ديك تشيني.. المقاتل الشرس

يمتشق سيفه وحيدا في مواجهة إدارة أوباما بعدما تعرضت سياسات الإدارة السابقة لوابل من الانتقادات هدد كل إرث إدارة بوش

تشيني خرج للإعلام لمواجهة الانتقادات لإدارة بوش (أ.ب)
TT

دخل ديك تشيني في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2006 على الرئيس جورج بوش في المكتب البيضاوي وقال له بهدوء «سيادة الرئيس لا أتفق معك حول هذا القرار لكنك أنت الرئيس».

كان تشيني يقصد قرار الرئيس الأميركي السابق بوش بإقالة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، المسؤول ذو الملامح الصارمة الذي ارتبط اسمه بفضيحتين في تاريخ إدارة بوش، الأولى هي فضيحة «سجن أبو غريب» في ضواحي بغداد عندما أجبر السجناء العراقيين على اتخاذ أوضاع مهينة وتعرضوا لإساءات جنسية روعت العالم. والفضيحة الثانية كانت هي استعمال التعذيب على نطاق واسع وبطريقة مفرطة في معتقل غوانتانامو، خاصة ما يعرف بتقنية «الإيهام بالغرق» وفي الحالتين كان رامسفيلد هو الذي أقنع ديك تشيني بجدوى «تقنيات الاستجوابات القاسية» للحصول على معلومات من «إرهابيين». وبدوره شكل تشيني دائما مظلة واقية لرامسفيلد، حتى كان قرار بوش عام 2006 بإقالة رامسفيلد، وقيل وقتها إنه قدم استقالته، وهذا تقليد أميركي، لا أحد يقال بل الكل «يستقيل». ونقل واقعة الخلاف بين بوش وتشيني عندما قال نائب الرئيس لرئيسه «لا أتفق معك»، الصحافي المرموق واسع الاطلاع بوب وودورد، ولم ينف أحد الواقعة.

كان تشيني، الذي تصدى بشراسة لقرارات إدارة باراك أوباما حول ما بات يعرف بـ «مذكرة التعذيب»، التزم الصمت عندما حققت لجنة في الكونغرس بشأن مخالفات تلميذه رامسفيلد. ويشير ذلك التقرير، وهو تقرير ضخم يقع في حوالي 560 صفحة واطلعت عليه «الشرق الأوسط» في نسخته الكاملة، إلى أن وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد ومسؤولين كبارا آخرين في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش يتحملون المسؤولية لوقائع تعذيب المعتقلين في معتقل أبو غريب في العراق ومعتقل غوانتانامو في كوبا. وقال التقرير، الذي شارك في إعداده كل من السيناتور الديمقراطي كارل ليفن من ميشغان والسيناتور الجمهوري جون ماكين من أريزونا والمرشح السابق للرئاسة، إن رامسفيلد شارك في عمليات التعذيب عبر إقراره استخدام تقنيات «استجواب قاسية» في معتقل غوانتانامو في ديسمبر (كانون الأول) عام 2002. وعلى الرغم أن رامسفيلد زعم أنه أعاد النظر في تلك المذكرة، لكن التقرير يقول إن موافقته السابقة على استخدام هذه الوسائل أصبحت قاعدة لدى العسكريين الأميركيين الذي قالوا إنهم لم يسمعوا من بعد بمذكرة مضادة، مما جعل هذه الوسائل تنتقل إلى معتقلات في العراق وأفغانستان.

وأشار التقرير إلى أن الجنود الأميركيين في «سجن أبو غريب» لم يتصرفوا من تلقاء أنفسهم، بل تلقوا أوامر شفوية تطلب منهم استعمال «أساليب قاسية» ضد المعتقلين. وأضاف التقرير «إن تعرية السجناء وجعلهم يتكومون فوق بعضهم بعضا وتخويفهم بالكلاب وجعلهم يقفون ساعات طويلة في أوضاع صعبة ظهرت في العراق بعد أن استخدمت في أفغانستان وغوانتانامو» وبعد نشر ذلك التقرير قالت بعض مصادر إدارة جورج بوش إنها لم تسمح بهذه الأساليب، لكن تشيني نفسه التزم صمتا مطبقا.

بيد أن صمت تشيني لم يستمر بعد أن خرجت إلى العلن قضية «مذكرة التعذيب»، لكن المفارقة أن الرجل هو الوحيد الذي خرج إلى الإعلام «يقاتل» وحده ويحاول أن يقف في وجه السيل الجارف من الانتقادات التي بات يوجهها له كثيرون من داخل إدارة باراك أوباما، بيد أن الانتقاد الأكثر قسوة جاء من سيدة تتقن الاستهزاء جيدا، ولم تكن سوى هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية والتي ظلت تتحاشى أن تقول ولو كلمة واحدة ضده أثناء حملتها الانتخابية في حين لم يكن أوباما لا يجد فرصة إلا ويستغلها ويتحدث عن «رجل واشنطن الفاشل».

انتهزت هيلاري كلينتون فرصة تقديم إفادة شفوية أمام مجلس النواب لتقول لهم عندما جاء الحديث عن مذكرة التعذيب «لا تثقوا فيه أو في ما يقول، هو ليس مصدرا موثوقا عندما يتعلق الأمر بالتعذيب» وحين سئلت عن «النجاحات» التي تحدث عنها تشيني والتي حققتها تقنيات «الاستجوابات القاسية» ردت ردا لاذعا حيث قالت «لا أستغرب ما قاله، هو يعرف أنه عمليا ليس مصدرا موثوقا» وقالت كلينتون «يجب أن نمضي قدما للوصول إلى أقصى حدود هذه المسألة الداخلية».

وعندما أعلن أن إدارة الرئيس أوباما بصدد نشر المذكرات السرية (مذكرات التعذيب) التي تسمح للعسكريين وضباط وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) باستعمال «تقنيات قاسية» (أي تعذيب) لاستجواب المعتقلين خاصة المتهمين في قضايا إرهابية، اتجهت الأنظار نحو ستة من كبار مسؤولي إدارة جورج بوش كان يعتقد أنهم سيتصدون جميعا لهذه الهجمة، وهم بوش نفسه وديك تشيني نائب الرئيس وكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية، وستيفن هادلي مستشار الأمن القومي، ودانا بيرينو المتحدثة باسم البيت الأبيض، وربرت غيتس وزير الدفاع.

جورج بوش لم يعلق حتى الآن على سيل الانتقادات التي تكال ضد إدارته، وهو لم يتحدث سوى مرة واحدة عندما ألقى محاضرة في كندا. كوندوليزا رايس التزمت صمتا مطبقا، بل لم تظهر إلى العلن منذ أن غادرت منصبها، على الرغم من أن المعلومات التي نشرت تشير إلى أنها وقعت شخصيا على مذكرة استعمال «التقنيات القاسية». وعلى غرار كوندوليزا توارى ستيفن هادلي عن الأنظار ولم يعد يتحدث عنه أحد، أما دانا بيرينو فإنها انقطعت عن أركان الإدارة السابقة ومنذ مغادرتها البيت الأبيض عملت خبيرة في شبكة التلفزيون المحافظة «فوكس نيوز» وفي منتصف أبريل (نيسان) انضمت إلى شركة علاقات عامة عالمية في وظيفة كبيرة مستشارين. أما روبرت غيتس وزير الدفاع فلا يمكن أن يدافع عن سجل إدارة جورج بوش لسببين، لأنه لم يكن، حتى بعد أن تولى منصب وزير الدفاع بعد رامسفيلد، مع أسلوب سلفه، والأمر الثاني لأنه أصبح الآن جزءا من إدارة باراك أوباما، ولم يعد هناك مجال لانتقاد إدارة أصبح هو نفسه من أركانها. وهكذا لم يبق سوى تشيني الذي لم يكتف بالدفاع عن سجل الإدارة السابقة وحسب، بل راح ينتقد في ظهوره الإعلامي المتكرر الكثير من «سياسات أوباما المتهورة والخطرة» على حد تعبيره. وفي معرض دفاعه عن إدارة بوش قال تشيني إن نشر المذكرات السرية الداخلية، يهدف إلى «استرضاء الحزب الديمقراطي وأيضا بسبب التزامات انتخابية قطعها أوباما على نفسه». وأضاف تشيني متهكما «إدارة الرئيس باراك أوباما لن تطرح ابتداء من الآن أسئلة قاسية على رجالنا (في إشارة إلى الإرهابيين) الذين سنعتقلهم، أليس هذا شيئا عظيما، ربما لأنهم لن يفصلوا رؤوس الناس عندما يلقون عليهم القبض». ولاحظ تشيني أن إدارة أوباما لم تضع مسؤولي مجلس الأمن القومي في الواجهة ليشرحوا للناس قرار الرئيس. وقال تشيني «من تكلم هو المتحدث باسم البيت الأبيض، هذا أمر أزعجني، وهو ما يشير إلى عقلية هذه الإدارة» مؤكدا أن الكشف عن تلك الوثائق جرد ضباط المخابرات الأميركية من قدرات وإمكانيات مهمة.

