أضرب عن الطعام.. تحقق هدفك

ثقافة الإضراب عن الطعام.. من ممارسات دينية إلى أداة للضغط السياسي

إضراب رئيس بوليفيا استكمالا لمسيرة طويلة من استخدام الامتناع عن الطعام كأداة للضغط السياسي (أ.ب)
TT

  يوم الأربعاء، أنهى الرئيس البوليفي إيفو موراليس الإضراب عن الطعام، الذي كان بدأه قبل خمسة أيام، بعد أن وافق مجلس الشيوخ في بوليفيا على إجازة استفتاء شعبي فيه تعديلات في الدستور لتسمح للرئيس بترشيح نفسه مرة أخرى. وكان المجلس رفض ذلك بوضع عراقيل تشريعية فنية.

في يناير (كانون الثاني) الماضي، كان الشعب البوليفي وافق، في استفتاء عام، على تعديل الدستور. لكن، بسبب قوة المعارضة، تباطأ مجلس الشيوخ في إجازة التعديل.

ليست هذه المعارضة القوية سياسية فقط، ولكنها، في المكان الأول، عرقية. وذلك لأن الرئيس موراليس من السكان الأصليين أو الهنود الحمر، وهو أول رئيس منهم في بلد هم فيه ثلاثة أرباع السكان.

يشكل البيض نسبة عشرين في المائة من سكان بوليفيا، والحمر نسبة ستين في المائة، و«مستيزو» (خليط أبيض وأحمر) نسبة عشرين في المائة. ولأربعمائة سنة، منذ وصول الأوروبيين إلى بوليفيا، سيطروا على السياسة والاقتصاد. حتى قبل أربع سنوات، عندما فاز الحزب الاشتراكي بقيادة الرئيس «إيفو»، كما يسميه مؤيدوه. وخلال الخمس سنوات الماضية، أصدر «إيفو» قرارات بتأميم شركات الغاز، وإعطاء الهنود الحمر حقوقاً خاصة (للتعويض عن اضطهاد أربعمائة سنة). ووجد «إيفو» حليفاً قوياً في الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز.

لكن، ظلت الأقلية البيضاء وحلفاؤها قوية، خاصة أنهم يسيطرون على الاقتصاد والتجارة (ولأن أغلبيتهم تعيش في منطقة إنتاج الغاز. في السنة الماضية هددوا بالانفصال، وإعلان دولة مستقلة). لهذا، غضب الرئيس «إيفو» أمام تعنت معارضيه، حتى اضطر لأن يعلن الإضراب عن الطعام.

وكان إضراباً على طريقة الهنود الحمر: رقد على لحاف على أرض مكتبه في القصر الجمهوري، وظل يمضغ أوراق شجرة «كوكو» التي يقول الهنود الحمر إنها تقلل شهية الطعام. (لكن، يصنع مخدر «كوكين» من حبات «كوكو»). سأله صحافيون وهو راقد على قفاه: «ألا ينشط المضغ الشهية بدلا عن أن يقلل منها؟» وأجاب: «هل تعرفون أكثر عن «كوكو» من مزارع «كوكو»؟ يقصد نفسه لأنه، قبل أن يكون سياسياً، كان مزارع «كوكو»، وهو نبات ينشر في كثير من دول أميركا الوسطي والجنوبية. وكان يحيط به، وأضرب معه، قادة الحزب الاشتراكي ونقابات العمال.

لم تكن هذه أول مرة يضرب فيها «إيفو» عن الطعام. ظل يفعل ذلك منذ أن صار سياسياً، ومرة قال: «عندما أضرب عن الطعام، وأمضغ «كوكو»، أعبر عن إخلاصي لقضيتي، وأعكس جانباً مهماً من ثقافة شعبنا (يقصد الهنود الحمر)».

وعندما كان رئيساً لاتحاد مزارعي «كوكو»، أضرب مرات كثيرة احتجاجاً على قرار الحكومة بوقف زراعة النبات، وذلك كجزء من جهود محاربة المخدرات. لكن النبات، ليس فقط جزءًا من تراث الهنود الحمر، ولكن، أيضاً، جزء من طعامهم وشرابهم وطقوسهم الدينية.

