أرمن لبنان و«لوثة» الاصطفاف

أصبحوا طرفاً من أطراف الصراع السياسي عشية الانتخابات النيابية.. بعدما كانوا تاريخياً «حصة الدولة» أياً كانت اتجاهاتها

أرمن لبنانيون يرفعون العلمين اللبناني والأرمني خلال مظاهرة في بيروت أكتوبر (تشرين الأول) 2006، احتجاجا على مشاركة تركيا في قوات حفظ السلام في جنوب لبنان (إ.ب.أ)
TT

فاز نائب حزب «الطاشناق» الأرمني آغوب بقرادونيان بالتزكية مع تسجيل انسحاب المرشح عن المقعد الأرمني في المتن الشمالي نزارات صابونجيان لمصلحته، ليكون أول نائب لبناني يدخل برلمان 2009. بقرادونيان سارع إلى التأكيد أن فوزه بالتزكية لن يؤثّر مطلقًا على حماسة الناخبين الأرمن المتلزمين خوض الانتخابات في هذه الدائرة إلى جانب لائحة «التيار الوطني الحر» وبشخص النائب ميشال المر من اللائحة المقابلة.

هذا التأكيد لا ينفي «لوثة» الاصطفاف على الطريقة اللبنانية التي أصابت الأرمن، فأصبحوا طرفاً من أطراف الصراع السياسي الدائر عشية الانتخابات النيابية، بعدما كانوا تاريخياً «حصة الدولة» أياً كانت اتجاهاتها. سبب «اللوثة» يعود إلى التغييرات المتسارعة التي قلبت الساحة اللبنانية رأساً على عقب مذ برز الانقسام الحاد بين مشروعي «14 آذار» و«8 آذار» في العام 2000، وظهرت بواكير تكوينهما قبل تحديد عناوينهما. هذا الواقع أخرج «الأرمنية السياسية» من حيادها واعتدالها ودفع حزب الطاشناق، الذي يمثل غالبيتها السكانية في لبنان، إلى الصفوف الأمامية التي طالما حاول دائماً تجنبها. حتى إن البعض تحدث عن حملات مكثفة تدعو الأرمن المغتربين إلى العودة والمشاركة في الانتخابات حتى لا «يسلبهم المسلمون» مقاعدهم في البرلمان.

