الجيش الإسرائيلي.. وعقيدته

بعد بن غوريون شهدت إسرائيل رؤساء حكومات أبدوا ضعفا أمام الجيش مثل شاريت وأشكول وغولدا مائير.. في هذه الفترة زاد نفوذ الجيش كثيرا

وحدة عسكرية إسرائيلية في لباس القتال (رويترز)
TT

في القاعة يجلس حوالي أربعين ضابطا كبيرا برتبة عميد. هؤلاء هم مستقبل قيادة الجيش الإسرائيلي. حضروا إلى مقر مجلس الدراسات الاستراتيجية في مركز البلاد، على مرمى حجر من تل أبيب. يجلسون على مقاعد دراسة مريحة مزودة بكل ما يخطر بالبال من تكنولوجيا عالية. يستمعون بمنتهى الأدب للمحاضر. عندما يريد أحدهم طرح سؤال يرفع إصبعه باحترام. الأسئلة أيضا جادة، تدل على اطلاع واسع ومحاولة صادقة للفهم. لا أحد يغادر القاعة خلال المحاضرة. وبانتهائها يتقدمون من المحاضر بكلمات الشكر والإطراء.

والمحاضر هو رجل سياسي ليس من إسرائيل ولا أجنبيا، إنه أحد قادة الأحزاب الوطنية العربية الفلسطينية في إسرائيل. من أولئك الذين يتعرضون للتحريض الدموي باستمرار في أوساط اليمين الإسرائيلي والشرطة والمخابرات. بل قد يتعرض هذا القائد لاستفزاز وربما اعتداء على حاجز عسكري في الضفة الغربية، ينفذه الجنود الخاضعون لقيادة أحد العمداء في الجيش الإسرائيلي الجالسين هنا أمامه كطلاب شطّار. فالقضية هنا قضية دراسة وتعليم. يريدون التعلم من المصدر الأول. المهم في المحاضر هو أن يكون ملما في مجاله. حتى لو وضع في خانة الأعداء، فمن الضروري سماعه. وليس فقط في هذه القاعة. ففي الجيش الإسرائيلي يجرون لقاءات كثيرة مع «الأعداء». يزورون السجون ويلتقون أسرى من قادة «فتح» و«حماس» وغيرهما. يقرأون باهتمام الدراسات التي أعدت في الجامعات والعديد منها تضمنت مقابلات بحثية مع قادة تنظيمات فلسطينية وسياسيين عرب من مختلف أنحاء العالم. فهذه واحدة من أساليب الدراسة المستخدمة لوضع سياسة استراتيجية. وهي واحدة من الممارسات التي تطورت لدى هذا الجيش عبر تاريخه، جريا وراء «معرفة الآخر»، التي كان أول رئيس حكومة في إسرائيل، دافيد بن غوريون، قد وضعها في سنة 1948، كقاعدة لعمل الجيش الإسرائيلي. وقد فعلها من خلال منصب وزير الدفاع أيضا، الذي احتفظ به لنفسه كلما انتخب رئيسا للحكومة، حتى مطلع الستينات. وهكذا جاء تدريج بن غوريون للمبادئ العامة للجيش: «رصد تهديدات العدو الأمنية المحدقة بإسرائيل والقيام بخطوات رادعة لها قبل أن تتفاقم، محاولة منع التدهور إلى حرب واسعة بواسطة القيام بخطوات حربية دفاعية ولكن من دون الاضطرار إلى احتلال العدو والسيطرة على شعبه، ممنوع خسارة الحرب وينبغي توفير كل ما يلزم من سلاح وعتاد ومال وتدريبات لهذا الغرض، محاولة إدارة الحرب بضربات خاطفة وكسر العدو في أسرع وقت لكي لا يطول القتال والسعي لأن تكون الخسائر البشرية في الحد الأدنى الممكن، محاولة الانتصار على العدو بالضربة القاضية وليس بالنقاط».