وخلال إضرابه، زاره رجال دين من الهنود الحمر، وأيدوه بطقوس استعملوا فيها نبات «كوكو». ومرة قال الرئيس «إيفو»: «كل هذه الضجة عن «كوكو» سببها أن الأميركيين يدمنون المخدرات. نحن نزرعه، لكننا لا ندمنه. إنها مشكلتهم وليست مشكلتنا».

ليس الإضراب عن الطعام شيئاً جديداً، وهو، طبعاً، عن القيم والأخلاق قبل أن يكون عن الجوع والعطش. لهذا، وعبر التاريخ، ارتبط برفض الظلم. في تراث المسيحية، أضرب القديس باتريك عن الطعام احتجاجاً على تعذيب المسيحيين في عهد الإمبراطورية الرومانية. وفي القرآن، يهدف الصيام لتقوى الله، وللتكفير عن الذنوب. وفي الهندوسية، صام الإله «بهاراتا» حتى يعود عمه الإله «راما»، ويحكم الهند.

وخلال الأربعين سنة الماضية، ظهرت تضحية الهندوس في المشكلة الحالية في سري لانكا بين حكومة الأغلبية السنهالية (فرع من البوذية) والأقلية التاميلية (فرع من الهندوسية). واشتهر «نمور التاميل» بالهجمات الانتحارية، وبالإضراب عن الطعام، وأحياناً حتى الموت. مثل قائدهم ثليبان الذي أضرب عن الطعام حتى توفى سنة 1987. وكانت آخر جملة قالها: «أنا متأكد بأن شعبي، يوماً ما، سينتصر على أعدائه، ويحقق الحرية. وأنا راض عن تضحيتي في سبيل وطني». (بالنسبة للحكومة الأميركية وحكومات كثيرة، «نمور التاميل» منظمة إرهابية).

وأيضاً، تنتشر عادة الإضراب عن الطعام حتى الموت وسط البوذيين في التبت، خاصة خلال الخمسين سنة الماضية بعد أن احتلته الصين. وفي يوليو (تموز) الماضي وفي الهند، صام ستة من رجال الدين البوذيين من التبت، وكادوا يموتون لولا أن الشرطة الهندية تدخلت، وأجبرت الأطباء على إنقاذهم.

في تلك المناطق، عاش أشهر الذين أضربوا عن الطعام وهو المهاتما غاندي، قائد الحركة الوطنية في الهند. سجنه البريطانيون خمس مرات، أول مرة سنة 1922، وآخر مرة سنة 1942. وفي كل مرة، كان يضرب عن الطعام. وفي كل مرة، كان البريطانيون يتدخلون حتى لا يموت، خوفاً على «سمعتهم»، وخوفاً من أن يصير «شهيداً»، كما كتب وتهكم غاندي نفسه. كتب في كتابه، «قصة تجاربي مع الحقيقة»، أنه بدأ الصيام عندما كان في جنوب أفريقيا، وذلك احتجاجاً على معاملة حكومة الأقلية البيضاء للسود والمختلطين. وقال إن للصيام صلة بالدين الهندوسي، دينه. وكتب في فصل «الصيام كفارة» بعد حادث تفرقة ضده في جوهانسبيرج: «أحسست أن القائد يجب أن يكون قدوة لتابعيه، وأن المدرس يجب أن يكون قدوة لتلاميذه. لهذا، أحسست أني لابد أن أفعل شيئاً. لكن، قالت زوجتي إنني يجب ألا أضحي بان أصوم. ورفضت نصيحتها. أحسست أن صيامي ينقل شيئين للذين يظلمونني ويسيئون معاملتي: أولا: مدي غضبي. ثانياً: قناعتي أن قوتهم ستسقط يوما ما».

واضاف: «لهذا، قررت أن أكفر عن نفسي، وأن أصوم سبعة أيام. وبعد ذلك، ولأربعة شهور، أتناول وجبة واحدة. وحاول كالينباخ (رئيسه الأبيض) أن يغير رأيي، لكنه، مثل زوجتي، فشل».

أما في الغرب، فقد صام قساوسة مسيحيون قدامي بسبب ظلم الإمبراطورية الرومانية. وصام قساوسة بروتستانت بسبب ظلم البابا والمؤسسة الكنسية الكاثوليكية. وفي العصر الحديث، صامت قائدات حركة تحرير المرأة اللواتي طلبن، في القرن التاسع عشر، منح المرأة حق التصويت والترشيح. بينما وجدن معارضة قوية من رجال الدين الذين قالوا إن التوراة والإنجيل يأمران المرأة بأن تطيع الرجل، رفعن هن شعار: «الله هو السيد الوحيد».

وفي بريطانيا في سنة 1909، أضربت عن الطعام ماريون دنلوب، قائدة حركة التصويت للنساء، بينما كانت معتقلة. ومثلما فعل البريطانيون مع غاندي في وقت لاحق، لم يريدوا لها أن تكون «شهيدة»، وأجبروها على أن تأكل. لكن، بعد خمس سنوات، ماتت ماري كلارك، قائدة أخرى، خلال إجبارهم لها على أن تأكل. واشتهرت أكثر عندما نشرت جريدة «ويرلد» صورتها وهي تجبر على أن تأكل (سنة 1914). واضطرت الحكومة البريطانية لإصدار ما سمي «قانون القط والفار». يعني هذا أن تسجن الحكومة النساء، وعندما يضربن عن الطعام والشراب، تطلق سراحهن، وعندما تتحسن صحتهن، تعيدهن إلى السجن، حتى تنتهي فتراتهن.

وفي أميركا، أضربت أيضاً قائدات حركة حقوق التصويت. واشتهرت آليس بول. ونشرت الصحف صورتها وهي تجبر على أن تأكل. كما نشرت صورتها وهي تقف أمام البيت الأبيض، صائمة، وتحمل لافتة تقول: «فارسات صائمات». وانتقدت ما أسمته «نفاق» الرئيس الأميركي وودور ويلسون لأنه: أولا: أول رئيس يحمل دكتواره، ثانياً: أول رئيس كان رئيس جامعة (جامعة برنستون). ثالثاً: صاحب «الاثنتي عشرة نقطة» لتقرير المصير لشعوب العالم المستعمرة. رابعاً: نال جائزة نوبل للسلام لأنه أسس عصبة الأمم المتحدة. واستغربت كيف يفعل كل هذا ولا يعطي المرأة الأميركية حق التصويت. وهي التي أسست حزب النساء الوطني سنة 1916، وكان حزباً صغيراً، لكنه، ساعد على حركة حقوق النساء، والتي كانت من أسباب التعديل التاسع عشر في الدستور الأميركي (سنة 1920) بمنح المرأة حق التصويت والترشيح.

في ذلك الوقت، صار الرئيس ويلسون من كبار المؤيدين.

وخلال أكثر من مائة سنة، ولأسباب كاثوليكية دينية، ولأسباب سياسية لها صلة باستعمار الإنجليز لبلادهم، اشتهر الأيرلنديون بالإضراب عن الطعام. خاصة خلال حرب الاستقلال من الاستعمار الانجليزي. وفي سنة 1917، توفى توماس آشي بعد أن أضرب عن الطعام وقاوم إجباره على أن يأكل أو يشرب. وفي سنة 1920، توفي لورد مايور بنفس الطريقة. وفي نفس السنة، سجل تسعة (منهم شقيقان) الرقم القياسي في موسوعة «جينيس» بان أضربوا عن الطعام والشراب 94 يوماً، وبسبب ذلك، توفى منهم ثلاثة.

وبعد خمسين سنة من الاستقلال، وهذه المرة في أيرلندا الشمالية، وأيضاً ضد اإنجلترا، عادت ظاهرة الإضراب عن الطعام والشراب، والوفاة بسببه. في سنة 1974، توفي مايكل غوغان، وفي سنة 1976، توفى فرانك ستاغ بعد إضراب شهرين. وفي سنة 1981، توفى بوبي ساند. وفي السنة الماضية، أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي أن أعضاء له في سجون الإنجليز أضربوا عن تناول الطعام والشراب. وفي الأسبوع الماضي، بمناسبة احتفالات عيد صعود المسيح، حدث نفس الشيء (بدون وفيات).

ويضرب ناس عن تناول الطعام والشراب لأسباب مختلفة. قبل ثماني سنوات وفي بريطانيا، أضرب (وتوفي بسبب ذلك) هاري هوم، احتجاجاً على ظلم البريطانيين للحيوانات. وقبل ثلاث سنوات وفي أميركا، أضرب (ولم يتوفَّ بسبب ذلك) جون موتاري احتجاجاً على قانون يخصم منه جزءًا كبيراً من دخله لأولاده وزوجته التي طلقها. وقبل سنة، أضرب رجل (ولم يتوفَّ بسبب ذلك) احتجاجاً على منع زوجته له من أن يرى أولادهما. وفي الوقت الحاضر، اشتهر سجن القاعدة العسكرية الأميركية في غوانتانامو، في كوبا، حيث يعتقل مئات المتهمين بالإرهاب، بإضرابهم عن الطعام والشراب:

أولا، حسب تصريح فليكس بلكسيكو، متحدث باسم البنتاغون، وقع أول إضراب جماعي سنة 2003، عندما أضرب أكثر من عشرة، وكادوا يتوفون، لكن العسكريين الأميركيين كتفوهم وقيدوهم وأطعموهم مباشرة أو بحقن غذائية.

ثانياً: حسب تصريح براد بلاكنر، متحدث باسم البنتاغون، وقع ثاني إضراب جماعي سنة 2005، عندما أضرب ستة وسبعون معتقلا.

لكن، قالت «أمنستي إنترناشونال» (منظمة العفو الدولية) إن أعداد المضربين وصلت إلى مائتين في الحالتين. وفي السنة الماضية، نشرت مجلة «نيويوركر» أن متوسط عدد الذين يضربون خلال السنة الماضية انخفض إلى عشرة.

وهناك إضراب د. سامي العريان، مهاجر فلسطيني كان أستاذ جامعة في ولاية فلوريدا، عندما اعتقل بتهمة مساعدة الإرهاب لأنه أرسل تبرعات لمنظمات فلسطينية. قالت منظمة «أمنستي» إنه، لعشر سنوات، تابعه مكتب التحقيق الفيدرالي (إف.بي.آي). ولثلاث سنوات، دخل محكمة وخرج من محكمة. ولخمس سنوات، بين هذا وذاك، وضع في حراسة انفرادية. وفي السنة قبل الماضية وهو في السجن، أضرب عن الطعام والشراب. وفي السنة الماضية، وضع تحت حراسة منزلية في ولاية فرجينيا (قرب واشنطن العاصمة) في انتظار قرار نهائي حول مصيره، مع أمل أن إدارة الرئيس أوباما ستخفف معاملة إدارة الرئيس السابق بوش له. وبعدما حدث في غوانتانامو عندما أجبر عسكريون أميركيون معتقلين على تناول الطعام أو الشراب، بدأ في الولايات المتحدة نقاش قانوني وسياسي وطبي عن هذا الموضوع. وقبل ثلاث سنوات، نشرت جريدة «نيويورك تايمز» أن عسكريين أميركيين قيدوا معتقلين وأجبروهم على أن يأكلوا أو يشربوا. ونقلت تصريحات من مسئولين في البنتاغون بأنهم يخشون أن يتوفى معتقل ويصير «شهيداً». وفي الجانب الآخر، نشرت تصريحات محامين للمعتقلين قالوا فيها إن هذا مثل «أد انسلت تو انجوري» (إضافة إساءة إلى أذى).

وبعد ذلك بفترة قليلة، نشرت مجلة «نيو انغلند جورنال اوف ميدسن» رأياً قالت فيه: «لا يحق للأطباء العسكريين أن يطيعوا أوامر عسكرية بإجبار شخص على أن يأكل أو يشرب. تنص أخلاقيات الطب على ألا يستغل طبيب طبه ليؤذي شخصاً» (مهما كان السبب). وحسب قانون الجمعية العالمية لسنة 1975، «يحق للأطباء إجبار شخص على أن يأكل أو يشرب، على شرط أن يوافق طبيب محايد على ذلك». لكن، بعد غوانتانامو، غيرت الجمعية القانون، وقالت إن الإجبار «غير إنساني ومسيء».

ووجدت الجمعية الطبية الأميركية نفسها في موقف لا تحسد عليه: في جانب هي عضو في الجمعية العالمية (رغم أن القرار ليس ملزماً، وليست له قوة تنفيذية). وفي الجانب الآخر، لا تريد التدخل في الجدل السياسي الذي اجتاح أميركا مؤخراً، ليس فقط عن دور الأطباء العسكريين في إجبار المعتقلين على أن يأكلوا أو يشربوا، ولكن، أيضاً، في معالجة الأطباء العسكريين لمعتقلين خارج قانون جنيف (مثل الذين كانت اعتقلتهم وكالة الاستخبارات المركزية).