه، أو بطريقة أخرى استقالته، مقابل ضخ 16.6 مليار دولار في رصيد المجموعة. فقال: «أتنحى فورا عن منصبي، وإذا طلب مني أكثر من ذلك سأفعل في ظل المصاعب التي تواجهها المجموعة».

وكانت شركة جنرال موتورز وشركة كيسلر، حصلتا على مبلغ 17.4 مليار دولار من الحكومة الفيدرالية، في إطار جهود دعمهما ماليا، لكن المبلغ لم يكف، لذلك طالبت الشركتان بالمزيد، بيد أن إدارة باراك أوباما طلبت منهما خططا جديدة للإصلاح، بعد أن رفض الرئيس الأميركي الخطة التي قدمت من طرف مجلسي إدارتي المجموعة، وخص أوباما جنرال موتورز بالتفاتة خاصة، عندما قال في خطابه الذي قدم فيه خطته لإنقاذ صناعة السيارات: «لا يمكننا ولا يجب ولا يجوز أن نترك صناعة السيارات، ومجموعة مثل جنرال موتورز أن تتلاشى. هذه الصناعة دون غيرها ترمز إلى الروح الأميركية، وهي ترمز إلى النجاح الأميركي، وهي التي ساهمت في بناء الطبقة الوسطى واستمراريتها خلال القرن العشرين، ومما يبعث على الفخر العميق لأجيال من العمال الأميركيين أن خيالهم وعملهم الجاد هو الذي أدى إلى صناعة أفضل أنواع السيارات في العالم، إنه الأعمدة التي قام عليها اقتصادنا، وحققت أحلام ملايين الناس». كلمات أوباما تؤشر على ما تمثله جنرال موتورز من قيمة معنوية في حياة الأميركيين.

لكن ما الذي جعل هذا التراث الأميركي يترنح؟

يقول الخبراء: إنه عندما ارتفعت أسعار السيارات رباعية الدفع في أوائل التسعينيات، حولت «جنرال موتورز» جهودها بعيدا عن سوق السيارات رخيصة الثمن، التي يشتريها أصحاب الدخول المحدودة. وفي الوقت الذي أدى ذلك إلى تحقيق أرباح ضخمة في التسعينيات، فإنه سمح في الوقت نفسه للشركات الأخرى مثل تويوتا وهوندا ونيسان بالهيمنة على سوق السيارات الصغيرة. أي أن اليابانيين تحركوا وملأوا الفراغ الذي تركته «جنرال موتورز» و«فورد» و«كيسلر». كما أن «جنرال موتورز» لم يعد في وسعها الاعتماد على مستهلكين محليين، يدفعهم الولاء الوطني للتغاضي عن عيوب سياراتهم. وأصبحت السيارات الأميركية عرضة بشكل مقلق إلى الخلل، ففي أسبوع واحد اضطرت «جنرال موتورز» لاستعادة 783 ألف سيارة بسبب مشكلة في أنظمتها الكهربائية. واتبعت «جنرال موتورز» مستوى عال من الرفاهية وأنظمة الرعاية الصحية لموظفيها وأصحاب المعاشات. وتعتبر أكبر شركة سيارات في العالم تشتري الأدوية الطبية للعاملين معها. وعلى خلاف الشركات الأميركية الأخرى، فإن «جنرال موتورز» تستند إلى الأرباح التي تحققها في الأعمال التجارية غير الأساسية مثل الخدمات المالية. وتحقق الشركة ضعف المكاسب المالية من ذراعها المالي مثل صنع السيارات، ويمكن فهمها بشكل أفضل على أنها بنك من الدرجة الأولى، ملحق به شركة سيارات من درجة أقل.

ولعل من مفارقات صناعة السيارات في أميركا، وبالنسبة لشركة «جنرال موتورز» على وجه الخصوص أن الشركات التي كادت أن تطيح بسنوات الازدهار في ديترويت وولاية ميشغان، ما هي إلا شركات يابانية. ويتخوف الكثيرون من أن يكون العصر الذهبي لولاية ميشغان ولى إلى غير رجعة. لكن عودة «جنرال موتورز» بعد خطة الإنقاذ سيجعل الأميركيين يحافظون ليس على هذه المجموعة العملاقة، بل على قطعة نفيسة من تاريخهم، وطريقة حياتهم التي صنعت «الحلم الأميركي».