وكان أوباما تعهد أثناء حملته الانتخابية بوقف تقنيات «الاستجواب القاسية» التي قال إنها ليست سوى عملية تعذيب، وبعد توليه الحكم تعرض الرئيس الأميركي لضغوط كبيرة من الجناح اليساري في الحزب للإيفاء بتعهداته، ولوحت منظمة الحريات المدنية الأميركية بمقاضاته إذا لم يف بالتزاماته، وإشارة تشيني يقصد بها أقوال أوباما خلال الحملة الانتخابية، على الرغم من أن أوباما لم يتحدث عن أسباب أو دوافع سياسية كانت وراء قرار كشف النقاب عن المذكرات السرية، كل ما قاله إن الشعب الأميركي يحتاج إلى القطيعة مع تكتيكات إدارة الرئيس بوش قبل أن تتحرك أميركا إلى الأمام لسياسة عادلة مناهضة للإرهاب.

لكن تشيني رد على أوباما مطالبا بكشف جميع المذكرات بما في تلك التي تقول إن استجواب المعتقلين من تنظيم القاعدة جنب الولايات المتحدة عدة عمليات إرهابية وحال بين «القاعدة» وشن هجمات جديدة على غرار هجمات سبتمبر (أيلول). ويرى تشيني أن الخطر لا يزال ماثلا ومستمرا. وأضاف «تقول إدارة أوباما بطريقة أو بأخرى لا نريد تلك السياسات القاسية التي استعملت من قبل، وهم إما يقولون إن تلك السياسات لم تؤد إلى نتائج، ونحن نعرف أن ذلك ليس صحيحا، أو أنها أدت إلى نتائج، لكن الخطر قد زال وبالتالي يجب أن لا نكون قساة مع الإرهابيين». وعبر تشيني عن اعتقاده بأن ذلك يعتبر «خطأ وقراءة خاطئة للظروف التي أحاطت بتلك العمليات» وقال تشيني إن عدم استعمال إدارة أوباما لتعبير «الحرب ضد الإرهاب» يرسل رسالة خاطئة لأعداء الولايات المتحدة، الذين سيتحولون إلى الهجوم. وأشار ساخرا «لم يبق لنا إلا نقرأ على الذين نعتقلهم قائمة طويلة بحقوقهم وذلك قبل أن نفعل أي شيء، كما تفعل الشرطة الأميركية عندما تعتقل أي شخص». بيد أن إدارة أوباما ردت على تشيني بتسريب معلومات تفيد أن اثنين من أهم أعضاء تنظيم القاعدة المعتقلين في غوانتانامو تواصل تعذيبهما حتى بعد أن قالا كل ما لديهما من معلومات، حيث جربت عملية الإيهام بالغرق مع خالد شيخ محمد الذي يعتقد أنه أحد الرؤوس المدبرة لهجمات سبتمبر 183 مرة، في حين أن أبو زبيدة (زين العابدين محمد حسين) الذي اعتبر بأنه من القادة العسكريين لـ«القاعدة» مورست معه التقنية نفسها 266 مرة.

