سيد 10%.. وشبح زوجته

اعتادت بوتو وصف زوجها زرداري بـ«مانديلا باكستان».. لكنه مقارنة بها حقق نجاحا محدودا.. ويتذكره الباكستانيون بتسليم سوات لطالبان ومغازلة سارة بالين

TT

اعتادت الراحلة بي نظير بوتو وصفه بأنه: «نيلسون مانديلا باكستان»، وكان منطقها في هذا بسيطا، حيث تعرض زوجها آصف علي زرداري للسجن لمدة 11 عاما، الأمر الذي يحمل تشابها واضحا مع عقوبة الحبس التي تعرض لها المناضل الأفريقي العظيم والأب الروحي لجنوب أفريقيا الحديثة، نيلسون مانديلا. بيد أنه بعقدها هذه المقارنة بين نيلسون مانديلا وزوجها زرداري تجاهلت بي نظير بوتو، رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة، التباين القائم بين طبيعة الاتهامات التي تعرض بسببها الرجلان للسجن.

في الواقع لم يقتنع غالبية أبناء الشعب الباكستاني قط باستحقاق زرداري لقب «نيلسون مانديلا باكستان»، لكن في إطار الحياة السياسية الباكستانية التي تتسم بقدر بالغ من الاستقطاب والفساد، هناك الكثيرون ممن يولون زرداري مكانة أكبر من نيلسون مانديلا نفسه.

من وجهة نظر نشطاء حزب الشعب الباكستاني، ضحى زرداري بالسنوات الإحدى عشرة التي قضاها في السجن من أجل استعادة الديمقراطية إلى باكستان، وعليه يعتبرونه واحدا من «سجناء الضمير» في العالم. وتتمثل أشهَر الحجج التي يسوقها نشطاء حزب الشعب الباكستاني في هذا الصدد لكسب التأييد لزعيمهم، في أن زرداري قدم تضحية بتعرضه للسجن طيلة 11 عاما، بناء على اتهامات تنوعت بين القتل والاختطاف وسلب الأموال العامة، دون تعرضه للإدانة من قبل أي محكمة.

لكن زرداري السياسي ورئيس باكستان، الذي يثير اليوم جدلا سياسيا محتدما في باكستان والعالم بسبب قراره تطبيق الشريعة الإسلامية في وادي سوات الباكستاني، مقابل موافقة «طالبان» باكستان على وقف إطلاق النار في الإقليم، اكتسب شهرته في أعقاب زواجه ببي نظير بوتو في ديسمبر (كانون الأول) 1987، ذلك أنه في غضون عام من زواجهما تولت بوتو منصب رئيسة الوزراء خلال عام 1988، وسرعان ما اشتهر زرداري داخل الأوساط السياسية والدبلوماسية في باكستان بـ«سيد 10%»، في إشارة لاشتهاره بطلب الحصول على 10% عن كل عقد تمنحه الحكومة برئاسة زوجته إلى أي من الشركات الباكستانية أو الشركات متعددة الجنسيات الدولية. في الواقع، بزواج زرداري ببوتو في أواخر الثمانينات انتقل الأول، وهو ما زال شابا في الـ31 ينتمي إلى خلفية إقطاعية ترتبط بالطبقة الوسطى، إلى دائرة الأضواء على الصعيد الوطني. (لهما ثلاثة أبناء هم: بيلاوال وبختيار وآصفة، وزرداري وبوتو ينتميان إلى عائلة مسلمة شيعية من أصول سراكي وسندية).

في ذلك الوقت عندما تزوجا كانت بوتو قد عادت للتو إلى باكستان بعد سنوات قضتها بالمنفى، ولقيت استقبالا وتأييدا شعبيا غير مسبوق من جانب الرأي العام الباكستاني، الذي كان قد شرع في التحول ضد الحكومة العسكرية القمعية بقيادة الجنرال ضياء الحق، الذي كان قد أطاح بوالدها المنتخب، ذو الفقار علي بوتو، في انقلاب عسكري غادر، تبعه إعدام بوتو بصمت أميركي.

في تلك الفترة نظر الرأي العام إلى بوتو الشابة، ابنة أبيها في حسها السياسي، «كملكة» تهيمن على قلوب وعقول الشعب الباكستاني، وعليه بدا زواجها من نجل أسرة إقطاعية غير معروفة قرارا غريبا من منظور وسائل الإعلام الباكستانية.

فوالد زرداري، حكيم آصف، يعد أحد الإقطاعيين من أبناء الطبقة الوسطى، وينتمي إلى إقليم السند، وفي الخمسينات استقر به المقام بمدينة كراتشي الساحلية وشرع في إدارة دور سينما هناك، بعد أن وجد أن النشاط الزراعي لم يعد مربحا بما يكفي لإعالة أسرة كبيرة، أفرادها طموحون للتعليم والحياة، ومن بينهم ابنه آصف.