خروج هذا «التطرف» إلى العلن بدأ يزعج المسؤولين في القيادة الأرمنية، لا سيما أنهم معروفون بضبط كتلتهم الانتخابية التي وقبل «موجة الفتاوى الشرعية» كانت ولا تزال تأتمر بـ«كلمة سر» لتصب أصواتها حيث المصلحة الأرمنية الخاصة وسط موزاييك الطوائف اللبنانية. لذا تكثفت في الفترة الأخيرة التصريحات «الانفتاحية» الرامية إلى نفي صبغة «الاصطفاف» التي لم يتعودها المجتمع الأرمني خاصة، واللبناني عامة. وكأن العمل جارٍ على إعادة التموضع فور انتهاء الانتخابات، رغم التحالفات الحالية، وذلك مع تسجيل ارتفاع في بورصة التوقعات التي تشير إلى احتمال العودة بسياسة الطائفة إلى الوسطية. وفي هذا الإطار يقول النائب بقرادونيان: «همّنا أن نعيد لبنان إلى الخطاب الحضاري البعيد عن التجييش والصراع الداخلي. أما عن الصيغة التي وجدنا أنها تناسبنا فهي أن تكون للنواب الأرمن كتلتهم التي يختارونها بقرار ذاتي ليأتي القرار الأرمني مستقلا وحيادياً وليس مع طرف ضد طرف آخر». قبل الاسترسال في الحيثيات الأرمنية التي تتحكم بالتحالفات الانتخابية، لا بد من التوقف عند نسيج الشعب الأرمني الذي يشكل أقلية قومية وطائفية في موزاييك التعددية اللبنانية. فالأرمن لهم خصوصيتهم منذ أن اتخذوا لبنان وطناً لهم بعد تعرضهم لمجازر فظيعة على يد الأتراك مطلع القرن الماضي. وقد تمكنوا، رغم انعدام الإمكانات، من المحافظة على عراقتهم وحضارتهم وانتمائهم الثقافي. كما حافظوا على تماسكهم ووحدتهم وكأنهم لم يغادروا قسراً أرض أرمينيا التاريخية، علماً بأن معظم الأرمن في لبنان يتحدرون من منطقة كيليكيا التي توجد حالياً ضمن الدولة التركية، وكذلك من لواء الإسكندرون. ولا تعود أصولهم إلى أراضي دولة أرمينيا الحالية التي زارتها أو عادت إليها قلة من أبنائهم. أما المناطق اللبنانية التي استقر فيها الأرمن، فأهمها ضاحية بيروت الشرقية في برج حمود، وقرية عنجر البقاعية، إضافة إلى بعض أحياء انطلياس وجلّ الديب (شرق بيروت). إلا أن برج حمود تبقى الأقدر على نقل صورة واضحة عن المجتمع الأرمني ومدى تطوره على امتداد الحقبات المتعاقبة. فزائر عمق الأحياء الأرمنية في السبعينات من القرن الماضي، كان يضيع بين النداءات الأرمنية واللافتات المكتوبة باللغة الأرمنية في الشوارع التي تنقل الخصوصيات الشعبية قولا وفعلا وكتابة من «اراكس» و«انترانيك» و«ارارات» و«كمب سيس» و«كمب مرعش» و«كمب شرشبوك». اليوم تغيرت اللغة وانفتحت على العربية والأجنبية. ولم يعد الطابع الأرمني طاغياً، لا سيما بعد أن دمغت مطاعم «البسطرما» و«السجق» التي تقدم المطبخ الأرمني التراثي، بعبارة «ذبح حلال». هذا التطور فرضته ضرورات اقتصادية، لم يشمل كبار السن في برج حمود. معظمهم لا يجيد العربية. وإذا أجادها فهو يذكّر المؤنث ويؤنّث المذكّر. يقول كريكور: «جئت إلى لبنان مع والدتي من لواء الإسكندرون عام 1939. كنا قد هربنا إليه بعد المذبحة التي قضت على عائلتنا في أرمينيا. كان عمري حوالي سبعة أعوام. ركبنا بابور (سفينة) مسيو جيري حتى اللاذقية. ومنها وصلنا إلى كمب سنجق في برج حمود. أعطونا قطع قماش أشبه بالمنخل لننصبها خيمة وننام تحتها على الأرض ونتلقى عبر ثقوبها المطر. بقينا تحت الخيمة مدة سبعة أشهر. بعد ذلك أعطونا قصباً. قطعناه وصنعنا منه كوخاً وسريرين. أدمى أيدينا هذا العمل. كما أعطونا مصباحاً على الكاز وبرميلا للمياه. صرنا نزرع الأرض حولنا ونبيع محصولها من البصل والبقدونس. وننام مع البعوض ونصاب بالملاريا. عندما كانت تهب العواصف وتنهمر سيول المطر وتغرق أكواخنا كنت أسمع أصوات النساء يحذرن بعضهن للانتباه إلى الأطفال حتى لا يجرفهم الموج الذي يجتاح المكان. وفي اليوم التالي كانت تبدأ عملية التفتيش عن الآنية والأغراض التي حملها السيل».

لا يستطيع كريكور أن يحبس دموعه عندما يتذكر هذه المعاناة. يضيف: «لذا ما إن بلغت الخامسة عشرة حتى قررت أن أعمل لأعيل والدتي التي كانت تخيط الأكياس. تركت المدرسة رغم اعتراضها. وعملت في محترف للفضيات مقابل ليرتين أسبوعياً».

كريكور لا يريد أن ينسى أصله. يقول: «دمنا أرمني. لكننا أرمن لبنانيون. لا نريد أن نعيش إلا في لبنان، وليس في أرمينيا كما يطيب للبعض أن يردد». ويبرر تحالف «حزب الله» ورئيس كتلة «التغيير والإصلاح» ميشال عون مع الطاشناق. ويقول: «لأن السمك الكبير يأكل السمك الصغير. يعجبني تحالف حزب الطاشناق مع حزب الله والجنرال ميشال عون. نحن نريد أن نبقى في لبنان سمكاً كبيراً. لا نريد أن نصبح لقمة لباقي القوى. ولولا هذا التحالف لكنا تعرضنا إلى هجوم قضى علينا في السابع من مايو (أيار) الماضي».

