الشيشان: الحرب انتهت.. والمخاوف قائمة

رغم انتهاء الحرب فإن تداعياتها ستستمر أصداؤها بمختلف أرجاء منطقة القوقاز وروسيا والعالم

TT

عادت الشيشان، التي اختفت من العناوين الرئيسة لوسائل الإعلام الدولية والروسية لبضع سنوات، إلى دائرة الاهتمام الإعلامي، لكن هذه المرة تحمل الأنباء وجهين؛ أحدهما إيجابي، والآخر سلبي. على الجانب الإيجابي، نجد أنه في 16 أبريل (نيسان) أنهت روسيا رسميا عملية مكافحة الإرهاب التي شنتها داخل الشيشان، والتي استمرت لما لا يقل عن 10 أعوام! وقوبل إعلان انتهاء الحرب رسميا باحتفالات داخل الشيشان. إلا أنه لاقى حماسا أقل بكثير من قبل النخب الروسية التي رأت فيه نصرا للرئيس الشيشاني، رمضان قديروف، الذي زادت سلطته في الشيشان على نحو بالغ خلال العام الأخير، بينما تراجع النفوذ الروسي عليه بدرجة كبيرة. على الجانب السلبي، هاجم مسلحون في دبي في 28 مارس (آذار) سليم ياماديف وأردوه قتيلا، وهو إحدى الشخصيات البارزة في الشيشان والقائد السابق لكتيبة «فوستوك» التابعة لوزارة الدفاع الروسية. وبعد شهر، حددت الإنتربول سبعة مشتبهين ـ جميعهم مواطنون شيشان وروس ـ مطلوب إلقاء القبض عليهم على خلفية مقتل ياماديف. وسلط هذان التطوران الأضواء على حقيقة أنه رغم انتهاء الحرب في الشيشان، فإن تداعياتها ستستمر أصداؤها بمختلف أرجاء منطقة القوقاز وروسيا والعالم بأسره. والملاحظ أن نهاية الحرب في الشيشان لم تكن مفاجأة، ذلك أنه على أرض الواقع انتهت مرحلة نشطة في الحرب بعد قتل القوات الروسية لرئيس «الشيشان المستقلة»، أصلان ماسخادوف، وأكثر قادة المتمردين عنفا، شامل باساييف. ورغم استمرار أعمال القتال على نحو ضئيل داخل مناطق منعزلة في الشيشان، انتقلت الجهود الرئيسة إلى الصعيد السياسي. في أعقاب مقتل والده أحمد قديروف، أول رئيس منتخب للشيشان بعد إعادة إقرار موسكو سيطرتها على الجمهورية، تولى نجله رمضان قديروف، زمام الأمور في الجمهورية. وقد انتخب لتولي هذا المنصب بمجرد تمكنه دستوريا من الترشح بعد أن أكمل الثلاثين من عمره عام 2007. ورغم سنه الصغيرة، تمكن قديروف الابن من ترسيخ مكانته كزعيم وطني حقيقي يحظى بشعبية كبيرة بمختلف أرجاء الشيشان، بل ويرى البعض أن إعجاب البعض بشخصه وصل إلى حد الوله. ويستقي قديروف الابن شرعيته من العديد من العوامل، على رأسها الإنجازات التي حققها داخل الشيشان. وقد نجح قديروف الابن في اجتذاب قدر كبير من الأموال الفيدرالية، وإعادة بناء غروزني ـ التي عندما زرتها العام الماضي انتابتني الدهشة لأنني لم أكد أرى أثرا لمبان مدمرة، بينما بدت المدينة مدمرة تماما منذ سنوات قليلة ماضية ـ علاوة على بنائه هيكلا قويا للدولة نجح في مساعدته على تعزيز سلطته داخل الجمهورية ومكنه من الدخول على نحو متزايد في تحد لنفوذ، بل ووجود، القوات الروسية في الشيشان. والمؤكد أن نظام قديروف غير ديمقراطي، فمن المعروف أن قواته الأمنية ـ التي تتألف من متمردين سابقين ـ تتسم بالوحشية وتعمل في بعض الأحيان خارج إطار القانون. وقد تمكن قديروف من فرض المعايير والقواعد الخاصة به. وقد عمد بقوة إلى فرض القيم الإسلامية في الشيشان، حيث ألزم النساء بارتداء الحجاب وشجع الرجال على اتخاذ أكثر من زوجة (وهما أمران يتناقضان مع القوانين الروسية). وفي الوقت ذاته، أصدر عفوا عن بعض المتمردين السابقين، بل ودعا بعض المنفيين البارزين، الذين لم تزل موسكو تعتبرهم أعداء لها، للعودة إلى الشيشان.

