حرب.. بيشا

تخريب لوحات الإعلانات في شوارع القاهرة ليس «بلطجة» فقط بل يحمل هموماً اجتماعية واقتصادية.. ونفسية أيضاً

طمس وتشويه الإعلانات بات مشكلة في مصر («الشرق الأوسط»)
TT

من شارع كورنيش المعادي بالقاهرة حيث تتلألأ أضواء لوحات الدعاية الإعلانية للعديد من الشركات والمستشفيات ودور السينما والمسارح، والسلع الخدمية، يترجل شاب يشتهر باسم «بيشا» في تلك المنطقة الفاصلة بين النوادي النيلية وأبراج السكن والخدمات الراقية، وبين شوارع ضيقة ومظلمة وغير مرصوفة. يواصل «بيشا» المشي على التراب والقمامة متخطياً مياه الصرف الصحي، حتى يصل لبيته في شارع عبده العظيم في منطقة جزيرة دار السلام. أمضى «بيشا» ستة أشهر في السجن بعد إدانته وآخرين بتكسير لوحات إعلانية لأحد المستشفيات الاستثمارية. لكن ظاهرة الاعتداء على لافتات الدعاية هذه لم تتوقف لأن الأمر يبدو أنه يتعلق بحرب شاملة يختلط فيها الحابل بالنابل، ما بين منافسات شركات ورجال دين وسلوكيات تخريب لمجرد التخريب أو كرد فعل على الإحباط أو البطالة أو السخط العام من كل شيء. ردت شركات الإعلانات في القاهرة على حملة التخريب ضدها بإجراءات باهظة الثمن، لحماية لوحاتها الإعلانية، سواء بزيادة المسافة بينها وبين الأرض، أو بوضع سواتر حديدية عليها في مشهد فريد من نوعه، إذ تجد لوحة الدعاية لأي منتج وقد تألقت بالأنوار حولها، لكن في الوقت نفسه محاصرة وسط سواتر من الحديد لمنع الأيادي من تمزيق الورق أو تلطيخه بالألوان أو الكتابة عليه. لم يكن «بيشا (23 سنة)» مسؤولا وحده عن تكسير لوحات الدعاية أو طمس وجوه الشخوص المصورة عليها، أو حتى خلع ما فيها من أدوات ومصابيح كهربائية. و«بيشا»، الذي لم يكمل تعليمه في المرحلة الابتدائية، ويعمل في نقل مواد البناء، على كتفيه، للطوابق العليا، قال إن المحامي الذي ترافع عنه أخبره أنه كان أمام إحدى تهمتين، إما الإرهاب، على أساس أنه يحطم الإعلانات مثل آخرين من المتشددين الدينيين الذين كانوا يطمسون صور الأشخاص من لوحات الدعاية الموجودة على الأرصفة، أو بتهم أقل جرماً منها الاعتداء على ممتلكات الغير. وقال «بيشا» إنه اعترف في التحقيقات بأنه حطم الإعلان دون أن يقصد في مشاجرة بينه وآخرين، بالحجارة والعصي على رصيف الكورنيش، بالقرب من برج القانونيين، لخلافات في العمل. لكن بيشا، الذي طلب ألا يذكر اسمه الحقيقي، يقول، بعد نحو أسبوعين من الخروج من السجن، إن حكاية المشاجرة اختلقها محاميه لتخفف العقوبة عنه «أنا كنت تعبت من الشغل في المعمار، وكنت أبحث عن شغل آخر.. أنا كنت أعرف أن هناك شباناً يشتغلون شغل سهل ويكسبون، وبدأت العمل معهم».

ويشرح «بيشا» إن أحد المستشفيات الاستثمارية الموجودة على كورنيش النيل، كان يريد عمالا للشغل لمدة يومين، مقابل ستين جنيهاً في اليوم، وأنه حين التحق بالعمل كانت مهمته مع «شبان آخرين محترفين في هذا العمل، طمس معالم إعلانات كان يجري وضعها على الأرصفة المجاورة للمستشفى بكورنيش النيل، وتتعلق بالدعاية لمستشفى منافس له مقار موجودة في ضواح أخرى بعيدة عن كورنيش المعادي. ويقوم بيشا ومن معه بهذه المهمة في «الأوقات الميتة» أي قبيل الفجر بقليل. ويضيف أنه بعد خروجه من السجن، وجد زملاء المهنة الجديدة يطرقون بابه لمهمة عمل مماثلة لكنها مختلفة، يريد فيها إمام مسجد صغير (أهلي غير خاضع لإشراف الحكومة)، في منطقة المعصرة، جنوب مدخل المعادي القديمة، التخلص من صور نساء يرتدين ملابس البحر موجودة على لوحات دعائية لشركة تقوم بإنشاء منتجع بالساحل الشمالي.

