شيعة باكستان.. فوق صفيح ساخن

الأقلية الشيعية بدأت تُستهدَف بتفجيرات انتحارية داخل البلاد.. وملامح توترات طائفية بدأت ترتسم

باكستانيون شيعة يحتفلون بعاشوراء في موري بشمال إسلام آباد (أ.ب)
TT

من الواضح أنه ليس هناك من عناصر مشتركة تربط بين الشيعة داخل باكستان، والدبلوماسيين الغربيين في إسلام أباد. إلا أن الجانبين يشتركان في تهديد مشترك يواجههما. فكما هو الحال مع الدبلوماسيين الغربيين، أصبح الشيعة الباكستانيون يستهدَفون على نحو متنامٍ من قبل التفجيريين الانتحاريين وغيرهم من الإرهابيين والمسلحين داخل المناطق الحضرية الباكستانية.

ومنذ بداية العام 2009، وقعت ثلاث هجمات انتحارية كبرى ضد تجمعات دينية شيعية في مدن باكستانية، أدت إلى مقتل العشرات. وقعت اثنتان من هذه الهجمات في مدينتي البنجاب ديرا غازي خان ومدينة جكوال، حيث يتركز عدد كبير من الشيعة. وللمدينتين تاريخ مليء بالتوترات الطائفية. وقد استهدف التفجير الانتحاري الثالث ديرا إسماعيل خان، وهي مدينة صغيرة أخرى تقع بالإقليم الحدودي الشمالي الغربي الواقع بالمناطق القبلية الباكستانية، حيث تفاقمت التوترات الطائفية مؤخراً إلى مستويات مثيرة للقلق. ولكن التفجيرات الانتحارية ليست التهديد الوحيد أمام المجتمع الشيعي داخل باكستان، حيث تولت جماعة «طالبان» قيادة هجمات مسلحة ضد المناطق النائية التي تقطنها أغلبية شيعية. وتزعم المنظمات الدينية الشيعية وقوع ثمانية اغتيالات لقيادات بارزة وشخصيات عامة شيعية منذ بداية العام 2009 بأرجاء مختلفة من البلاد. وبوجه عام، لا تعد التوترات الطائفية داخل المجتمع الباكستاني بالأمر الجديد؛ إلا أنه منذ العام 1979، عندما تزعم رجال الدين الشيعة ثورة في إيران المجاورة، ظهرت تحولات في طبيعة المجتمع الشيعي، ودُفع للخوض في العمل السياسي. ومن ثم تفاقمت التوترات الطائفية داخل باكستان. ومنذ قيام دولة باكستان في العام 1947، اتسمت الأقلية الشيعية على المستوى الديني بكافة الخصائص المميزة لأقلية دينية داخل المجتمع الباكستاني الذي يغلب عليه السنة. ونظراً لما تحظى به من مؤسسات دينية منفصلة واحتفالات دينية خاصة (تطورت على امتداد قرون عدة داخل شبه القارة الهندية)، احتفظت الأقلية الشيعية بهوية مميزة على المستوى الديني دون الإشارة إليها علانية من قبل الدولة الباكستانية على أنها أقلية. وفيما يخص أعداد الشيعة الباكستانيين، فقد بقيت هذه المسألة قيد التكهنات بسبب عدم تعامل عمليات الإحصاء السكاني المتعاقبة معهم باعتبارهم مجموعة مميزة عن السكان المسلمين الآخرين الذين يشكلون التيار الرئيس بالبلاد. وبوجه عام، تتراوح التقديرات الخاصة بأعداد الشيعة بين 5 في المائة و15 في المائة من إجمالي السكان. وفي هذا الصدد، يقول عبد الجليل ناقوي، المتحدث الرسمي باسم «تحريك الجعفرية»، وهي منظمة دينية سياسية تدعي أنها تمثل الشيعة الباكستانيين: «الأمر برمته محض تكهنات وليس بوسعنا أن نحدد بشكل دقيق، إجمالي عدد أبناء الأقلية الشيعية في باكستان. البعض يقول إنهم يشكلون 15 في المائة وآخرون يرون أنهم أكثر من ذلك». ومع ذلك، نجد أنه على الصعيد السياسي، تمكن الشيعة من الاندماج بصورة جيدة داخل المجتمع خلال السنوات الأولى من عمر الدولة الباكستانية. ويعود الأمر بصورة رئيسة إلى بعض الشخصيات الشيعية الرائدة في إطار نضال المسلمين للاستقلال داخل شبه القارة الهندية. والملاحظ أنه على الصعيد الثقافي، ظل المجتمع المسلم داخل شبه القارة الهندية خلال سنوات الحكم البريطاني، متأثراً بقوة بالفكر الديني الشيعي. ومن بين الأمثلة الجلية على ذلك، النفوذ الشيعي على الحياة الثقافية للمجتمع المسلم في الهند تحت الحكم البريطاني، الأمر الذي انعكس على استخدام الشعراء في الأدب الأوردي، الصور المجازية الدينية الشيعية. واليوم نجد أن الشعراء الباكستانيين يكثرون من استخدام الصور المجازية الدينية الشيعية في أعمالهم الأدبية الرومانسية والسياسية الثورية على حد سواء. وفي الوقت الحاضر، يتمتع الأفراد الشيعة بمستوى جيد من التمثيل داخل كافة المهن البارزة بالمجتمع. وهناك شخصيات شيعية سياسية بارزة داخل الأحزاب التي تمثل التيار الرئيس في البلاد، ويشغل الشيعة مناصب كبرى داخل المؤسسة العسكرية والهيكل البيروقراطي المدني، علاوة على وجود عدد من الصحافيين الشيعة البارزين. إلا أن الأمور بدأت تأخذ منحنى دراماتيكياً في أعقاب الثورة التي اندلعت في إيران في العام 1979، عندما تزعّم رجال الدين الشيعة ثورة إيرانية دفعت بالمجتمع الشيعي الباكستاني باتجاه خوض العمل السياسي، وبدأ أفراده في إقامة منظمات سياسية خاصة بهم. وشهد عقد الثمانينات تنامياً هائلا في أعداد المنظمات الدينية والسياسية الشيعية داخل باكستان، مع مطالبة الشيعة الحكومة الباكستانية بإعطائهم حقوقاً دينية وسياسية مميزة. ووضع أحد الباحثين المرموقين، محمد أمير رنا، قائمة تضم 33 منظمة شيعية دينية وسياسية جرى تشكيلها بباكستان في أعقاب اندلاع الثورة الإيرانية. ونشطت غالبية هذه المنظمات بالمجال السياسي، علاوة على النشاطات الطائفية. وتتمثل إحدى هذه المنظمات في منظمة الإمامية الطلابية التي أقامت علاقات وثيقة مع المؤسسة الدينية في إيران بعد ثورة العام 1979. وغالباً ما جرى وصف المنظمة بأنها أكثر المنظمات الشيعية نفوذاً بباكستان. وتم إنشاء المنظمة على يد عدد من الطلاب الشيعة بكليات الطب والهندسة في لاهور في العام 1972. ولا تزال المنظمة نشطة للغاية داخل المؤسسات التعليمية الباكستانية. وطبقاً لأحد الخبراء المعنيين بمنظمة الإمامية الطلابية، فإن المنظمة تعد الأولى في باكستان التي توفر الدعم للثورة الإيرانية. وفي أواخر السبعينات، نظمت المنظمة مظاهرات ضد الشاه في مدن باكستانية. كما اعتادت على إرسال أعضائها لإيران للدراسة بعد العام 1979. وفي ظل التأثير القوي للثورة الإيرانية، شرع المجتمع الشيعي الباكستاني في السعي وراء اكتساب هوية سياسية مميزة مع صياغة المنظمات الممثلة له خططاً لعرض مطالب سياسية ودينية على الحكومة الباكستانية في الثمانينات. وعندما أقر الحاكم العسكري الباكستاني، الجنرال الراحل ضياء الحق، قانوناً جديداً في الثمانينات لفرض خصم الزكاة من أموال كل المسلمين، نظمت «تحريك الجعفرية» مظاهرة كبرى في إسلام أباد اعتراضاً على القانون، لإجبار الحكومة على إعفاء الشيعة من الخصم الإلزامي للزكاة. وتمخضت هذه الخطوة عن «اتفاق إسلام أباد» ووافقت الحكومة على طرح منهج دراسي مختلف للطلاب الشيعة داخل المدارس العامة، وأعفت الشيعة من البنود القانونية المتعلقة بخصم الزكاة من الحسابات المصرفية. وأعرب أحد كبار الصحافيين الباكستانيين الذين عاينوا هذه الأحداث كافة، عن اعتقاده بأن الإمام الإيراني الخميني اضطلع بدور مهم في التوصل إلى هذا الاتفاق، وأنه طلب الحصول على تأكيدات من الجنرال ضياء الحق بتلبية مطالب الشيعة. جدير بالذكر، أنه جرت قراءة رسالة من الخميني علانية على مسامع المتظاهرين الشيعة في إسلام أباد بهدف رفع الروح المعنوية.

وبعد هذه المظاهرة، ظهرت منظمة «تحريك الجعفرية» على الساحة العامة كممثل للمجتمع الشيعي يحظى بدعم الحكومة الإيرانية. وتلك تحديداً، هي الفترة التي شهدت بداية ظهور منظمات سنية مسلحة داخل باكستان تتبع أيديولوجيات علانية مناهضة للشيعة. وخلال التسعينات، شهدت باكستان موجة مكثفة من أعمال العنف الطائفي، حيث قادت المنظمات المسلحة السنية حملة عنيفة من أعمال القتل ضد القيادات الشيعية البارزة بالمراكز الباكستانية الحضرية الكبرى، بما في ذلك كراتشي ولاهور. وفي ظل هذا المناخ، قرر بعض أعضاء «تحريك الجعفرية» تشكيل جناح عسكري خاص بهم. وفي العام 1993، ظهرت جماعة من داخل صفوف «تحريك الجعفرية» رغبت في انتهاج العمل العسكري. وأعلن العلامة رضا غلام نقوي، رئيس «تحريك الجعفرية» داخل ديستريكت جهانغ، وهي مدينة شبه حضرية بوسط البنجاب لها تاريخ من الصدامات بين السنة والشيعة، إنشاء جماعة «جيش محمد» في العام 1993. وفي هذا السياق، قال محمد أمير رنا في كتابه «المنظمات الجهادية في باكستان» إن جيش محمد تورط في 250 عملا إرهابياً بين عامي 1993 و2001. ومع ذلك، كان للمجتمع الشيعي بباكستان نصيبه من الاختلافات والانقسامات الداخلية. وغالباً ما أسفر الاقتتال الطائفي عن وقوع اغتيالات وأعمال قتل وصور أخرى للصراعات الدينية والعقائدية. ومع تشكيل جماعة «جيش محمد»، مقرها الرئيسي في ثوكار نياز بيك، وهي منطقة شبه حضرية تقع بضواحي مدينة لاهور. وأغلب سكان هذه المنطقة من الشيعية، كما أنها اعتادت توفير الملاذ للمسلحين الفارين من أعضاء «جيش محمد» خلال مطلع التسعينات. وطبقاً لما ورد بالتقارير الإعلامية خلال التسعينات عندما أغارت الشرطة على المنطقة للقبض على قيادات «جيش محمد»، فإن تبادلا كثيفاً لإطلاق النار وقع بين قوات الشرطة ومسلحي «جيش محمد». وفي أغسطس (آب) 1996، بدأ «جيش محمد» في التفكك بمقتل زعيمه العلامة مريد عباس يزداني في روالبندي. وكشفت تحقيقات الشرطة أن القتل نجم عن خلافات نشأت بينه وبين غلام رضا نقوي، أحد القيادات الأخرى بالجماعة، وأن مقتل يزداني تم بناءً على تحريض منه. وألقت الشرطة القبض على القاتل الذي اعترف علانية بجريمته. وترتب على هذا الاقتتال الداخلي انقلاب سكان منطقة ثوكار نياز بيك الذين اعتادوا توفير الملاذ لقيادات «جيش محمد»، ضد الجماعة وأجبروا أعضاءها على الخروج من المنطقة. وكان «جيش محمد» من المنظمات المسلحة التي حظرتها حكومة الرئيس الباكستاني السابق برفيز مشرف في العام 2001. إلا أن بعض الخبراء يؤكدون أن منظمة «جيش محمد» التي تم حظرها في أغسطس (آب) 2001 مختلفة كلياً عن «جيش