ومع مرور السنين جرت بعض التعديلات الطفيفة على هذه المبادئ، مثل إضافة بند حول ما يسمى بـ «مكافحة الإرهاب»، ابتداء من العام 1967، أو «الحرص على نقل المعركة إلى أرض العدو» وهو المبدأ الذي وضع في مطلع الخمسينات ونفذ في حرب 1967، ولكنه لم يعد واقعيا بعدها «خوفا من اتهام عالمي لنا بالعدوان»، كما كتب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، مردخاي غور (صحيفة «دافار» 25 مارس 1983)، و«ممنوع خوض حرب استنزاف بأي شكل من الأشكال»، وهو البند الذي أضيف للمبادئ في سنة 1970، بعد حرب الاستنزاف التي خاضتها إسرائيل مع مصر أساسا ومع سورية إلى حد ما خلال سنتين كاملتين، وغيرها.

للوهلة الأولى تبدو هذه المبادئ عسكرية محضة. ولكن من يتابع نشوء الجيش الإسرائيلي وتاريخ تطوره ونفوذه، يكتشف أن هذه العقائد العسكرية تحولت إلى سياسة استراتيجية تتحكم في القرار السياسي وفي القضايا الاستراتيجية للدولة العبرية، وبفضلها أصبح الجيش وجنرالاته السابقون واللاحقون ذوي النفوذ الأكبر في السياسة الإسرائيلية، وهم المسؤولون عن العقيدة الحربية التوسعية التي تميز السياسة الإسرائيلية منذ تأسيسها. والأمثلة على ذلك كثيرة: فبموجب المبدأ القائل أإن على إسرائيل أن ترصد التهديدات الأمنية، تمكن الجيش الإسرائيلي من إقناع رئيس الحكومة مناحم بيغن بتدمير الفرن الذري العراقي سنة 1981، وقد أفاد بيغن شخصيا من هذه الضربة لكي ينتصر في الانتخابات التي جرت بعد شهرين من هذا القصف. وهذه ليست قضية سياسية فحسب، إنما هي قضية حزبية أيضا، حيث إن الجيش ساعد اليمين أن يهزم اليسار في الانتخابات البرلمانية.

وبموجب البند نفسه، يرصد الجيش الإسرائيلي أموالا طائلة بلا حدود على مهمات التجسس وجمع المعلومات من العالم بأسره، وخصوصا من العالم العربي، أي في مناطق جغرافية بلا حدود. والحصول على معلومات أغرى الإسرائيليين على تنفيذ عمليات حربية ما وراء الحدود، فاجتاحت قوات الكوماندوز الإسرائيلية الخاصة بقيادة إيهود باراك بيروت لتغتال ثلاثة قادة فلسطينيين، ووصلت إلى تونس لاغتيال القائد الفلسطيني الثاني، خليل الوزير (أبو جهاد) ونفذت عشرات العمليات الأخرى السرية في أوروبا وآسيا وحتى في الولايات المتحدة ضبط جواسيس لخدمة إسرائيل.

وبموجب البند حول مكافحة الإرهاب نفذت حرب لبنان الأولى (1982 – 1985) والثانية (2006)، اللتين فرضتا فرضا على القيادة السياسية، والاجتياح لمناطق السلطة الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حتى الموت (2003)، التي أدت إلى تعطيل وشلل العملية السلمية. تأسس الجيش الإسرائيلي رسميا، في نهاية شهر مايو (أيار) من سنة 1948، أي بعد أسبوعين من إعلان تأسيس الدولة العبرية. وقد تأسس عمليا قبل ذلك بكثير، من خلال التنظيمات العسكرية اليهودية التي حاربت في فلسطين تحت قيادة الحركة الصهيونية («هاغاناة»، «بلماح»، «إيتسل» وغيرها). ففي هذه المرحلة المتقدمة كانت لديه قوة مشاة وسلاح جو ومخابرات. وعند تأسيس الجيش، كان الهدف وضع حد للتنظيمات العسكرية الفئوية والميليشيات. وقد ضرب دافيد بن غوريون بيد من حديد القوى التي أرادت الاحتفاظ بتنظيمات مسلحة مستقلة، ولم يتردد في محاربتها بالقوة سعيا لتصفيتها. فأمر بإغراق سفينة المسلحين وما تحمله من أسلحة المعروفة باسم «ألطلينا»، ورأى يومها أن الشرط الأول الذي لا يستغنى عنه لقيام دولة منظمة تحظى باحترام العالم، هو وجود جيش واحد خاضع لسيادة الدولة ومؤسساتها الديمقراطية.

