العناق الأميركي.. لهافانا

باراك أوباما: سنرسل إلى كوبا مليوناً ونصف مليون سفير.. هذا هو التغيير

TT

تشهد ولاية فلوريدا هذه الأيام انتعاشاً داخل وكالات السفر والطيران غير مسبوق لم تعرف له الولاية مثيلا منذ عقود، كثيرون يرغبون حجز مقعد في أول رحلة متوجهة إلى كوبا، بعد أن قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما رفع القيود عن زيارة الأميركيين من أصل كوبي لذويهم في الجزيرة. وكان أوباما، خلال الحملة الانتخابية، كافح كفاحاً شرساً للحصول على أصوات هذه الولاية التي تعتبر من الولايات المتأرجحة ويمكنها أن تحسم التنافس بينه وبين المرشح الجمهوري جون ماكين.

وفي خضم الحملة الانتخابية قال أوباما للناخبين في مدينة ميامي، حيث يوجد عدد كبير من الأميركيين من أصول كوبية «أنا سأقرر وفي الأسابيع الأولى في حالة وصولي إلى البيت الأبيض رفع القيود عن السفر والتحويلات المالية إلى كوبا... من الغباء الظن أن إجراءات لم تُجْد نفعاً منذ الستينات يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لا يزال في هافانا النظام المتشدد واختفى فيدل كاسترو لكن جاء أخوه راؤول» وزاد أوباما يقول «لدينا مليون ونصف المليون أميركي من أصل كوبي هؤلاء سيصبحون أفضل سفراء إذا ما رُفعت قيود السفر، أعدكم أن ذلك سيحدث عندما أكون في البيت الأبيض ولن أتراجع مطلقاً».

وبالفعل لم يتراجع أوباما.

تفاصيل القرار الذي اتخذه باراك أوباما بإجراء تنفيذي، أي دون العودة إلى الكونغرس، ينص على توجيه وزيرة الخارجية ووزير الخزانة ووزير التجارة أن يتخذوا الخطوات الضرورية لرفع القيود المفروضة على الأفراد لزيارة ذويهم في كوبا وتحويل الأموال التي يرغبون في تحويلها أياً كان المبلغ. كما قرر أوباما «حرية تدفق المعلومات وسط الشعب الكوبي وبينهم وباقي أنحاء العالم» وهي إشارة إلى أن شركات الاتصالات الهاتفية وشبكات التلفزيون يمكنها أن تعمل في كوبا دون قيود، كما كان الشأن في الماضي. كما قرر أوباما تقديم المساعدات الإنسانية مباشرة للكوبيين. وقال روبرت غيبس، المتحدث الصحافي باسم البيت الأبيض، إن أوباما يرغب في «ردم الهوة» التي تمزق العائلات الكوبية.

وفي دراسة أصدرها معهد «وورلد بابليك أوبنيون» في واشنطن اشتملت على استفتاء أجراه المعهد حول العلاقات الأميركية الكوبية، وحصلت عليها «الشرق الأوسط» قبل توزيعها، قالت أغلبية من الأميركيين إن الوقت حان من أجل مقاربة جديدة تجاه كوبا، في حين يفضل الأميركيون تخفيف جميع القيود التي تعرقل السفر إلى كوبا وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. ويعتقد الأميركيون أن زيادة حجم التجارة بين البلدين وتنقل الأفراد سيؤدي إلى مزيد من الانفتاح في كوبا ولن يؤدي ذلك إلى تقوية النظام الشيوعي في هافانا، كما يرى أصحاب نظرية التشدد مع كوبا.

وفي تفاصيل الاستطلاع قال 59 في المائة من الأميركيين إن الوقت قد حان للاقتراب من كوبا ومن وجهة نظرهم أن «كوبا أصبحت مستعدة للتغيير». ويقول 70 في المائة من المشاركين في الاستطلاع إن الأميركيين لهم الحق في السفر بحرية إلى كوبا، في حين قال 28 في المائة إنه يجب منع الأميركيين من السفر إلى كوبا. وقال 79 في المائة إنهم يؤيدون إجراءات إدارة أوباما بتخفيف القيود على السفر إلى كوبا. ويؤيد 69 في المائة من المشاركين إقامة علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة وكوبا. ويرى 71 في المائة أن إجراءات تخفيف القيود على كوبا ستؤدي إلى تقوية النظام الشيوعي، ويرى 26 في المائة أن تخفيف القيود سيؤدي إلى تعزيز سطوة النظام الشيوعي في هافانا. لكن المشاركين انقسموا إلى ما يقارب النصف، حول رفع الحظر التجاري، إذ قال 49 في المائة إنهم يفضلون إنهاء الحظر التجاري المفروض على كوبا، في حين يرى 48 في المائة بقاء الحظر. وحول ما إذا كانت كوبا تشكل خطراً على الأميركيين قال 7 في المائة إنها تشكل خطراً حقيقياً، في حين يعتقد 27 في المائة أنها تشكل خطراً متوسطاً، وقال 33 في المائة إن خطورة كوبا على أمن الولايات المتحدة ضئيلة جداً، وقال 30 في المائة إنه لا توجد خطورة على الإطلاق يمكن أن تشكلها كوبا.

وحول قرارات الحصار المفروض على كوبا منذ تولى فيديل كاسترو الحكم في هافانا بعد نجاح الثورة الكوبية، والذي تمثل في قطع العلاقات الدبلوماسية وفرض حظر تجاري ومنع الأميركيين من السفر إلى كوبا بعد انتصار الثورة الكوبية، يعتقد 29 في المائة أن هذه الإجراءات أدت إلى إضعاف نظام فيديل كاسترو، لكن 52 في المائة من الأميركيين يرون أن تلك القيود لم تؤثر لا سلباً أو إيجاباً على النظام الكوبي، لكن 16 في المائة يرون أن إجراءات الحصار أدت إلى تقوية النظام الكوبي. وتتباين مواقف الديمقراطيين عن الجمهوريين في موضوع كوبا مقارنة بأي موضوع آخر في السياسة الخارجية الأميركية، حيث يعارض الجمهوريون معارضة شديدة رفع الحظر المفروض على كوبا، لكن الديمقراطيين يؤيدون رفع هذا الحظر. وفي ما يلي بعض الأرقام التي تبين البون الشاسع بين الجانبين.

*حول ضرورة استعداد المسؤولين الأميركيين للقاء مسؤولين كوبيين يؤيد 66 في المائة من الجمهوريين الفكرة، ويؤيد 86 في المائة من الديمقراطيين الفكرة.

*نسبة تأييد قرار إدارة باراك أوباما برفع قيود السفر إلى كوبا بين الجمهوريين تصل إلى 71 في المائة، ووسط الديمقراطيين إلى 90 في المائة.

* بالنسبة لضرورة إتاحة المجال أمام الأميركيين لزيارة كوبا، تبلغ نسبة الجمهوريين 62 في المائة ووسط الديمقراطيين 77 في المائة.

*يؤيد 82 في المائة من الديمقراطيين إقامة علاقات دبلوماسية مع كوبا في حين يؤيد هذه الخطوة 52 في المائة من الجمهوريين.

*تشجيع السفر والتبادل التجاري سيدفع كوبا في اتجاه الانفتاح والديمقراطية، يؤيد هذا التوجه 80 في المائة من الديمقراطيين و 59 في المائة من الجمهوريين.

تشير التوقعات إلى أن نصف الأميركيين من أصول كوبية سيزورون أسرهم في الجزيرة خلال الفترة الأولى، أي من الآن وحتى بداية العطلات الصيفية، وسيساعدون أقاربهم في الاشتراك في خدمات الهاتف التي سيتم توفيرها من طرف الشركات التي انفتحت أمامها أسواق على مرمى حجر من الشواطئ الأميركية الجنوبية، كما أنهم سيشجعونهم على الاشتراك في شركات خدمات التلفزيون عبر الكابل، وفي الحالتين يمكن تسديد التكلفة في الولايات المتحدة وضمان الخدمة في كوبا، وهو ما يعني أن التغييرات التي ستعرفها كوبا ستكون فجائية وغير متوقعة، وربما تنقل الكوبيين الذين يعتمدون حتى الآن على تكنولوجيا «سوفياتية» لم تعد في أي مكان في العالم إلا في كوبا، إلى تكنولوجيا العصر بما في ذلك الارتباط بالشبكة العالمية للإنترنت، وهو ما سيضع الحكومة الكوبية أمام طوفان تكنولوجي حقيقي، بعد نصف قرن من العداء. وما سيشجع الأميركيين من أصول كوبية، إضافة إلى الروابط الأسرية، على زيارة كوبا هو تدني الأسعار، ذلك أنه بأقل مبلغ مالي يمكن لأي أميركي أن يتمتع بعطلة استثنائية، وبما أن القاعدة تقول أينما كان الفقر فإن الانحلال الاجتماعي سيلتحق به في الطريق، جعل تفشي الدعارة ظاهرة منتشرة في كوبا، وهناك من سيكون هدفه، ولاشك، أن يغرف من هذه الظاهرة المتفشية. ولا تزال السلطات الأميركية تمنع أي أميركي، ليس له علاقات عائلية في كوبا، من زيارة الجزيرة، وفي حالة رفع هذا القيد فإن مطار هافانا سيغرق بالطائرات الأميركية، وكانت القوانين السارية خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش تقتضي بأن يزور أي أميركي له علاقات أسرية مباشرة في كوبا ذويه مرة كل ثلاث سنوات على أن يكون الحد الأقصى للتحويلات المالية المسموح بها كل شهر 100 دولار شهرياً. الآن أصبح لا قيود على عدد الزيارات التي سيقوم بها الأميركيون من أصول كوبية إلى الجزيرة كما لا توجد قيود على التحويلات المالية، وتم توسيع مفهوم الروابط الأسرية لتشمل حتى الأقارب من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما يشمل ذلك أي شخص يعيش في منزل لأي شخص مسموح له بالسفر.

وتقول تيسي آرال، التي تدير شركة طيران خاصة في ميامي، إن شركتها زادت عدد رحلاتها من ثلاث رحلات أسبوعياً بعد يوم واحد من قرارات الرئيس أوباما إلى أربع رحلات يومياً باتجاه هافانا. وهي تسعى الآن للتعاقد مع طائرات أكبر حجماً أيام السبت لمواجهة الطلبات المتزايدة للسفر من طرف ذوي الأصول الكوبية الذين يتكاثر عددهم على مدار الساعة. وأشارت إلى أن عدد مقاعد الطائرة التي تستعملها بين ميامي وهافانا زادت من 30 مقعداً إلى 172 مقعداً في الرحلة الواحدة.

وفي كوبا يعيش الكوبيون الذين لهم أقارب في الولايات المتحدة فرحة عارمة، خاصة أن أقاربهم سيزورنهم وهم محملون بالهدايا، في بلد لا يتعدى فيه مستوى الدخل أكثر من 20 دولاراً في الشهر. وفي أول رحلة جوية وصلت هافانا بعد رفع الحظر، وصل القادمون من ولاية فلوريدا وهم محملون بالمواد الغذائية بما في ذلك الأجبان واللحوم المجففة وحتى ورق التواليت، إضافة إلى لعب الأطفال.

وعبر أميركيون، ليسوا من أصول كوبية ولهم علاقات تجارية مع الجزيرة، عن تذمرهم من الإجراءات الجديدة وقالوا إنها تجعل من الأميركيين من أصول كوبية طبقة منفصلة لا علاقة لها بباقي الأميركيين.

على المستوى السياسي لا يزال الوقت مبكراً لربط اتصالات دبلوماسية بين واشنطن وهافانا، كما أن ردة الفعل الكوبي تمثلت في مقال لاذع كتبه فيديل كاسترو في إحدى الصحف الكوبية حيث دعا إلى إنهاء الحصار الأميركي المفروض على بلاده، وقال إن كوبا لا تطلب صدقة بل رفع الحصار. وكان ذلك بمثابة أول رد فعل من جانب كوبا تجاه قرار باراك أوباما برفع القيود المفروضة على الأميركيين من أصل كوبي. ويبدو أن أوباما حرص على أن تعلن الإجراءات قبل زيارته أمس إلى المكسيك حيث سيتوجه من هناك إلى ترينيداد للمشاركة في قمة الأميركيتين. وتأتي جولة أوباما في منطقة أميركا اللاتينية عقب البادرة التاريخية تجاه كوبا.

وقال أوباما إنه مستعد للتحاور مع القادة الكوبيين، لكن الرئيس الأميركي أضاف أنه سيدرس إمكانية رفع القيود كلياً عن كوبا في حالة اتخاذ الحكومة الكوبية خطوات أساسية من قبيل تنظيم انتخابات ديمقراطية في الجزيرة. وكان الرئيس الكوبي راؤول كاسترو أعلن في وقت سابق أنه مستعد للدخول في مفاوضات مع الإدارة الأميركية الجديدة شرط عدم وجود شروط مسبقة.

وكانت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري استبقت إجراءات إدارة باراك أوباما وقدمت في الأول من هذا الشهر مشروع قرار يسمح للمواطنين الأميركيين بالسفر بكل حرية إلى كوبا. وقال بيرون دورغانان إن سياسة الحصار فشلت على مدى خمسين عاماً، وقال دورغان أيضاً، وهو أحد مقدمي مشروع القانون، إن مشروعه سيفوز بعدد كافٍ من الأصوات حتى يصبح قانوناً سارياً في نهاية المطاف، وكان مشروع قانون مماثل قُدم إلى مجلس النواب وحظي بدعم أعضاء من الحزبين. وطالب بعض المستثمرين في قطاعي الأعمال والزراعة برفع الحظر المفروض حتى يتاح لهم بيع منتجاتهم في السوق الكوبية، وكانت الولايات المتحدة بدأت في فرض قيود على كوبا بعد تسلم كاسترو السلطة عام 1959 وتحولها إلى النظام الشيوعي الوحيد في أميركا اللاتينية، والذي لعب دوراً مهماً خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. ويعتقد الكوبيون أن المد اليساري في أميركا اللاتينية هو الذي جعل واشنطن تسرع الخطى نحو انفتاح سريع مع كوبا، وأن الأميركيين باتوا الآن أكثر اقتناعاً بخطأ سياستهم تجاه كوبا.

وتدخل سياسة الانفتاح على كوبا من طرف الرئيس بارك أوباما في إطار سياسة «اليد المبسوطة»، بدلا من سياسة «اليد المغلولة» التي اتبعت من طرف الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض. وهذه السياسة يقول عنها أوباما «إنه التغيير الذي كنا ننشده».