ونسب إلى خالد شيخ محمد قوله إنه في كل مرة كان التعذيب يصل به إلى حافة الموت قبل عودته إلى الحياة. واستعملت مجموعة طرق مع خالد شيخ محمد منها الإيهام بالغرق والضرب دون ترك أثر والسجن في صندوق والمنع من النوم والتعري لساعات طويلة. ونسب إلى خالد شيخ محمد قوله أيضا لمحاميه «المحققون لم يستعملوا يوما التهديد بالقتل، على العكس كانوا يقولون إنهم لن يسمحوا لي بالموت لكنهم سيوصلونني إلى حافة الموت» كما كشف خالد شيخ أنهم كانوا يعلقون سلكا في إصبعه موصولا من الجهة الثانية بشاشة تسمح لهم بجس نبضه باستمرار ليعرفوا إلى أي مدى يمكنهم أن يعذبوه دون أن يفارق الحياة. وقال أبو زبيدة (زين العابدين محمد حسين) إنه «كان أول من استعملت معهم طرق التحقيق الجديدة التي لا تخضع لأي مراقبة حسبما قالوا له». وقال إنه وضع في علبة، وبعد ذلك أجبر على الدخول في علبة أخرى حجمها أصغر بحيث يجبر على أن يحني جسده باستمرار. وأضاف أبو زبيدة أن إحدى الطرق كانت ربط منشفة حول عنقه يجره المحققون بها ويضربون به على الحائط الخشبي. لم تقتصر انتقادات ديك تشيني على موضوع «مذكرة التعذيب» بل طالت انتقاداته مبادرات إدارة باراك أوباما في مجال السياسة الخارجية ومعالجة الأزمة الاقتصادية، إذ إنه اتبع أيضا أسلوب « الهجوم» وليس فقط الدفاع، حيث وصف مصافحة باراك أوباما للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز على هامش قمة الأميركيتين بأنها «غير مفيدة» وقال إن «خصوم الولايات المتحدة سيعتقدون أنهم يتعاملون مع رئيس ضعيف» وقال تشيني إن أوباما ذهب إلى أوروبا واعتذر هناك ثم ذهب إلى المكسيك واعتذر هناك أيضا. وبشأن مبادرات إدارة أوباما لمعالجة الأزمة الاقتصادية قال تشيني «أتوقع أن تؤدي السياسات الاقتصادية إلى تدمير مجتمعنا على المدى الطويل».

وعندما ضاقت إدارة أوباما ذرعا بهجوم تشيني، أصبح روبرت غيبس المتحدث باسم البيت الأبيض يحرص بطريقة دائمة على الرد على تشيني، وفي آخر تعقيباته قال غيبس «الأمور التي يتحدث عنها تشيني ظلت محل انتقاد من طرف الرئيس منذ سنوات، وقال إن جوهر الموضوع الذي لم يستطع ديك تشيني استيعابه هو كيف تستطيع أن تحمي الأميركيين وفي الوقت نفسه المحافظة على قيم الحرية واحترام حقوق الآخرين وهي المبادئ التي قام عليها هذا البلد».

لكن لماذا أصبح تشيني هو المدافع الوحيد عن تركة بوش ولماذا اختار هذا الأسلوب في الدفاع عن ما قامت به الإدارة السابقة؟ ترد «لينا غيبونز» الباحثة في معهد بروكنز على السؤال قائلة «ظل تشيني يطبع إدارة بوش بطابعه السياسي والأيديولوجي وهو الذي كان يقود تيار المحافظين الجدد، لذلك هو يدافع عن نفسه وليس فقط يدافع عن إرث الرئيس جورج بوش، لذلك لاحظنا أنه يستعمل عبارة «الإدارة السابقة» وليس «إدارة الرئيس جورج بوش» وتضيف غيبونز «محاولات تشيني الدفاع عن الإدارة السابقة تأتي في وقت يواجه فيه الحزب الجمهوري عواصف عاتية كان آخرها انشقاق السيناتور الجمهوري أرلين سبكتر وانضمامه للديمقراطيين، وربما يضع نائب الرئيس السابق هذا الأمر في الحسبان» وتضيف غيبونز «ربما يجد تشيني مبررات قوية في أن سبتمبر (هجمات) لم تتكرر لكن سجل الانتهاكات يصعب التستر عليه من طرف أوباما وإلا فقدت هذه الإدارة زخما قويا حصلت عليه خلال الحملة الانتخابية».