وأراد بن غوريون للجيش الإسرائيلي أن يعمل وفق نظام الجيوش في الدول الديمقراطية الغربية، أي بالفصل بين الجهاز العسكري والجهاز السياسي، بحيث تكون الكلمة الأخيرة للقيادة السياسية. فالحكومة فوق الجيش. تراقبه وتختار قائده وتحدد له أهدافه ومهماته. وكان بن غوريون واعيا لخطورة سطوة الجيش على القيادة السياسية، فمنع بحزم تدخله الزائد في السياسة. وفرض عليه العديد من القرارات، مثل الانسحاب من سيناء المصرية إثر حرب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. ودخل في احتكاكات عديدة معه، وأنهاها بحسمه السياسي.

ولكن بعد بن غوريون، شهدت إسرائيل رؤساء حكومات أبدوا ضعفا واضحا أمام الجيش مثل موشيه شاريت وليفي أشكول في الستينات وغولدا مائير في مطلع السبعينات. ففي هذه الفترة زاد نفوذ الجيش كثيرا. وتعتبر حرب 1967، بمثابة مرحلة حاسمة في تعاظم نفوذ الجيش، حيث إن أشكول لم يكن معنيا بالحرب. ورفض بشدة إعطاء أمر بخوضها. وقد كتب المؤرخ توم سيجف أن أعضاء هيئة أركان الجيش استدعوا رئيس الوزراء أشكول إلى مقر القيادة، في تل أبيب ومارسوا عليه الضغط حتى يوافق على الحرب. ويقال إن أرئيل شارون، الذي كان يومها أحد هؤلاء القادة، تحدث لأصدقائه أنه كان ينوي إغلاق الباب على أشكول في قيادة الأركان وإبقائه مغلقا حتى يطلق شرارة الحرب. لكن أشكول «اقتنع» من دون أن يغلق الباب.

وبما أن نتيجة الحرب كانت انتصارا ساحقا لإسرائيل، حيث إنها تمكنت من احتلال الجولان السوري والضفة الغربية لنهر الأردن وسيناء المصرية وقطاع غزة خلال ستة أيام، فقد زاد نفوذ الجيش لدرجة خطيرة. ولم يعد السياسيون يستطيعون صده. وفقط حرب أكتوبر 1973، التي زعزع المصريون والسوريون فيها نظرية «الجيش الذي لا يقهر»، أوقفت هذا النفوذ. ولكن، الحرب أظهرت أيضا أن إسرائيل تحتاج إلى شخصية قوية في رئاسة حكومتها، أي في القيادة السياسية وليس فقط في الجيش. فتم اختيار إسحق رابين، رئيس أركان الجيش في حرب 1967، ليصبح رئيس حكومة. وهو الذي تمكن من استعادة هيبة الجيش والقيادة السياسية عن طريق المزج ما بين القيادتين.

وأصبح عهد رابين واختياره، نموذجا يحتذى في هذا «التعاون». وبدأت ظاهرة تصدير الجنرالات إلى القيادة السياسية للدولة. ومنذ ذلك العهد، تولى عشرات الجنرالات مناصب رفيعة في القيادة السياسية، نذكر منهم: يغئال يدين، رئيس الأركان الثاني الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة بيغن، وموشيه ديان، الذي جلبه بيغن وزيرا للخارجية في أول حكومة يمينية (مع أن ديان كان من قادة حزب العمل)، وعيزرا فايتسمان، قائد سلاح الجو الذي اختاره بيغن وزيرا للدفاع، ثم أرئيل شارون، الذي اختاره بيغن لتبديل فايتسمان في هذه الوزارة، وأصبح فيما بعد رئيسا للحكومة (2001 ـ 2005)، وإيهود باراك، رئيس الأركان، الذي اختاره رابين وزيرا للداخلية في حكومته وأصبح هو أيضا رئيسا للحكومة، والجنرالات بنيامين بن أليعازر وإسحق مردخاي وشاؤول موفاز، الذين أصبحوا وزراء دفاع، ورئيس الأركان أمنون شاحاك، الذي أصبح وزيرا في حكومة باراك، وقبله رافائيل إيتان ورحبعام زئيفي، وحتى اليوم حيث اختار بنيامين نتنياهو ثلاثة جنرالات في حكومته، هم إضافة إلى وزير الدفاع باراك، يوسي بيليد وموشيه يعلون.

وهكذا، اختلط حابل السياسيين بنابل العسكريين. وباتت عقيدة الجيش مختلطة بعقيدة الدولة. لم يقتصر تصدير الجنرالات على القيادة السياسية في إسرائيل، بل امتد إلى الاقتصاد أيضا. فقد دأب القادة السياسيون، من ذوي المناصب العليا في الجيش سابقا، على ضمان وظائف عليا في قيادة الشركات والمؤسسات الحكومية الأخرى. وعندما برز بعض هؤلاء العسكريين في إدارتهم الناجحة لمؤسساتهم، استقطبهم القطاع الخاص أيضا. فها هو أمنون شاحاك، رئيس أركان الجيش الأسبق، يصبح رئيسا لشركة الطيران العال ولشركة المياه «تاهل»، ويعقوب بيري، رئيس المخابرات العامة الأسبق، رئيسا لأكبر شركة هواتف خليوية ثم رئيسا لمجلس إدارة بنك كبير، وباراك، قبل أن يعود إلى السياسة أصبح مليونيرا إثر شغله منصب رئيس مجلس إدارة لعدة شركات استثمار. ولكن الفرع الاقتصادي الأكبر الذي يقوده الجنرالات، هو فرع التجارة العسكرية الأمنية، الذي يعتبر اليوم أكبر فرع اقتصادي في إسرائيل على الإطلاق. فإسرائيل تعتبر اليوم مصدرا للسلاح والخبرات الأمنية في 70 دولة في العالم، بينها دول العالم الثالث وبينها دول أوروبا الشرقية وحتى الدول المتطورة (بيع أسلحة من مختلف الأنواع، بدءا بالمسدسات والذخيرة وحتى الطائرات بلا طيار وتحديث الطائرات والدبابات القديمة وتدريب الجيوش وتدريب الحرس الرئاسي وشركات حراسة دولية في المرافق الاقتصادية في هذه الدول وأطقم حراسة السفن التجارية)، هذا فضلا عن الحراسة في إسرائيل نفسها، حيث إنه لا يوجد مطعم أو مجمع تجاري أو مكتب حكومي أو بنك أو حتى مكتب تسويق للهواتف النقالة إلا ويضع حارسا على الباب. وبحكم تطور الصناعات العسكرية الإسرائيلية التابعة للجيش مباشرة، هناك عشرات آلاف العمال والمهندسين والإداريين الذين يعملون تحت سيطرة الجيش ويلفون العالم باسمه (40% من منتجات الصناعات العسكرية الإسرائيلية تصدر إلى الخارج، وفقا لمنشورات مركز يافي للأبحاث الاستراتيجية). من هنا أصبح الجيش، بقياداته الحالية وسيطرته الإدارية والمالية وقادته السابقين، الذين سيطروا على الاقتصاد، عنصرا حاسما في السياسة الاقتصادية أيضا. فإذا أضفنا لذلك أن الخدمة العسكرية في إسرائيل إجبارية (لكل يهودي أو درزي أو شركسي بلغ الثامنة عشرة، باستثناء المتدينين وباستثناء النساء الدرزيات والشركس)، وأن عدد جنود الجيش النظامي يبلغ اليوم 176500 جندي والجيش الاحتياطي 445000 جندي، وأن الجيش يقوم بمهمات تعليمية في المدارس ولديه نشاط استيطاني (الجيش بنى 90 مستوطنة بواسطة «الشبيبة الطلائعية»)، يمكننا إدراك حقيقة أنه يسيطر على كل جوانب الحياة في المجتمع الإسرائيلي. والإسرائيليون يتندرون فيما بينهم فيقولون إن إسرائيل ليست دولة لها جيش بل جيش له دولة. وهذه ليست مسألة عدد ونظام وحسب، بل هي سياسة أيضا.