وُلد آصف في كراتشي عام 1955، حيث تلقى تعليمه الأول في «غرامر سكول»، وهي مدرسة بالمدينة تتبع النهج الغربي في التعليم. وفي وقت لاحق نقله والده إلى كلية عسكرية بمنطقة نائية بإقليم السند (الكليات العسكرية في باكستان يتولى إدارتها عسكريون سابقون، وعادة ما يسودها انضباط شبه عسكري، لكن هذا لم يؤثر على شخصية آصف الذي كان لا يميل إلى الحياة العسكرية المتقشفة، بل حياة رجال الأعمال بسفرها الدائم وأموالها الوفيرة، واليوم هو من بين أغني 5 شخصيات في باكستان). أما جده فهو حسن علي خان بهادور أفندي، مؤسس أول مؤسسة تعليمية للمسلمين في ولاية السند.

وربما كان زواج زرداري من زعيمة سياسية ذات مكانة وطنية بارزة عام 1987 الحدث الأهم خلال مشوار حياته، وهي خطوة جعلته من المشاهير، ليس فقط على مستوى باكستان، وإنما بمختلف أرجاء العالم.

وخلال فترات تميزه بحالة مزاجية طيبة اعتاد زرداري المزاح مع ممثلي وسائل الإعلام بالقول إن القدر رسم أمامه مسارين فقط لا ثالث لهما: «إما أن أحيا حياة رغدة داخل منزل رئيسة الوزراء، أو أن يحملني القدر إلى غياهب السجون الباكستانية»، حسبما قال زرداري في إطار لقاء أجري معه عام 1996، قبل أيام قلائل من إلقاء القبض عليه بناء على اتهامات بالفساد في أعقاب حل الرئيس آنذاك، فاروق ليغاري، حكومة بي نظير بوتو. واتخذ ليغاري قرارا بسجن زرداري إلى أمد غير مسمى.

وأثبتت الأيام أن زرداري كان محقا في تكهناته، حيث عاش داخل منزل رئيسة الوزراء في غضون عام من زواجه ببوتو، ثم أودع في السجن في أعقاب حل حكومة زوجته في أغسطس (آب) 1990، وأطلق سراح زرداري بعد تبرئة ساحته من اتهامات الاحتيال المصرفي والقتل من قبل محكمة خاصة عام 1993.

وبعد بضعة أشهر عاد زرداري للعيش مجددا داخل منزل رئيسة الوزراء عندما تولت بوتو مجددا المنصب في أعقاب الفوز الانتخابي الذي أحرزه حزبها في الانتخابات البرلمانية. هذه المرة تمتع زرداري بالحياة الرغدة داخل منزل رئيسة الوزراء لثلاث سنوات فقط، حيث تم حل حكومة بوتو من جديد وقاده القدر مرة أخرى إلى السجن.

أما الاتهامات التي وجهت إلى زرداري فتنوعت ما بين مزاعم التورط في عمليات قتل واختطاف وابتزاز، فيما يدافع أنصاره عنه بادعاء أنه تعرض للظلم على يد الحكومات المدعومة من المؤسسة العسكرية بسبب مواقفه القوية الداعمة للديمقراطية.

تعرض زرداري لإلقاء القبض عليه للمرة الأولى عام 1990 بناء على اتهامات بمحاولة قتل، واتهامات أخرى بالابتزاز ترتبط بمخطط مزعوم لاختطاف رجل أعمال باكستاني. واتهمت الحكومة الباكستانية زرداري وغلام حسين أونار بربط عبوة ناسفة يجري التحكم فيها عن بُعد، بساق رجل الأعمال مرتضى حسين بوخاري، البريطاني الجنسية والباكستاني المولد، وإجباره على دفع 800.000 دولار في صورة شيكات من أحد المصارف الباكستانية. من جهته أنكر زرداري جميع الاتهامات الموجهة إليه، وبرأت المحكمة ساحته في وقت لاحق.

وخلال التسعينات امتلأت الصحف الباكستانية بقصص حول فساد زرداري المالي، بينها الحصول على رِشى من تجار ذهب يعملون بدبي، وقبول رِشى من تجار أسلحة فرنسيين باعوا غواصات وطائرات نفاثة إلى القوات المسلحة الباكستانية، علاوة على شرائه فيلات باهظة الثمن في لندن وجواهر غالية تبلغ قيمتها 9 ملايين دولار.

وعندما عادت بوتو إلى باكستان في أكتوبر (تشرين الأول) 2007 بعد قضائها قرابة عشر سنوات في المنفى بلندن، لم يبدِ زرداري استعداده للانضمام إليها، وقضى زرداري وقته متنقلا بين لندن ونيويورك ودبي. ومع ذلك شرعت بوتو في مفاوضات سرية مع نظام الحاكم العسكري السابق، الجنرال بيرفيز مشرف، لضمان عودة زوجها سالما إلى البلاد. ومقابل حصوله على الشرعية السياسية، أبدى الجنرال مشرف استعداده للعفو عن بوتو وزرداري فيما يخص كافة اتهامات الفساد الموجهة إليهما، وبينها اتهامات بغسل الأموال.

وأخيرا مهد الرئيس مشرف الطريق أمام العودة الآمنة لزرداري لباكستان بإصداره قانونا عرف باسم قانون المصالحة الوطنية، والذي سمح بتبرئة ساحة زرداري من كافة اتهامات الفساد المنسوبة إليه. وفي سياسات هذه الأيام في باكستان يعد قانون المصالحة القومي وصمة عار أخرى لحقت باسم آصف علي زرداري. وعندما يرغب أي سياسي في انتقاده يتهمه ببساطة بأنه المنتفع بقانون المصالحة القومي، وهو ما يعتبر مرادفا للفساد المالي.

وعندما شن نواز شريف حركة شعبية مناوئة للحكومة في مارس (آذار) 2009، لإعادة رئيس القضاة افتخار محمد تشودري، اتهم الرئيس زرداري بكل بساطة بأنه نتاج قانون مشرف المعلن.

وللتغلب على عيوبه السياسية دشن زرداري جهدا للمصالحة القومية بعد انتخابه رئيسا للبلاد بفترة وجيزة. وتعتبر جهود المصالحة القومية في أعين جيش الدولة القوي أمرا ذا قيمة كبيرة على ضوء القوى التي تسعى إلى تفكيك كيان الدولة. وبعد اغتيال بي نظير بوتو في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2007، زل الجنوب الباكستاني في جعبة العنف المكثف، وذلك عندما فتح شعب سينده، والكامن فيه ميول انفصالية شديدة، أبواب الجحيم تعبيرا عن غضبهم إزاء مقتل زعيمتهم.

وخلال زيارة أخيرة أجراها ريتشادر هالبروك ـ المبعوث الأميركي الخاص لباكستان وأفغانستان ـ إلى إسلام آباد، أخبر مجموعة من الصحافيين أن آصف علي زرداري جذب باكستان بعيدا من شفير الوقوع في هاوية الحرب الأهلية عام 2007.

وحسبما أوردت كلمات محلل سياسي بارز عن آصف علي زرداري، قال إنه لعب دورا كبيرا في تهدئة غضب شعب سينده العارم في ديسمبر (كانون الأول) 2007، حيث قال المعلق السياسي البارز فسيح الرحمن: «في أول مؤتمر صحافي له بعد اغتيال بي نظير بوتو، رفع آصف علي زرداري شعار (تحيا باكستان)، وحاول تهدئة غضب شعب سينده».

وفي ذات الوقت تسبب زرداري في أسوأ جدل سياسي يحدث في الحياة السياسية الباكستانية، والذي نبع من قراراته العاطفية، ففي 27 ديسمبر (كانون الأول) 2007، عندما اقترب رئيس شرطة روالبندي (المدينة التي اغتيلت فيها بي نظير بوتو) من زرداري للحصول على موافقته بتشريح جثمان بي نظير، رفض زرداري منح تصريح بذلك. وأحدث قراره هذا جدلا لم ينتهِ حتى هذه الأيام. ولم تعرف الشرطة السبب الحقيقي لمقتل بي نظير بوتو، وهو أكثر العناصر الرئيسية في أي تحقيقات تجريها الشرطة في حادثة اغتيال، وهذا كله بسبب عدم إجراء عملية تشريح الجثة (يذكر أن فرعا في عائلة بوتو ما زال يحمّله مسؤولية اغتيال مرتضى شقيق زوجته في كراتشي في سبتمبر (أيلول) 1996، أي في عهد حكومتها الثانية).

انتخب زرداري رئيسا لباكستان في 6 سبتمبر (أيلول) 2008 من قبل البرلمان الباكستاني بمجلسيه «الجمعية الوطنية» و«الشيوخ» إضافة إلى البرلمانات الإقليمية الأربعة، حيث حصل على 481 صوتا من أصوات المجمع الانتخابي البالغة 702، ليصبح الرئيس الـ12 لباكستان لخمس سنوات مقبلة، خلفا لبرويز مشرف الذي استقال من منصبه في 18 أغسطس (آب) 2008 بسبب الاعتراضات ضده.

وفي الفترة الأخيرة قام زرداري بالظهور الأول له في عالم الدبلوماسية، وهو المجال الذي لا يملك فيه قدرا كبيرا من الخبرة، فرغم توليه حقائب وزارية مرتين في حكومتي بي نظير بوتو، فإنه لم يكن قريبا أبدا من عالم الدبلوماسية.

وتحدث دبلوماسي بارز لـ«الشرق الأوسط» قائلا إن زرداري سيجد صعوبة في إيجاد موطئ قدم لنفسه مكان زوجته السابقة بوتو، التي كانت بكل المقاييس خبيرة في الدبلوماسية الدولية والعلاقات الخارجية.

وقال الدبلوماسي إن آصف حاول جاهدا اقتباس أسلوب بي نظير بوتو، إلا أنه حقق قدرا ضئيلا من النجاح في ذلك. وتتجلى معايير اقتباس أسلوب بوتو في خطابات الرئيس ضد تهديدات التطرف والمسلحين. وبعد جلوسه على رأس السلطة أوردت صحيفة «نيويورك تايمز» أنه أخذ نصيحة غير رسمية من الدبلوماسي الأميركي البارز زلماي خليل زاده (اضطر ريتشارد باوتشر مساعد وزيرة الخارجية الأميركية حينذاك، إلى مساءلة خليل زاد عن طبيعة هذه النصائح ومن أمر بتقديمها، وقد سارع خليل زاد إلى نفي هذه الأنباء).

واليوم يعتبر آصف علي زرداري أقوى سياسي في باكستان، لسبب واحد وهو دعم الجيش الكامل لحكومته، فضلا عن أن نواز شريف ـ زعيم المعارضة الأساسي بالبلاد ـ يبدو أنه ليس في مزاج يسمح له بالشروع في أي مغامرة سياسية. وفي خضم هذا الهدوء السياسي الجلي، ما زالت هناك حملة مستمرة ومكثفة ضد زرداري، والوسائل التي تستعمل في هذه الحملة هي الرسائل النصية القصيرة الخاصة بالهواتف المحمولة، وتبدو الحكومة منزعجة للغاية من هذه الحملة، والتي هدد رحمن مالك ـ وزير الداخلية الباكستاني ـ أخيرا بتعطيل نظام إرسال الرسائل القصيرة عبر الهواتف المحمولة ما لم يتم التوقف عن إساءة استخدامها في الحال.

لقد ظل زرداري واحدا من أكثر الشخصيات السياسية التي تتعرض للمطاردة على مستوى المشهد السياسي الباكستاني، وبقيت الدولة مولعة بالتفتيش عن الجانب المظلم من حياته. وخلال الأيام الأخيرة أبدت وسائل الإعلام الغربية هي الأخرى ولعها باستدعاء هذه الجوانب المظلمة من ماضي زرداري، وخلق صورة خطيرة لزرداري وحكومته. لكن حتى أشد أنصار حزب الشعب الباكستاني حماسا يتفقون في الرأي على أن زرداري يعاني من مشكلة خطيرة فيما يخص صورته العامة، وأنه كلما تغلب على هذه المشكلة سريعا كان ذلك أفضل ليتمكن من الاستمرار في الحكم. وعلى سبيل المثال، صرحت فوزية وهاب، إحدى القيادات البارزة بالحزب وسكرتيرة شؤون الإعلام به حاليا، لوسائل الإعلام الباكستانية خلال لقاء تلفزيوني بأن حزب الشعب الباكستاني يعمل بجد على صياغة استراتيجية لتناول التصوير السلبي الذي يتعرض له زرداري داخل باكستان، وكذلك من جانب وسائل الإعلام الغربية.

لكن المشكلة أن كل المسيرة السياسية لزرداري حفلت منذ البداية بالكثير من الفضائح واتهامات الفساد والاستفادة من وجوده في السلطة، سواء عندما كانت بوتو حية أو بعدما اغتيلت. أما المشكلة الأخرى فهي أنه ليس سياسيا بالفطرة، بل بالوراثة السياسية، عن زوجته. وقد أثبتت الكثير من الأحداث في الفترة الأخيرة أنه يفتقد إلى كاريزمية زوجته الراحلة أو رؤيتها الثاقبة أو طلاقة لسانها وخطابها السياسي المتدفق، فمنذ دخل المسرح السياسي لا يتذكر أغلب الناس عنه سوى قراره الأخير المثير للجدل بتطبيق الشريعة الإسلامية في سوات، ومحاكماته بتهم الفساد حتى لو لم يُدَن قضائيا، ويوم عاكس سارة بالين في اجتماع الأمم المتحدة في نيويورك العام الماضي، عندما لم يتمالك نفسه وقال لها أمام الكاميرات وهو يضغط على يدها: «الآن أعرف لماذا الشعب الأميركي مهووس بك». الباكستانيون عندما رأوا هذا ذهلوا وحل فورا شبح بوتو.

* شارك في البروفايل: محمد عبده حسنين، من وحدة أبحاث الشرق الأوسط