أوباما.. والوجه الآخر لأميركا

الأميركيون اختلفوا على تقييم أول جولة خارجية لرئيسهم.. واليمينيون رصدوا هفواته

أوباما يصافح شرطيا بريطانيا على مدخل «10 داونينغ ستريت» في لندن (رويترز)
TT

في كافتيريا «ناشونال اركايفز» (دار الوثائق) في إحدى ضواحي واشنطن، كانت تاريتا ويلسون، وهي من الأميركيين السود، تتناول طعام الغداء. كنت أتحدث مع تاريتا عن جولة الرئيس الأميركي باراك أوباما لأوروبا والشرق الأوسط. فقالت لي: «أنت من هناك. هل تعتقد، حقيقة، أنهم غيروا رأيهم فينا؟ لن أغفر للرئيس السابق جورج بوش ما فعل بسمعتنا في الخارج. الحمد لله، انتظرنا حتى جاء رجل أسود، الأخ باراك، ليرفع رأس أميركا في الخارج».

في جانب آخر من الكافتيريا، قال جون كوارينالي، وهو ابيض: «انا رجل ليبرالي، ولقد أعطيت صوتي للرئيس أوباما. انا سعيد لأنه يريد تغيير صورة اميركا في الخارج، لكني لست متأكدا انه سيتمكن من تنفيذ ما وعد به. انت تعيش هنا في واشنطن، وتعرف الماكينة السياسية العملاقة المعقدة، التي لا يعرف خفاياها حتى الذين في داخلها. لننتظر ونرَ». استشهد كوارينالي بمثل اميركي: كلما زادت روعته، قل احتمال ان يكون حقيقة. وقال: «هذا هو أوباما. لكن، لا تنس أعداء أوباما». وأضاف: «لا اعتقد انهم يكرهونه، ولا اعتقد ان لذلك صلة بلونه. لكنهم يعادونه سياسيا، ولا يريدون له ان ينجح. لن يقولوا انه اسود، لكنهم سيقولون انه يتودد للارهابيين والمتطرفين، وانه يهدد مصالح اميركا الاستراتيجية والامن القومي الاميركي». وسأل: «هل تسمع لمبو وهانيتي؟».

يقصد كوارينالي راش لمبو، وشون هانيتي، اللذين ينتميان الى الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، ويقدم كل واحد برنامجا يوميا في عشرات الإذاعات، ويستمع الى كل واحد عشرون مليون شخص تقريبا كل يوم. خلال جولة أوباما الخارجية التي استمرت اسبوعا، لم يمض يوم دون ان ينتقد الاثنان ما يعتبرانه جوانب سلبية: أولا: عندما وضعت ميشيل أوباما، زوجة الرئيس، يدها، توددا وتلطفا، فوق ظهر الملكة إليزابيث، ملكة بريطانيا. قال لمبو في خبث واضح: «كيف تتجرأ بنت شيكاغو على ذلك؟» كان واضحا انه يريد ان يقول: «كيف تتجرأ امرأة سوداء على ذلك؟ ثانيا: عندما انحنى أوباما، احتراما وتوددا، أمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، قال هانيتي: «لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة ان انحنى رئيس اميركي لرئيس او مللك». ثالثا: عندما اعلن أوباما من براغ انه يريد تخليص العالم من الاسلحة النووية، قال هانيتي: «لم تصدقوني، كل هذه الشهور، عندما ظللت اقول ان أوباما ساذج. ليس فقط في السياسة الداخلية وفي مواجهة الكارثة الاقتصادية، ولكن، ايضا، في السياسة الخارجية. لن استغرب عندما يعود الى البيت الابيض، ان يقول انه سيرمي كل اسلحتنا النووية في المحيط الاطلسي».

وهكذا، يبدو أن الأميركيين منقسمون، حسب انتماءاتهم الحزبية، في تقييم جولة أوباما، بعد ان تابعوها بمحطاتها الخمس: الاولى، زيارة لندن لمواجهة الكارثة الاقتصادية العالمية. الثانية زيارة ستراسبيرغ لمواجهة مشكلة حلف الناتو الحالية (أفغانستان). الثالثة، زيارة براغ لزيادة الأمل في مستقبل أكثر سلاما واقل اسلحة نووية. الرابعة، زيارة تركيا لمخاطبة العالم الاسلامي. والخامسة زيارة العراق سرا ليؤكد قرب انسحاب القوات الاميركية.

بعد المحطة الخامسة، كتبت صحيفة «واشنطن بوست» في صدر صفحتها الاولى تعليقا عنوانه: «قدم أوباما الوجه الآخر لاميركا». وقالت: «خلال جولته، قدم أوباما صورة اميركا كدولة فخورة بنفسها، لكنها تخطئ. واستعمل خليطا من التواضع والمشاركة. وقلل من المواضيع التي يختلف فيها مع الذين قابلهم، وركز على التي يتفق فيها معهم. واعترف بماضي اميركا القبيح، مثل تجارة الرقيق واضطهاد الهنود الحمر. واعترف بأخطاء الماضي القريب، مثل تعذيب المعتقلين، وقال إنه أوقفه». وأضافت الصحيفة: «في الجانب الآخر، افتخر بحرية الاميركيين وتنوعهم وتسامحهم، ومساعدتهم للأوروبيين في الانتصار في الحرب العالمية الثانية. وقال ان الولايات المتحدة، مثل غيرها من الدول، تخطئ، لكنها، خلال اكثر من مائتي سنة ظلت تحاول ان تكون دولة مثالية، وهي تدفع ثمن هذه المحاولات».

ومثل تاريتا، اهتم الكثير من الاميركيين السود بصورة خاصة بجولة أوباما، ما بين مصدق وغير مصدق. قال المصدقون ان أوباما وميشيل رفعا رأس السود، ليس في اميركا فقط، ولكن في كل العالم. ونشرت مجلة «جيت»، التي تصف نفسها بأنها «أهم مجلة سوداء في كل العالم»، موضوع غلاف آخر عن ميشيل (الرابع منذ أن فاز زوجها بالرئاسة قبل خمسة شهور). وقالت فيه: «قدمت شيري بلير، زوجة رئيس وزراء بريطانيا السابق، نصائح الى ميشيل قبل ان تقابل ميشيل الملكة إليزابيث». وأضافت: «يصفون ميشيل بأنها جاكلين كنيدي السوداء»، إشارة الى زوجة الرئيس جون كنيدي، التي مثل ميشيل، اهتمت بأناقتها ونالت إعجاب الأوروبيين عندما زارت أوروبا مع زوجها. ربما ليوم واحد، تخلت صحيفة «شيكاغو تربيون» عن رزانتها، ونشرت في صدر صفحتها الأولى صورة ميشيل ترتدي فستانا أنيقا، وتقف مع زوجها، الى جوار رئيس وزراء بريطانيا وزوجته. وكتبت الصحيفة: «صعدت السيدة الاولى ميشيل أوباما على مسرح الموضة السياسية العالمية. وانضمت الى جاكلين كنيدي وكارلا ساركوزي والأميرة ديانا». ووصفت الصحيفة تفاصيل الفستان، وهي الصحيفة الوقورة. كما انها الصحيفة الجمهورية التي ظلت تؤيد مرشحي الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية منذ ان تأسست قبل مائة وخمسين سنة تقريبا، ما عدا العام الماضي، عندما أيدت أوباما (شيكاغو هي ولاية الرئيس).

ونشرت الصحيفة صورة عشاء الملكة إليزابيث لجاكلين كنيدي وزوجها سنة 1961، وفيه ترتدي المرأتان فستانين يكشفان عن كتفي كل واحدة منهما. ونشرت صورة ميشيل وهي ترتدي ايضا، فستانا يكشف عن كتفيها. هذا عن فستان العشاء. اما فستان الصباح، فوصفته الصحيفة بانه يقصد جملة «صارت اميركا تفكر وهي تنظر الى المستقبل». وقالت ان مصمم الفستان هو «جي كرو».

وانتشر اسم «جي كرو» كمصمم لأزياء ميشيل. وفي اليوم التالي، هرعت مئات الآلاف من نساء اميركا الميسورات الحال ليشترين فساتين «جي كرو».

وتندر ديفيد ليترمان، مقدم برنامج فكاهي ليلي في تلفزيون «سي بي اس»، وقال: «عندما تعود ميشيل الى واشنطن، يجب ان تستقل سيارة جنرال موتورز». (يقصد ان الناس ربما سيشترون السيارة بكميات كبيرة، ويخرجون الشركة من مواجهة الافلاس رغم دعم عشرين مليار دولار من الحكومة).

وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز»، تحت عنوان «مغامرات باراك وميشيل في أوروبا»، ان الاثنين أثارا الاعجاب ربما اكثر من كنيدي وزوجته. واشارت الى هدية «آي بود» (المسجل الالكتروني) التي قدمها أوباما الى الملكة إليزابيث، والى صورة ميشيل وهي تضع يدها على ظهر الملكة. (عكس منتقدي أوباما، أشادت الجريدة بما سمته «توددا موهوبا»).