يقول الباحث الإسرائيلي في علم التغيير الاجتماعي، إيال نيف، إنه بسبب الدور المركزي للجيش الإسرائيلي في الحياة الاجتماعية والناس يشاركون فيه بهذه الكثافة، فإن عقلية عسكرية نمت وتطورت وسيطرت على المجتمع الإسرائيلي. ويضيف أن هذه العقلية العسكرية، جعلت القوة أداة أساسية لدى الناس والدفاع عن الدولة قيمة عليا. وبات الجنرالات هم الناس الأمناء على اتخاذ القرارات الصحيحة. وكلما يشعر الإسرائيلي أن عليه خطرا وجوديا يتحول إلى أكثر شراسة ويصبح العدو أكثر سوءا وكراهية عليه. فإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن عدد قتلى الحروب في إسرائيل يبلغ 22570 شخصا وأن أضعاف ذلك العدد مشوهو حرب، يعتاشون هم وعائلاتهم من مخصصات الجيش والدولة، ومرتبطون بمؤسسات مدنية مرتبطة بدورها بالجيش مثل «الجمعية من أجل الجيش» و«يد للأبناء الجنود» و«منظمة معوقي الجيش» و«خريجو البلماح» وغيرها، فإن الجيش يعيش ويعشش في نفوس الناس ويسيطر عليهم.

وهذا الواقع بحد ذاته يجعل الجيش مؤسسة النفوذ الأكبر. كلمته مسموعة. وطلباته أوامر. هذا فضلا عن «إعجاب الإسرائيليين بالصناعة العسكرية ذات التكنولوجيا العالية، التي ينظر إليها على أنها أفضل تعبير عن العقلية اليهودية الفذة»، كما يقول د. إيهود غولان، المحاضر في العلاقات الدولية. وقيادة الجيش تدرك هذه العظمة لنفوذها، فلا تتردد في استغلالها. فعندما نرى القيادة السياسية في إسرائيل تتردد في شن حرب أو معركة، نجد المجتمع الإسرائيلي غارقا في شعار يتردد باستمرار هو «دعوا الجيش ينتصر». وقد استمعنا لهذا الشعار في سنة 2003 عندما كانت عملية السلام تراوح مكانها والعمليات التفجيرية الفلسطينية تملأ الشوارع الإسرائيلية، انتشر هذا الشعار إلى حين اتخذ القرار بإعادة احتلال الضفة الغربية ومحاصرة عرفات في المقاطعة في رام الله، فأجهضت مفاوضات السلام تماما. لم يكن الجيش بحاجة إلى فرض رأيه بانقلاب عسكري، كان يكفي أن يوجه هذا الشعار كرسالة إلى المواطنين، فتجندت الصحافة والقوى السياسية تنفذ رغبته. والأمر نفسه حصل في حرب لبنان الثانية سنة 2006. وحسب تقرير لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات هذه الحرب، فإن الجيش «قد جرّ القيادة السياسية إلى حرب غير مدروسة استراتيجيا». وأضافت في توصياتها أن على الحكومة زيادة مراقبتها على الجيش ودعت إلى زيادة مراقبة الكنيست أيضا. وقال عضو اللجنة، البروفسور درور يحزقيل، إن «للجيش الإسرائيلي نفوذا كبيرا على القرار السياسي يزيد على الحجم المسموح به في دولة ديمقراطية» (صحيفة «معاريف» – 8 فبراير/ شباط 2008). وقد ظهر أمام اللجنة الجنرال عاموس مالكا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في سنوات 1998 ـ 2002، فقال: «خلال الحرب يأتي رئيس الوزراء ووزير الأمن إلى قيادة هيئة الأركان ضيفين زائرين. لم يرافقهما حتى مساعدون مهنيون يقدمون لهما مشورة مستقلة. وما قاله رئيس أركان الجيش، دان حالوتس، من أنه يتلقى الأوامر من الحكومة وينفذها، هو كلام فارغ». ولهذه الحرب قصة أخرى تدل على «عقيدة الجيش» ونفوذه. فالمعروف أن الحكومة التي أقامها إيهود أولمرت ووزير دفاعه عامير بيريتس، كانت قد وضعت بندا في خطوطها العريضة يقضي بتقليص ميزانية الجيش الإسرائيلي بمبلغ يعادل 1.3 مليار دولار. وقد اعترض الجيش على ذلك وحاول إثناء الحكومة عن هذا التوجه، لكن أولمرت وبيريتس، أصرا على البند باعتبار أن الانسحاب من قطاع غزة أوجد حالة مريحة لمفاوضات السلام وأن الجيش يجب أن يتقلص.