محمد» الذي تم إنشاؤه في العام 1996، حيث كانت الجماعة قد فقدت بالفعل الكثير من قوتها. وفي مواجهة المشكلة الأمنية الداخلية الحادة المتمثلة في الصراع بين السنة والشيعة بالمناطق الحضرية الباكستانية، اعتادت الحكومة والوكالات الأمنية الباكستانية انتقاد النفوذ الإيراني على المنظمات الشيعية السياسية والعسكرية في البلاد في التسعينات. وعمد بعض المسؤولين الأمنيين إلى تسليط الضوء على صلات مباشرة بين تلك المنظمات الشيعية والحكومة الإيرانية. ويخشى بعض الخبراء الأمنيين من أن يكون المجتمع الباكستاني على حافة التردي مجدداً في هوة العنف الطائفي الذي عصف به في التسعينات. وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، قال خبير شؤون المنظمات العسكرية الباكستانية محمد أمير رنا: «هناك احتمال قوي لظهور رد فعل عنيف وعسكري من قبل بعض أعضاء المجتمع الشيعي تجاه الاغتيالات والتفجيرات الانتحارية الموجهة ضد مجتمعهم. في التسعينات عندما انتشر قتل الشيعة في باكستان، تمثل رد فعل بعض شباب الشيعة في تشكيل جماعة «جيش محمد»، ومن الممكن حدوث ذلك من جديد». إلا أن غالبية القيادات الدينية الشيعية تنظر إلى الموجة الأخيرة من أعمال الإرهاب من زاوية مختلفة. على سبيل المثال، قال قازي نياز حسين، أحد القادة الدينيين الشيعة: «لا ننظر إلى هذا الأمر باعتباره مشكلة طائفية أو مشكلة تتعلق بالانقسام بين الشيعة والسنة. ورغم انتماء مقترفي تلك الأعمال إلى منظمات سنية مسلحة، لا نلقي باللوم على إخواننا السنة عن ذلك». وقال المتحدث الرسمي باسم «تحريك الجعفرية» في باكستان عبد الجليل نقوي، لـ«الشرق الأوسط»، إن منظمته تعتبر الموجة الراهنة من أعمال الإرهاب الموجهة ضد المجتمع الشيعي جزءًا من مشكلة أمنية أوسع. وقال: «نجابه صعوبة بالغة في إقناع أعضاء المجتمع الشيعي بالتزام الهدوء في وجه هذه الموجة الإرهابية». من وجهة نظره، يرى محمد أمير رنا، أن معظم المنظمات العسكرية بباكستان سنية وأنها تتبع أيديولوجية مناهضة للشيعة. وأضاف أن مؤشرات اندلاع توترات طائفية بدأت في الظهور بالفعل داخل مدن نائية بالإقليم الحدودي الشمالي الغربي والبنجاب، حيث يقطن المنطقة عدد كبير من الشيعة. وقال: «يمكن ملاحظة تفاقم التوترات الطائفية بمدن كوهات وديرا إسماعيل خان وديرا غازي خان النائية والمناطق القبلية في كرام». لكنه استطرد موضحاً أن المراكز الحضرية الباكستانية الكبرى مثل كراتشي ولاهور لم تتأثر بهذه التوترات. وأضاف: «لكن الموقف من المحتمل أن ينفجر وهناك إمكانية، لا قدر الله، لأن تنتشر هذه التوترات لتمتد إلى المراكز الحضرية الكبرى».