وقارنت الصحيفة بين أداء أوباما وغوردن براون، رئيس وزراء بريطانيا. وقالت إن الأول كان «مثل نجم سينمائي»، بينما كان الثاني مثل «رجل تعيس». بالاضافة الى تكرار صورة ميشيل وهي تضع يديها على كتف الملكة إليزابيث، كررت التلفزيونات الاميركية صورة أوباما وهو يصافح الحارس عند مدخل منزل رئيس وزراء بريطانيا، بينما بدا رئيس الوزراء مستغربا ومرتبكا، ثم صافح هو نفسه الحارس، ربما لأول مرة.

ومن براغ، ركزت التلفزيونات الاميركية على خطاب أوباما امام نسبة كبيرة من الجيل الجديد. وقال مراسل تلفزيون «اي بي سي»: «مثلما في الولايات المتحدة، حيث راهن أوباما على الجيل الجديد، واعتمد على المتبرعين والمتطوعين والمتحمسين منه، فعل ذلك في اوروبا. وفي براغ، كان مثل نجم غنائي، يغني، وكأنه لا يلقي خطبة سياسية».

وكان هناك الجانب الإسلامي. فأمام البرلمان التركي، قال أوباما: «ليست الولايات المتحدة، ولن تكون أبدا، في حرب مع الإسلام. ونحن نعتبر ان شراكتنا مع العالم الإسلامي هامة لهزيمة عقيدة عنيفة يعارضها الناس من كل الأديان». وأضاف: «زار كثير من الاميركيين بلادا إسلامية، او يوجد في عائلاتهم مسلمون. انا اعرف ذلك لاني واحد منهم».

لاحظت صحيفة «واشنطن بوست» ان أوباما، في السنة الماضية خلال الحملة الانتخابية «تعمد، وباستمرار، ان ينفى صلاته بالاسلام. نادرا ما اشار الى ان اسم والده هو «حسين». ونادرا ما اشار الى انه تربي في اندونيسيا، ودرس في مدرسة حكومية». وتعتبر هذه ملاحظة هامة، لان أوباما، خلال الحملة الانتخابية فعل اكثر من ذلك: لم يزر أي مركز اسلامي. ولم يخاطب اي تجمع اسلامي. ولم يقبل تبرعات من اي جهة اسلامية هامة. بل في واحدة من الندوات السياسية خلال الانتخابات، طلب مساعدوه من مسلمات يجلسن على المنصة وهن يرتدين ملابس اسلامية لا تكشف غير وجوههن، ان يتركن المكان.

وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» نقطة تناقض أخرى، وهي أن أوباما، خلال الحملة الانتخابية، اتهم تركيا بأنها مسؤولة عن «إبادة» الأرمن في أرمينيا الحالية مع نهاية الحرب العالمية الاولى، ومع اقتراب سقوط الخلافة الاسلامية التركية، التي كانت أرمينيا جزءا منها. في عام 2007، عندما كان أوباما عضوا في الكونغرس، وقع على خطاب للرئيس جورج بوش طلب منه «الاعتراف بان الذبح الجماعي للأرمن لم يكن إلا إبادة». واشترك معه في التوقيع على الخطاب كل من السناتور جوزيف بايدن (الآن نائب الرئيس) والسناتور هيلاري كلينتون (الآن وزيرة الخارجية). لكن في تركيا، لم يستعمل أوباما وصف «إبادة»، واستعمل وصف «أحداث سنة 1915 السيئة». وصار واضحا ان أوباما سياسي مثل غيره من السياسيين، خاصة خلال الحملة الانتخابية: اولا: تحاشى المسلمين ليكسب اصوات اليهود. ثانيا: انتقد تركيا ليكسب أصوات الأرمن واليونانيين والصرب والبلغار (مناطق كانت جزءا من الخلافة الإسلامية التركية).

وبعد يوم من زيارة أوباما لتركيا، نشر موقع «أرمينيان كوميتي إن أميركا» (اللجنة الارمنية في اميركا) نداء لارسال برقيات وخطابات ورسائل تليفونية الى البيت الابيض لهدفين: اولا، الإشادة بأوباما لانه تحدث عن «الإبادة» امام البرلمان التركي. ثانيا، الإصرار عليه ليصف في المستقبل ما حدث بانه «إبادة». (أي أنهم يعرفون أن المصالح الاستراتيجية الاميركية تمنع أوباما من أن يكون صريحا).

وفعلت لجنة العلاقات الاميركية الإسلامية (كير) شيئا مماثلا: في جانب أشادت بما قال أوباما عن الإسلام والعالم الإسلامي في البرلمان التركي. وفي جانب آخر، طلبت من أوباما ان يلغي قوانين اميركية تسمح بالتجسس في المساجد والمراكز الاسلامية، وتفوض مكتب التحقيق الفدرالي (اف بي آي) بأن يحقق مع أميركيين بسبب أديانهم وأعراقهم.