الجيش اعتبر هذا القرار تجاوزا للخطوط الحمراء. فماذا فعل؟ استغل خطف حزب الله للجنديين الداد ريجف وايهود غولدفاسر، ودفع الحكومة إلى الحرب التي وصفتها لجنة فينوغراد بأنها غير مدروسة. وكانت النتيجة بعد الحرب أن الحكومة لم تتنازل عن تقليص الميزانية وحسب، بل رفعتها بمبلغ إضافي بقيمة 2.8 مليار دولار. ولم يكتفوا بهذا، بل دارت معركة جماهيرية واسعة أدت إلى طرد بيريتس وأولمرت من منصبيهما. ويقدم الباحث إيال نيف مثلا صارخا آخر عن عقيدة الجيش وكيفية تحويلها إلى ممارسة سياسية رفضية، ويطرح رأيه في تساؤلات فيقول: «هل هي صدفة أن المفاوضات مع الفلسطينيين انفجرت في أوساط سنوات التسعين؟ ففي حينه حصلت أزمة اقتصادية في عدة دول في العالم أدت إلى انخفاض الطلبيات من الصناعة العسكرية الإسرائيلية، وهذا بدوره تسبب في طرد ألوف العمال منها. أفلا توجد علاقة بين هذا وبين تفجر المفاوضات؟ فالمعروف أن 10% من الصادرات الإسرائيلية هي من فرع الأسلحة، أفلا توجد هنا عناصر ذات مصلحة في استمرار الحرب وفي استمرار الاحتلال من أجل إنعاش الصناعات العسكرية؟».