كريكور وغالبية الأرمن الذين سألناهم عن انتمائهم السياسي قالوا إنهم ملتزمون بحزب «الطاشناق» الذي تأسس عام 1890 في عاصمة جورجيا ليخلص الشعب الأرمني من حكم العثمانيين. الحزب مصدر فخر كما يدل تعليق الرجل الذي يقول: «المنتسب إلى الطاشناق يُعرف من خطواته. التلميذ في المدرسة يسير واثق الخطى ولا يكذب ولا يغدر وإنما يواجه ويحمي رفاقه ويدافع عن أهله أينما كانوا وعن وطنه. الطاشناق ثوار. أما الرمغفار فهم بورجوازيون. والهانشاك اختاروا الشيوعية فذابوا وانتهوا». «الطاشناق» و«الهانشاك» و«الرمغفار» هي الأعمدة الأساسية التي يعتمد عليها الأرمن في حياتهم السياسية والاجتماعية. إلا أن «الطاشناق» وبعراقته بات مؤسسة بحد ذاتها، تخرّج فيها العديد من الساسة الكبار الذين ساعدوا الأرمن في نهضتهم ووحدتهم. وكلمة «طاشناق» تعني بالعربية «التحالف». ويستند هذا الحزب إلى الفكر الاشتراكي في توجهاته السياسية. وهو عضو مراقب في الاشتراكية الدولية. أما دخوله إلى لبنان فكان في العام 1904 بواسطة أحد مؤسسيه سيمون زفاريان الذي أسس مصلحة طلاب الحزب من الطلاب الأرمن في الجامعتين الأميركية واليسوعية. ولعل قوة الحزب تظهر في قدرته على تجيير الأصوات في كتلة واحدة عندما يعد حلفاءه بذلك. مما يعني أن لديه «فتوى شرعية» سرية تفرض على محازبيه الالتزام الأعمى بقراراته.

مسؤول العلاقات العامة في حزب الطاشناق هاكوب هافكيان يقول: «الأرمن لديهم ستة نواب في لبنان. أما عدد السكان الأرمن فهو 160 ألف تقريباً. لا فتوى شرعية لدينا ولا أي أمر آخر. لكن يتم ترشيح شخصيات لها دورها في المجتمع الأرمني. وبالتالي يقترع الناخبون الأرمن لمرشحي التوافق الأرمني الذي يقوده حزب الطاشناق. من ينظر من الخارج إلى ما يحصل لا يفهم هذه الحقيقة البسيطة ويستغرب الكتلة الواحدة التي تلتزم توجيهات الحزب. هم لا يفهمون شعبية الطاشناق ودوره التاريخي ونضاله من أجل الأرمن».

والأرمن على اختلافاتهم الأيديولوجية والسياسيّة، يستنفرون إذا سألتهم عن الازدواجية بين قوميتهم الموروثة وهويتهم اللبنانية. يؤكدون أنهم سعوا إلى تكوين هويّة تمزج الأرمني باللبناني، بحيث يتداخل الإرثان بانسجام طبيعي. يختصره أحد الشباب الأرمن بالقول: «أرمينيا هي الأم، ولبنان هو الأب». ويرفض أن يؤدي تصنيفه «الأرمني» إلى حرمانه من امتيازاته في «التشكيلة اللبنانية». فالأرمن «أرمن مسيحيون» وليسوا «مسيحيين من أصل أرمني». وعلينا أن نفهم هذا الأمر. نائب الطاشناق اغوب بقرادونيان يرفض أي اتهام بازدواجية الانتماء لدى الأرمن. يقول: «ليس صحيحاً أننا ننتمي إلى قومية وليس إلى طائفة من ضمن الطوائف التي تشكل التعددية اللبنانية. نحن نتبع كنيسة أرمنية وبالتالي نحن أرمن لبنانيون. لا تضارب في الأمر ولا توجد أي ازدواجية بين أرمنيتنا ولبنانيتنا. نحن لا نحمل الجنسية الأرمنية وإنما الجنسية اللبنانية. هذه هي الميزة الأساسية. ونحن مع إلغاء الطائفية السياسية في لبنان. ربما حينها نصل إلى مراكز قيادية عليا». لكن الطاشناق حزب عالمي وفي الفترة السابقة قيل إن الرئيس العالمي للحزب رانت ماركيان، وهو إيراني أرمني، يفرض سيرة التحالفات اللبنانية. يأتي الرد سريعاً من هافاكيان الذي يقول: «أكيد نحن حزب عالمي. ورئيس الحزب هو أرمني يحمل الجنسية الأرمنية وإن كان مولوداً في إيران. لكن لدينا لجان في كل دول انتشارنا. نحن منتشرون في أكثر من خمسين دولة كحزب. ووفق هيكلية الحزب تجتمع اللجنة المركزية في مؤتمر عام كل أربع سنوات لتتم مناقشة القضايا الأرمنية وليس القضايا الداخلية السياسية لكل لجنة. ولا تدخّل خارجياً من اللجنة المركزية أو خلال المؤتمر العام في الشؤون الداخلية التي تبقى ضمن اللجنة المركزية في لبنان أو أي بلد آخر. نحن لا نناقش القضايا الداخلية اللبنانية خارج لبنان. لكن أخصامنا يفتشون عن مبررات لينالوا منا في تحالفاتنا. أما وزير الدولة والنائب في كتلة «المستقبل» جان اوغاسبيان فيصر على التذكير وقبل أي شيء بأصوله وفروعه، فيقول: «أنا لبناني أرمني ومتمسك بقوميتي الأرمنية وكنيستي ولغتي وثقافتي وعاداتي وتقاليدي، وذلك بالمقدار ذاته الذي أتمسك بلبنانيتي ووطنيتي». ويضيف: «تميز الأرمن بالجمع بين قوميتهم، من جهة، والاندماج في المجتمع اللبناني، من جهة أخرى. فهم تمسكوا بدينهم وطقوسهم وحضارتهم التي ورثوها عن أجدادهم، من دون أن يمنعهم ذلك من الوفاء للأرض التي احتضنتهم والانفتاح على الشعب الذي استقبلهم. فتفاعلوا مع محيطهم وبيئتهم اللبنانية. وكان لهم دورهم في بناء الدولة اللبنانية. إلا أنهم سعوا في الأزمات الحادة إلى عدم الانزلاق في المحاور التي تؤجج الخلافات والنزاعات الداخلية بل كانوا دائماً عامل توازن واستقرار لمصلحة التمسك بالثوابت اللبنانية والنظام السياسي اللبناني ودعم المؤسسات الشرعية».

وفي حين يؤكد اوغاسبيان على وحدة الموقف الأرمني ومتابعة الجهود والنضال لمصلحة القضية الأرمنية المصيرية وتحقيق اعتراف تركيا والمجتمع الدولي بالإبادة الأرمنية، يشير إلى أن الطائفة الأرمنية تشهد حالياً تنوعاً سياسياً وثقافياً بضمها أحزاباً وانتماءات وأطيافاً متعددة، وبالتالي لا احتكار أو حصرية للقرار الأرمني وتعدديته السياسية. ويقول: «من المؤكد أن غالبية الطائفة الأرمنية لا تريد تحييد أبنائها عن القرار السياسي اللبناني، بل هم حريصون في هذه الأيام المصيرية من تاريخ لبنان على إبراز حضورهم القوي والفاعل في الميدان السياسي الداخلي والمشاركة في القرارات الأساسية. وليس خفياً أن الخيارات السياسية للقوى والأطياف والأحزاب الأرمنية موزعة حالياً على فريقي 14 و8 آذار. ويتجلى ذلك بوضوح في اللوائح الانتخابية التي يجري تشكيلها عشية الانتخابات النيابية المرتقبة والتي تعكس الحضور الأرمني السياسي والمتعدد والذي لا يمكن اختزاله بفريق واحد».

ويضيف: «أنا أعكس موقفاً أرمنياً ثابتاً ومتمسكاً بسيادة لبنان واستقلاله، وأرفض منطق المحاور واستخدام بلدنا ساحة لمصالح دول خارجية. وأعتقد بعمق أن مسؤولية أبناء طائفتي الأرمنية أن يبقوا جزءًا أساسياً من التكوين اللبناني المتنوع بمفاهيمه. ولا نصمت عن أي تجاوزات أو نسعى في شكل من الأشكال إلى تحييد أنفسنا عن تأكيد الحقائق وإعلانها».

بقرادونيان الذي ينفي أن يكون حزب «الطاشناق» الذي يمثل حوالي 75% من الأرمن اللبنانيين منحازاً إلى قوى «8 آذار» وصامتاً عن أي تجاوزات، يشير إلى أن «الموقع الحالي للحزب هو رد فعل على سياسة تهميش الأرمن وما يمثلون من اعتدال واتزان والتزام بأولوية الحوار. كما حصل في حكومة السنيورة الأولى. وفي ظل الانقسام الحاد كان يفترض أن نكون إلى جانب أطراف سياسية معينة. فتحالفنا مع التيار الوطني الحر. إلا أن هذا التحالف لا يلغي خصوصيتنا واستقلالية قرارها». النائب في كتلة «المستقبل» سيرج طورسركيسيان يعرض «المسألة الأرمنية» على الساحة اللبنانية بشكل مبسط ومختصر، فيقول: «لدينا الحرية المطلقة في الاتفاق عندما يتعلق الأمر بأي موضوع أرمني صرف، أي تعيين النواب ونائب حاكم مصرف لبنان والمديرين العامين، سواء كنا في 14 آذار أو 8 آذار. لكن الاختلاف يبقى على السياسة. الطاشناق لديهم توجههم ونحن في 14 آذار لدينا توجهنا. وبعيداً عن هذا التجاذب هناك تضامن أرمني، مع العلم أن المشكلات على الأرض تنعكس على الشارع الأرمني. صحيح أن الطاشناق يمثلون الأكثرية في الشارع الأرمني، إلا أننا نمثل أقلية ونريد أن نحافظ عليها».

لا يجد هاكوب هافكيان أي تناقض بين ارتباطه بقوميته الأرمنية وجنسيته اللبنانية. ولا يخاف إلغاء الطائفية السياسية في لبنان. ويعتبر أن الأمر سيشمل كل الطوائف اللبنانية. ويذكر بأن «ميزة الطاشناق تبقى في رفضه الوراثة السياسية وإيمانه بالعمل الحزبي».

الشارع الأرمني لا يختلف عن مراكز القرار. لكنه يبقى عفوياً أكثر... وربما صادقاً أكثر. هاغوب خاتشيكيان، المتزوج فتاة مارونية أحبها أهله لا سيما أنها سارعت إلى تعلم اللغة الأرمنية التي يجب أن تتكلمها مع الأولاد في البيت، لا يرى أي سوء في التحالف مع عون «القادر على حمايتنا من حرب أهلية مع الشيعة. الناس تريد مصلحتها وتوافق الطاشناق وحزب الله وعون يؤمن للأرمن مصلحتهم». هاغوب الذي يفكر بإرسال ابنه إلى مدرسة لبنانية غير أرمنية ليمكنه من الاختلاط بالمجتمع الواسع، يهمه أن يحافظ في منزله على بيئته الأرمنية من خلال اللغة والطعام. يقول إنه زار أرمينيا ووجد أن الأرمن هناك لديهم عادات أوروبية. وهذا الأمر لا يرضيه. فهو يفضل العادات الشرقية العائلية والمحافظة في أسلوب التربية والحياة. هو يعرف تاريخه جيداً، إلا أنه لبناني الهوية. يقول: «لدي رأسان. الأول أرمني والثاني لبناني». هو أيضاً جاء من الإسكندرون إلى حلب ومنها إلى لبنان. لكنه لا يستطيع أن يعيش في سورية ويفضل أجواء الحرية التي يعيشها في لبنان حيث بإمكانه أن يتظاهر ضد أي شيء تركي. في سورية لا يستطيع الأرمن القيام بذلك.

خاتشاريان يفضل العمل الإنساني في الجمعيات على الانتماء الحزبي. يحب عون ونصر الله، لكن ذلك لا يحول دون حاجته إلى الحماية من سلاح «حزب الله» إذا طغت الفوضى.

ليون يبدو أنه يغرد خارج السرب. يقول: «والدي جاء عام 1917. أنا ولدت في لبنان وأنا لبناني من أصل أرمني. وكل من يحب لبنان نحن معه. في الانتخابات أنا أقرر وليس الطاشناق. الحزب لا يفرض قراره على الجميع. أكيد نحن في لبنان لدينا حرية أكثر مما هو الأمر في سورية. أنا وأولادي نتكلم اللغة العربية. وقد تعلمتها وعلمتهم إياها في المدرسة». سؤال أخير يثير الاستنفار لدى الجميع ويتعلق بحصول الأرمن أياً كان تاريخ وصولهم إلى لبنان على الجنسية اللبنانية. الجواب يأتي موحداً من محازبي الطاشناق أو الرمغفار أو أرمن «14 آذار»، ومفاده أن الأرمن حصلوا على جنسيتهم تماماً مثل اللبنانيين عندما أجري مسح سكاني عام 1924. لكن ماذا عن الذين وفدوا في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي؟

غالباً لا جواب، إنما همهمات تشي بأن السلطة السياسية المهيمنة آنذاك، والتي كانت مسيحية مارونية لم ترغب بأي نقص في عدد المسيحيين مقابل المسلمين، لذا ضمت الأرمن إلى لوائحها لتزيد حصتها في الانتخابات.

لكن حسابات البيدر العتيق لم تعد تطابق حقل الطوائف الجديد. وما بعد الاستحقاق النيابي الحالي قد يغير المعادلات التي قد تساهم في صنعها «الأرمنية السياسية» أسوة بغيرها بعدما تمكنت منها «لوثة» الاصطفاف اللبناني.. أو تساهم من خلال استقلاليتها المنشودة وسعيها إلى حياد بين المنقسمين إلى شفاء غيرها من هذه «اللوثة».