وهكذا، مثلما في كل العالم، يبدو ان مختلف الطوائف والجماعات الاميركية تعرف لعب السياسيين الاميركيين. وتعرف ان هناك فرقا بين وعود السياسيين وعباراتهم البراقة وألفاظهم البليغة، وبين تنفيذ ما يعدون به.

سياسيا، أصدر معهد «بروكنغز» في واشنطن تقريرا عنوانه: «زيارة أوباما إلى أوروبا»، قال في بدايته: «لا بد أن يكون الأوروبيون قد لاحظوا فرقا كبيرا بين جولة أوباما والجولات التي قام بها الرئيس السابق بوش. عرفنا هنا في الولايات المتحدة، أو لم نعرف، قدم أوباما صورة مختلفة لنا في أوروبا».

وقال التقرير إن العلاقات السياسية مع أوروبا، أو مع غيرها، تعتمد على العلاقات الشخصية. وان النفور الذي كان تحت السطح بين بوش في جانب، وأنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، ونيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي، في الجانب الآخر، يبدو انه استبدل به علاقة ودية بينهما وبين أوباما. وقال التقرير: «في أول زيارة له إلى أوروبا، كان لا بد لرئيس الولايات المتحدة ان يؤسس علاقة شخصية مع قادة أوروبا. ذهب أوباما إلى أوروبا مبتسما، وعاد مبتسما».

وقال التقرير إن شعبية أوباما في أوروبا لا بد أن تؤثر على العلاقات الرسمية بين الجانبين، غير انه قال ان أوباما فشل في إقناع الأوروبيين بالمشاركة مشاركة حقيقية في حرب أفغانستان.

وأشار التقرير إلى زيارة أوباما إلى تركيا، وقال: «انه فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي». وتحدث عن زيارته للعراق، وقال انه «جعل الجنود يصفقون له عندما قال لهم انه سيعيدهم الى وطنهم». أما اقتصاديا، فقد اصدر معهد «بيترسون للاقتصاد العالمي» في واشنطن تقريرا عن مؤتمر قمة لندن للدول العشرين الذي حضره أوباما، قال فيه ان المؤتمر يستحق الدرجة «ب»، وليس الدرجة «أ». وان المؤتمر كان «جيدا»، لكنه لم يكن «ممتازا». وهذا المعهد هو اكبر معهد اقتصادي في واشنطن، ومتخصص في الاقتصاد العالمي، وليس للربح، ولا يلتزم بخط سياسي معين، وتأسس قبل ثلاثين سنة. وأضاف التقرير: «لا يمكن وصف نتائج المؤتمر بأنها تدعو لنظام اقتصادي عالمي جديد، او نقطة تحول، او «بيرتون وودز» (مؤتمر واشنطن الذي أسس، سنة 1947، البنك الدولي وصندوق النقد العالمي)». وقال ان المؤتمر فشل في عدة نواح: أولا، لم يصدر خطة تنشيط اقتصادية حكومية تلتزم بها الدول الاعضاء، مثل سنتين من التنشيط الحكومي بما يوازي نسبة اثنين في المائة من الدخل الاجمالي لكل دولة، كل سنة. ثانيا، لم يحدد جهة (وكان يمكن ان تكون صندوق النقد العالمي) لمراقبة النشاطات البنكية والمصرفية، ووضع حد للتي تبالغ في المغامرات. ولكن في الجانب الآخر، قال التقرير إن مؤتمر لندن أعلن نتائج ايجابية، منها: أولا، التزم بمساعدة دول العالم الثالث التي تواجه مشكلات مالية، بما يساوي تريليون دولار تقريبا عن طريق صندوق النقد العالمي. ثانيا، اصدر ترتيبات لمراقبة وتنظيم النشاطات المالية العالمية، ولزيادة الشفافية فيها، وخاصة في مجالات: رأس مال كل بنك، وكالات تقييم مديونية البنوك والمؤسسات الاقتصادية، ورواتب «وول ستريت».

لم يكن التقرير عن أوباما. لكن أوضح التقرير أن الجهود العالمية لمواجهة الكارثة الاقتصادية زادت كثيرا في عهد أوباما بالمقارنة مع ما كانت عليه في عهد الرئيس السابق بوش. وقال إن مؤتمر العشرين دولة في لندن، قبل أسبوع، الذين حضره أوباما حقق نتائج إيجابية كثيرة بالمقارنة مع مؤتمر العشرين في واشنطن، قبل أربعة شهور، الذي حضره بوش.