ويقدم الجنرال مردخاي غور، رئيس أركان الجيش الأسبق، في مقاله المذكور أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية كانت أكثر الإسرائيليين صدمة ومفاجأة من قرار الرئيس المصري أنور السادات زيارة إسرائيل في سنة 1977. فهي رغم كل الموارد والجهود التي تبذلها لمعرفة الأجواء في مصر، فوجئت. ولكن صدمتها كانت أكبر عندما فوجئت بأن بقية الدول العربية لم تلحق بالسادات في السلام مع إسرائيل. فماذا فعلت؟ راحت تشكك بالسادات نفسه وتقول إن السلام الذي وقعه مع إسرائيل ما هو إلا حالة «كبريزا» من السادات وحده. واستنتجت في حينه أنه «لا يوجد من نتكلم معه في الطرف الآخر، ولذلك يجب أن نعتمد فقط على قوتنا الذاتية وإبقاء الخيار العسكري قائما». وما يقوله الجنرال غور، ينطبق على شعار آخر مشابه كان قد أطلقه إيهود باراك في سنة 2000 إثر فشل مؤتمر كامب ديفيد، حيث قال «لا يوجد لإسرائيل شريك فلسطيني في عملية السلام»، وتحولت هذه المقولة العسكرية الأصل إلى شعار سارت إسرائيل عليه حتى تولى الرئاسة الفلسطينية بعد رحيل عرفات، الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، فقال يومها إيهود أولمرت، وهو يناقش قادة الجيش وقوى اليمين المناصرة لها: «لقد لوحنا بالشعار أنه لا يوجد شريك فلسطيني لنا في عملية السلام طيلة سبع سنوات وصدقنا العالم. ولكن، هل يمكننا الاستمرار في ترديد هذا الشعار في عهد أبو مازن؟ هل نستطيع إقناع أحد في العالم بأن أبو مازن ليس شريكا في عملية السلام؟». ويوافق معه الكاتب أوري أفنيري، الذي أصدر كتابين في الأبحاث العسكرية، فيقول عن حرب لبنان الثانية كلمات مماثلة وبشكل أكثر حدة: «الجيش الإسرائيلي الذي بنى قوته على مطاردة أطفال فلسطينيين يقذفون الحجارة، لا يمكنه أن يكون جيشا قويا واثقا. الجيش الذي بنى كل سياسته على الاستهتار بالعرب وطور في نفسه نوعا من العمى حول العرب ودوافعهم وحساباتهم الحقيقية، لا يمكن أن يعرف كيف يمثل مصالح المجتمع الحقيقية. لقد استغل الجيش تأثيره البالغ على القيادة السياسية ودفعها إلى مغامرة خطيرة. وكل هدفه هو إبعاد إسرائيل عن الحقيقة الراسخة وهي أنه لا يوجد حل عسكري للصراع الإسرائيلي العربي. والحل الوحيد هو سياسي سلمي».

من هنا، فإن الجيش الإسرائيلي، وإن كان يأتمر نظريا بقرارات الحكومة، فقد بنى لنفسه على مدى السنوات الستين، آلية للتأثير على القرار السياسي والجماهيري في إسرائيل بشكل هائل لا يمكن مقارنته مع نفوذ أي جيش في الدول الغربية التي يحلو لإسرائيل الانتماء إليها. وإن لم تكن لهذا الجيش عقيدة محددة أيديولوجيا، فإن لديه عقيدة عسكرية واضحة تؤدي إلى بناء سياسة استراتيجية، هي عقيدة الشك الدائم في الطرف الآخر (وليس العربي فحسب) والاعتماد على القوة العسكرية كأمر أساسي. ومع مرور الزمن ونشوء فرع اقتصادي عسكري، باتت هناك شريحة من تجار الحرب في إسرائيل المرتبطين بالجيش حتى اليوم والقادمين من صفوف الجيش، الذين لديهم مصلحة مباشرة في استمرار الحروب لكي يستمروا في الربح.

وصحيح أن هناك تيارا ليس بسيطا في المجتمع الإسرائيلي يرفض هذا النفوذ للجيش وتجار الحرب، ولكن قوة هذا التيار ما زالت ضعيفة. وهو لم يستطع حماية رئيس حكومة ووزير دفاع (أولمرت وبيريتس)، وأطاحوا بهما بسبب تجرئهما على التخطيط (مجرد التخطيط) لتقليص ميزانية الجيش. والوعي الجماهيري لهذا النفوذ والعقيدة الحربية التي تختفي وراءه ما زال غائبا ومغيبا في المجتمع الإسرائيلي. وفي هذه الحالة لم يعد الجيش يضع لنفسه حدودا في شيء، ليس فقط في الوصول إلى العراق وسورية وحسب، وليس فقط في التخطيط لحرب مع إيران وحسب، وليس فقط في تطوير الآلية الحربية بكل المجالات من السلاح النووي إلى غزو الفضاء وحسب، بل لا يعرف حدودا حتى في استخدام نفوذه على القيادة السياسية.