وكانت المهمة التي تم تنفيذها تتلخص في رش الأجزاء العارية في تلك الصور بالطلاء «طول الليل قعدنا نرش.. كنا ثلاثة.. واحد يراقب الشارع، وأنا وزميلي نرش البوية.. كان الإعلان عليه بنت لابسة مايوه ورجل لابس شورت.. نرش الاثنين أسود في أسود، ونمشي.. لكن أنا خفت وبطلت، ورجعت لشغل المعمار أضمن.. كما أن إمام الجامع أعطاني خمسة جنيهات وقال إن هذا الشغل لوجه الله». تقول شركات الدعاية والإعلان في مصر إنها لا تعاني فقط من تصرفات كتلك التي ينفذها «بيشا» والمئات غيره، خاصة في المناطق الفاصلة بين الضواحي الثرية والنظيفة والمنظمة، وتلك الفقيرة والمتسخة والعشوائية. وحين واجهت مدير شركة «أدهم جروب للدعاية والإعلان»، محمد سامي، مشكلة تكسير الواجهات، خاصة اللافتات القريبة من الأرض، وهي اللوحات الموجودة عادة على الأرصفة على جانبي الشارع، لجأ لوضع شبك حديد، موضحاً «نضع سلك حديد على اللوحة الإعلانية.. هذا السلك يكون ظاهراً ويمكن رؤيته بالعين المجردة، لكن في الليل لا تظهر هذه الأسلاك الحديدية بسبب الإضاءة، وهو ما يزيد من وضوح الإعلان. مشكلة استهداف الإعلانات تسببت في أزمة لشركتي، ولشركات أخرى، لكن، وبمرور الوقت أصبحت أتغلب على هذه الظاهرة.. وكذلك نفكر في بدائل أخرى، فبالإضافة للشبك الحديد أصبحت بعض الشركات تلجأ لحيل أخرى، منها أن يتم زيادة المسافة بين اللوحة الإعلانية والطول المعتاد لقامة الشخص.. بعض الشركات أصبحت تستأجر مساحات على أعمدة الضوء وتضع عليها الإعلانات بعد تصغير حجم اللوحة لتتناسب مع هذه الأعمدة».

وإضافة إلى قصة «بيشا» وأقرانه، يعتقد محمد سامي أن السبب وراء تكسير لوحات الدعاية يرجع لعدة أسباب، يخص كل منها شريحة معينة من هذه اللافتات. الأولى تتعلق بلافتات الدعاية التي تقع بالقرب من التجمعات الدراسية، مثل المدارس الثانوية والجامعات، وفي الفترة الأخيرة، لوحظ أن التكسير أو الكتابة على اللوحات الإعلانية يكون عادة عند خروج الطلاب في وقت ما بعد الظهيرة وبأعداد كبيرة من مدارسهم وجامعاتهم «بعضهم يتعمد قذف اللوحة الإعلانية الزجاجية بالحجارة.. أعتقد أن هذا مجرد رغبة في التكسير، وبعضهم يكتب اسمه أو اسم حبيبته على طول الإعلان الأساسي وعرضه، بلون أحمر أو أسود، أو أخضر، مما يؤدي إلى تشويه الإعلان.. والبعض الآخر من هؤلاء الطلاب يتخذ من اللوحة الإعلانية ساتراً في معاركهم بالحجارة والعصي».

ويضيف محمد سامي أن الشريحة الثانية من اللافتات التي تتعرض للاعتداء هي تلك التي تقع بالقرب من المناطق العشوائية (غير المخططة) ذات الغالبية الفقيرة «يقوم أحدهم في الصباح الباكر بنزع الغطاء الخارجي للوحة الإعلانية، والاستيلاء على ما فيها من مصابيح وأسلاك كهربائية ولوحات زجاجية.. وإعادة بيعها للحصول في مقابلها على عشرين جنيها أو ثلاثين جنيهاً، بينما قيمة اللوحة التي تم الاعتداء عليها وتخريبها تبلغ تكلفة الواحدة منها نحو ألف جنيه». ويتابع محمد سامي قائلا إن هناك شريحة أخرى من لوحات الدعاية التي تتعرض للاعتداء عليها وهي تلك التي تقع بالقرب من مقار لشركات تنتج أو تبيع سلعاً منافسة أو تقع هذه اللافتات في نطاق حملة دعائية لإعلانات تخض منافسين تجاريين آخرين. أما الشريحة الرابعة التي تتعرض للتخريب، وخاصة طمس صور وجوه الأشخاص من على اللافتات.. فهذه الظاهرة تنتشر في المناطق التي يكثر فيها التشدد الديني خاصة في جنوب القاهرة.. تضع لوحات إعلانية عليها صورة وجه امرأة تأكل قطعة شيكولاتة، وفي اليوم التالي تجد أحدهم رش وجهها باللون الأسود أو الأخضر، ورش يديها أيضاً». «تشويه اللوحات الإعلانية أصبح ظاهرة، وإصلاح ما يحدثه المخربون، أياً كانوا، مكلف للغاية، ولهذا بدأت شركتنا، مثل شركات أخرى، بوضع شبك من الحديد على غالبية إعلاناتنا».. يوضح جمال أحمد علي، مدير شركة النزهة الحديثة لتركيب لوحات الدعاية والإعلان. ويضيف قائلا «الأمر يشبه أن يقوم مجهول بخلع المرآة الجانبية لسيارتك أو حفر خطوط بمِدْيَة على جسم (صفيح) السيارة المتوقفة في الشارع.. أولا من الصعب تتبع من قام بهذا الفعل أو معرفة هويته.. ثانياً لا يمكن لشركات الدعاية أن تغير من خططها الإعلانية بين يوم وليلة.. وثالثاً لا يمكن أن نتقدم ببلاغ للشرطة مع كل لوحة إعلانية يتم الاعتداء عليها سواء بطمسها بالطلاء أو سرقة محتوياتها أو تحطيم زجاجها ونزع محتواها».

فايز عبد العليم، المدير التنفيذي لشركة إعلانات «ديزاين»، يُرجع سبب «تخريب» الإعلانات لسلوكيات نابعة من أناس لا يقدّرون حجم الأضرار الكبيرة التي يسببونها للآخرين، ويقول إن «البعض يفتح لوحة الإعلان للحصول على المعدات الكهربائية التي تضيئها ليلا.. يأخذون منظم التيار الكهربائي والمصابيح.. البعض يشخبط على الإعلان لطمس معالمه.. شركتنا لم تتقدم ببلاغات.. كما أنه ليس من المعقول أن تخصص السلطات شرطياً بجوار كل لوحة إعلان.. كما أنني لا أظن أن طمس وجوه الأشخاص من إعلانات الشوارع له سبب ديني.. أرى أن هذا مجرد رغبة في التكسير». البعض يرى أن الموضوع لا يرتبط باللوحات الإعلانية التي تتعرض للتخريب في الشارع فقط، مشيرين إلى أن الأمر يبدو وكأنه حالة من الرغبة في تخريب الأشياء من أناس مثل «بيشا»، وأقرانه، ممن أفرزتهم حالة العوز والفقر وغياب الكثير من الخدمات الاجتماعية الأساسية، أو كما قال أحد الخبراء.. «مثل هؤلاء أقدامُهم في مستنقع الفقر، ورؤوسهم تطل على عالم الثراء»، خاصة أن المناطق العشوائية في القاهرة فقط يبلغ عددها نحو 60 منطقة يقطنها حوالي مليوني نسمة.

الدكتورة هناء الجوهري، أستاذة العلوم الاجتماعية تقول إن الاعتداء على اللوحات الإعلانية، يأتي ضمن تصرفات كثيرة غريبة عن المصريين، أفرزتها تقلبات اقتصادية واجتماعية وسياسية.. متسائلة بقولها: ما الذي يدفع رجلا لتقطيع جلد مقعد يجلس عليه في الحافلة العامة التي تقله إلى عمله وبيته كل يوم.. وأي دافع هذا الذي يجعل عمالا يقتلعون قضبان سكك حديدية يسير فوقها قطار يحمل ذويهم من مكان لمكان.. أو رش الطلاء لتشويه رسومات فرعونية في محطة مترو التحرير بوسط العاصمة، أو تحطيم لوحات إرشادات تعرض هواتف مراكز طبية متخصصة لمساعدة المرضى.

الدكتورة الجوهري تذهب أيضاً إلى أن استهداف البعض للوحات الدعاية الإعلانية يعتبر من السلوكيات الصغيرة، التي تنبئ عادة بما يمكن أن يأتي من أحداث كبيرة «فهناك ما هو أسوأ من طمس الرسوم والصور الجمالية، أو الشخبطة على أبواب المرافق العامة.. وجدتُ ظاهرة غريبة في منطقة بشرق القاهرة تتعلق باستيلاء مجهولين على كل ما تضعه الحكومة من معدات خاصة بمشروعات، كمواسير مياه أو كابلات كهرباء.. بل إن ماكينة (جهاز طرد) صرف صحي سرقت بالكامل، مشيرة إلى أن القوانين ليست لها الهيبة الكافية لردع هذا السلوك الإجرامي أياً كان اسمه. وبينما يصنف البعض الحرب على اللوحات الإعلانية باعتبارها نوعاً من أنواع الـ«بلطجة» التي أفرزتها المناطق السكنية العشوائية، القريبة من قلب المدينة، يصف البعض مثل هذا السلوك بأنه «إرهاب ضد الآخرين»، سواء كانوا أصحاب شركات إعلانات أو حتى مواطنين عاديين، لكن أستاذة القانون الجنائي، الدكتورة سلوى بكير، ترى أن السلوك العنيف ضد ممتلكات الآخرين، بداية من تكسير لوحات دعائية إلى إلقاء زجاجات حارقة في محطة مترو أنفاق، أو حتى إلقاء قنبلة بدائية الصنع على السياح، كما حدث في القاهرة أخيراً، يرجع إلى «الحالة الاقتصادية العامة في البلاد طوال عدة عقود.. هذا دافع قوي لوجود مثل هذه الظواهر الإجرامية سواء كانت إرهاباً أو بلطجة».

وأضافت: «لو أوجدنا فرص عمل كافية، لانتهى كل هذا العنف. بعض الناس ليس لديهم دخل مالي يكفيهم لشراء الطعام.. الموظف (الحكومي) مثلا، يحصل على راتب في بداية حياته 250 جنيهاً (نحو 45 دولاراً) أو 300 جنيه شهرياً؛ فكيف يعيش وينفق على المواصلات ذهاباً وإياباً.. الغريب أن هذا الأمر لم يعد يثير الاستهجان». أو كما ترى داليا زيادة، وهي فتاة مصرية تشغل موقع مديرة مكتب الكونغرس الأميركي الإسلامي بشمال أفريقيا، ومقره القاهرة، بقولها إن كافة أشكال العنف التي يعاني منها المجتمع المصري اليوم.. «نابعة من القمع الذي أصبحنا نعانيه على المستويين الاقتصادي والسياسي. والحل في رأيي هو توفير الفرصة الكريمة والحياة الكريمة للشباب الذي يدفعه الفراغ والشعور بالضآلة إلى احتراف البلطجة أو الإرهاب»، خاصة في المناطق العشوائية. وقبل أن يختفي بيشا في اتجاه زقاق من أزقة جزيرة دار السلام حيث القمامة والصرف الصحي والطرق الترابية، أكد مجدداً أنه تقاعد عن تأجير نفسه لخوض حروب البعض ضد لوحات الدعاية الإعلانية، مشيراً إلى أن هذا لا يعني أن مثل هذه الحروب يمكن أن تتوقف قريباً، لأنها تستقطب مزيداً من العاطلين. أما على طريق كورنيش المعادي، حيث تعلو الأبراج السكنية المضيئة، والمستشفيات والنوادي من فئة الخمس نجوم، فيمكن أن ترى سيارة تابعة لشركة من شركات الدعاية تقف جوار الرصيف وعمالا ينزلون منها لوضع أسلاك حديدية على واجهات الإعلانات، لحمايتها من عبث جنود لأعداء غير مرئيين.