وعلى الجانب الآخر، نجد أنه داخل روسيا يولي الرئيس السابق وربما أقوى رجل بالبلاد حتى الآن، فلاديمير بوتين، دعمه لقديروف لمواقفه الحازمة ضد المتمردين ودعمه لبقاء الشيشان جزءا من الاتحاد الروسي. وعندما التقيت قديروف في غرزوني العام الماضي برفقة مجموعة من الخبراء والصحافيين الغربيين، حرص الرئيس الشيشاني على شرح السبب وراء تأييده القوي لبقاء بلاده داخل روسيا. والآن، يعتقد قديروف أن الحرب داخل بلاده جرى التحريض عليها وخوضها من قبل أفراد يمثلون أعداء للشيشان وروسيا معا، رغبوا في انفصالها عن روسيا كأداة لتمزيق روسيا وتدميرها. وعليه، يرى قديروف أنه من خلال معاونة روسيا على إنزال الهزيمة بالمتمردين الانفصاليين والجهاديين، فإنه ساعد روسيا على البقاء. ويبرر هذا بدوره مطالب الشيشان بضرورة الاعتراف بإسهاماتها ومكافأتها. ومن المقرر تدريس هذه النظرة إلى الأحداث التاريخية الماضية في المدارس الشيشانية، وسوف تستمر في تأجيج رغبة الشيشان في كسب المزيد من النفوذ داخل روسيا لأجيال قادمة. ولهذا السبب، يعتقد الكثيرون داخل الشيشان وباقي أرجاء روسيا أنه من خلال سعيه للتصالح مع الكرملين، نجح قديروف في الفوز بمزيد من النفوذ داخل موسكو عما كان عليه الحال بالنسبة لأسلافه من الانفصاليين (أمثال جوهر دوداييف وماسخادوف) الذين أخفقوا في حصد قدر مكافئ من النفوذ عبر قتال الروس. ومن المحتمل أن يساعد إنهاء عملية مكافحة الإرهاب في مزيد من التعزيز لسلطة قديروف وإطالة أمد الاستقلال «الفعلي» الذي تتمتع به الشيشان عن موسكو. وتتمثل النتيجة الفورية المترتبة على قرار إنهاء العملية في انسحاب ما يزيد على 25 ألفا من القوات الروسية قريبا من الشيشان. وتتمثل نتيجة أخرى في تزايد القوة الاقتصادية لقديروف، نظرا لأنه في أعقاب انتهاء الحرب رسميا، لن يعود لموسكو سيطرة على الاستثمارات المتجهة إلى داخل الشيشان. ولدى قديروف بالفعل تصورات لمشروعات اقتصادية جديدة مع شركاء أجانب، غالبيتهم من العالم الإسلامي. ومن المتوقع أن يكتسب مطار غروزني مكانة كبيرة كمطار دولي. والمؤكد أنه سيرحب بأبناء الشتات الشيشاني الضخم بمختلف أرجاء العالم الراغبين في زيارة بلادهم وجلب أموال معهم. بيد أن إنهاء الحرب رسميا في الشيشان لا يعني أن السلام عم فيها وداخل مناطق الجوار، فرغم أن أعمال العنف تضاءلت حدتها بدرجة بالغة عما كانت عليه منذ 9 أو 10 سنوات ماضية، فإنها تبقى عند مستوى مرتفع ومنتشرة عبر جنبات شمال القوقاز. وعلى سبيل المثال، خلال الشهور الثلاثة الأولى من العام الحالي، شهدت الشيشان تنفيذ 88 عملية خاصة ضد جماعات متمردة لا تزال تعمل في بعض أجزاء البلاد، وألقي القبض على 66 متمردا مشتبها به، ووقعت ثلاث هجمات إرهابية أسفرت عن مصرع ما يزيد على 10 من جنود ومدنيين. في الوقت ذاته، تعرض 24 مدنيا للاختطاف ولقي بعضهم حتفه. وفي إقليم أنغوشيا المجاور، وخلال الفترة ذاتها، لقي 12 جنديا و17 مدنيا مصرعهم في هجمات متفرقة. وفي داغستان المجاورة، قتل ما يزيد على 10 جنود وأصيب 20 بجروح، علاوة على إصابة 7 مدنيين جراء عمليات خاصة متنوعة وهجمات ضد مسؤولين معنيين بفرض القانون، والتي أصبحت أشبه بظاهرة يومية. وداخل شمال القوقاز على نحو إجمالي، أشارت القوات الأمنية الروسية إلى أنه خلال الشهور الثلاثة الأولى من العام الجاري، لقي 67 «متمردا» مصرعهم، وألقي القبض على 233 للاشتباه في انتمائهم إلى جماعات مسلحة غير قانونية، إضافة إلى تمكن القوات الروسية من الحيلولة دون وقوع 35 هجوما إرهابيا. لكن هل بمقدور إنهاء الحرب تغيير هذه الإحصاءات المثيرة للقلق؟ يبدو أن الإجابة بالنفي. جدير بالذكر أنه في أعقاب إعلان نهاية الحرب بأيام قلائل، استمر القتال بين القوات الروسية والجماعات المتمردة في الشيشان. وفي 22 أبريل (نيسان)، قتل ثلاثة جنود روس بعد تعرض السيارة التي تقلهم لهجوم. وفي 25 أبريل (نيسان) وقعت مصادمات أخرى بين متمردين وقوات روسية. ومن ناحيتها، حاولت القوات الروسية إعادة إقرار النظام المرتبط بعمليات مكافحة الإرهاب ببعض قطاعات الشيشان حيث تدعي أن ما يزيد على 60 متمردا يستعدون لشن هجمات. إلا أن قديروف رفض السماح بذلك. ومن الآن، سيتولى قديروف مسؤولية التعامل مع مشكلة استمرار العنف داخل الجمهورية، وقد ألمح بالفعل أنه لا ينوي إصدار عفو بحق المتمردين الباقين في المستقبل. والواضح أن نموذج قديروف ترك تأثيرا قويا داخل أقاليم أخرى بشمال القوقاز، حيث أثبت أن الانفصال المسلح لا مستقبل له بالمنطقة. لكنه أظهر كذلك أن قبضة موسكو المسيطرة على المنطقة تتراخى، ليس من خلال الحرب، وإنما من خلال التقارب الاستراتيجي وإبرام الاتفاقات التي في إطارها تطالب النخب الإقليمية بصورة متزايدة بالحصول على ثمن ولائهم متمثلا في حق محاربة أعدائهم بأسلوبهم الخاص، وليس فقط داخل الأقاليم التي يسيطرون عليها، وإنما أيضا فيما وراء ذلك بكثير. وعلى امتداد العقد الماضي، تبدلت التكتيكات الروسية داخل الشيشان، حيث تطورت من المواجهات بين القوات الروسية والجماعات الشيشانية المسلحة إلى تمكين الشيشان من تسوية خلافاتهم وصراعاتهم بأنفسهم فيما بينهم. إلا أن هذه السياسة، التي يطلق عليها «الشيشنة»، سارت جنبا إلى جنب مع دعم عناصر مختلفة داخل الحكومة والقوات الأمنية الروسية لجماعات متباينة تتصارع على السلطة في الشيشان. وقد تمت تسوية الكثير من هذه الصراعات الداخلية على مر السنوات، غالبا بالتوافق مع التقاليد الشيشانية التي لا تزال ترى الثأر من العادات المقبولة بين الأفراد والعشائر والعائلات الضخمة. أما الصراع الأكبر على السلطة في الشيشان فوقع بين أشقاء ياماديف، الذين سيطروا في فترة من الفترات على غديرميز، أحد الأقاليم الحيوية بالشيشان، والرئيس رمضان قديروف. وكان الجانبان من الموالين لموسكو ـ ودعي الجانبان لحضور حفل تنصيب الرئيس ميدفيديف في الكرملين ـ وكلاهما يسعى للتأكيد على نفوذه داخل الشيشان. ولدى رسلان وسليم ياماديف أصدقاء أقوياء في موسكو، لكن نفوذهما في الشيشان بات عرضة للخطر. ويكن قديروف الكراهية لهما، ليس فقط باعتبارهما مصدر تحد محتمل لسلطته، وإنما يمتد الأمر للكراهية على المستوى الشخصي، حيث اتهم سليم ياماديف بالتورط في الهجوم الإرهابي الذي أسفر عن مصرع والده الرئيس أحمد قديروف. وفي وقت لاحق، سعى قديروف الابن للقبض على سليم ياماديف لصلته المزعومة بجرائم وأعمال قتل بحق شيشانيين آخرين. وعلى الجانب الآخر، ساندت موسكو، تحديدا بعض أعضاء مؤسستها العسكرية، ياماديف على مدار فترة طويلة، ومكنوه قريبا من إرسال كتيبة «فوستوك» التي يسيطر عليها للقتال ضد جورجيا في الحرب التي اندلعت في أغسطس (آب) 2008 في أوستيا الجنوبية. لكن الفوز في النهاية كان من نصيب قديروف، وسرعان ما طرد ياماديف من قيادة «فوستوك» وتم حل الكتيبة. ولاحقا، لقي رسلان، الشقيق الأكبر لسليم ياماديف، مصرعه في موسكو في حادث اغتيال علني وقع في وضح النهار على بعد أمتار من البيت الأبيض الروسي، مقر الحكومة الروسية. كان رسلان عضوا بالبرلمان الروسي وعمل قبل ذلك نائبا لقائد القوات الروسية في الشيشان، وبالتالي شارك بنشاط في قتال الجماعات المتمردة. وسرعان ما أعقب اغتيال رسلان محاولات اغتيال بحق شقيقه سليم، حتى تم اغتياله بالفعل في دبي في 28 مارس (آذار)، حسبما تشير المزاعم السائدة (رغم أن شقيقا آخر له يؤكد أنه نجا). وجاء مقتل الشقيقان ياماديف بمثابة صدمة لروسيا والعالم، لكن من غير المحتمل أن يمثلا نهاية عمليات الاغتيال. الواضح أن إنهاء الحرب زاد من المخاطر السياسية والاقتصادية المرتبطة بالصراعات الداخلية على السلطة داخل الشيشان. في الوقت الراهن، لا يوجد منافس واضح أمام قديروف، لكن تاريخ الشيشان الممتد لقرون طويلة يؤكد أن هذا الوضع لا يدوم طويلا. والمؤكد أن إقرار الاستقرار الداخلي في الشيشان سينطوي على صعوبة أكبر بكثير عن إنهاء الحرب الروسية.

* زميلة بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن