أهمية الأسفلت

«مبادرة الأسفلت» التي أعلنها أوباما مثل مبادرة الطرق البرية التي أعلنها أيزنهاور.. كلتاهما ستغير العقد المقبل

تطوير فكرة الأسفلت نقلت التجارة الداخلية نقلة هائلة
TT

يوم الثلاثاء، قال الدكتور سكوت غوردون، الأستاذ في جامعة سنوما ستيت (ولاية كاليفورنيا) ومدير «متحف الأسفلت» لـ«الشرق الأوسط»، إنه سعيد بما أسماها «مبادرة الأسفلت» التي أعلنها الرئيس باراك أوباما. وقال إنه يأمل أن تساعده المبادرة، بطريقة أو بأخرى، على توسيع المتحف الصغير (ليخرج مكتبه في الجامعة، حيث يوجد الآن).

وقال إنه يجمع في المتحف قطعا من الأسفلت من مختلف الولايات الأميركية، ومن مختلف دول العالم. وخاصة من الطرق والشوارع المشهورة. مثل: الطريق «66»، أول طريق أسفلت قاري في أميركا، بني سنة 1926، من ساحل ولاية كاليفورنيا إلى شيكاغو. ويسمي «أبو الطرق».

وقال إنه يود أن يرسل له شخص قطعة من شارع أسفلت مشهور في العالم العربي. وتذكر أنه قرأ أن أول شارع مرصوف بني في العراق قبل ثلاثة آلاف سنة (في أور عاصمة إمبراطورية بابل) من «زفت» من جورجيا الحالية، على البحر الأسود. وقال إن قطعة من شارع أسفلت من العراق ستكون مناسبة لمتحفه المتواضع.

يقصد من «مبادرة الأسفلت» قرار الرئيس أوباما برصد أكثر من مائة مليار دولار لبناء وصيانة شوارع وطرق برية وكباري في مختلف الولايات. وذلك كجزء من خطته لتنشيط الاقتصاد لإخراج البلاد من الكارثة الاقتصادية الحالية. وتقوم فلسفة أوباما على أن تصرف الحكومة على برامج عملاقة (مثل الصحة، والتعليم، والطرق) لهدفين: أولا: تقديم خدمات لعامة المواطنين. ثانيا: تقديم فرص للشركات والمصانع والبنوك.

وفي الشهر الماضي في أورلاندو (ولاية فلوريدا)، انعقد المؤتمر السنوي للمنظمة العالمية للأسفلت. وأيضا، أيد خطة أوباما و«مبادرة الأسفلت». تضم هذه المنظمة شركات صناعة ورصف الأسفلت، ووزارات الأشغال والطرق في أكثر من ستين دولة. ورغم الكارثة الاقتصادية الحالية، في أميركا وخارج أميركا، وصف المسؤولون عن المؤتمر بأنه كان «ناجحا جدا».

حضر المؤتمر أكثر من ستة آلاف شخص، منهم أكثر من ألف من خارج أميركا. ويبدو أن كلهم اعتبروا أنفسهم أكثر المحظوظين في وقت أفلست فيه شركات وبنوك كبيرة، في أميركا أو غير أميركا.

وألقيت في المؤتمر محاضرات عن مواضيع مثل: صيانة طرق الأسفلت، آخر تطورات صناعة الأسفلت، «عملية جراحية» لشارع أسفلت، كيف «تضمد» جرح شارع أسفلت؟ الحلم الأسفلتي: شارع لا يحتاج إلى أي صيانة.

لكن، قال أستاذ في اقتصاديات الطرق إن خطة أوباما لن تكون مربحة كثيرا، وذلك لأكثر من سبب:

أولا: ارتفعت أسعار المواد الحجرية والزيتية التي تستعمل لبناء شوارع الأسفلت. كان سعر طن الأسفلت خمسة وسبعين دولارا، وتضاعف الآن. ثانيا: بسبب الكارثة الاقتصادية، قل استعمال الناس للسيارات، أو صاروا يقتصدون في استعمالها. وتسبب ذلك في انخفاض شراء البنزين. وبالتالي، انخفاض الضرائب التي تنالها الحكومة على البنزين. وهي الضرائب التي، عادة، ما تذهب إلى ميزانيات بناء الطرق.

بسبب قرار أوباما برصف وصيانة شوارع وطرق الأسفلت في طول أميركا وعرضها، وبين ليلة وأخرى، تأسس في واشنطن أكثر من «لوبي أسفلت». وكان واحد منها «تحالف طرق الأسفلت»، والذي أصدر تقريرا عنوانه: «الأسفلت سيقود الخروج من الكارثة الاقتصادية». وقال التقرير: «نتعهد للرئيس أوباما بأننا لن نصدر أي وظيفة إلى خارج الولايات المتحدة، ونحرم منها الأميركيين». هذه إشارة إلى أن شركات أميركية كبيرة إما نقلت رئاساتها إلى خارج أميركا (هروبا من الضرائب)، أو فتحت فروعا خارج أميركا (لدفع رواتب أقل للأجانب بالمقارنة مع رواتب الأميركيين). وطبعا، هذه دعاية مجانية لأن شركات الأسفلت وبناء الطرق لن تقدر على أن تعمل داخل أميركا من خارجها. وهناك لوبي «اتحاد مصانع الأسفلت»، وهو غير لوبي بناء الطرق والشوارع. واستغل مايك سكوت، رئيس الاتحاد، مبادرة الرئيس أوباما، وأعلن خطوات نحو اختراعات جديدة: أولا: أسفلت «دافئ»، لا يحتاج لدرجة حرارة عالية وقت رصف الشارع. ثانيا: أسفلت «دائم»، لا يحتاج إلى صيانة. ثالثا: أسفلت «غربال»، به ثقوب لتصريف مياه الأمطار. رابعا: أسفلت «نظيف»، لا يؤذي البيئة ولا يتسرب إلى ماء الشراب.

لكن ما هو أصل كلمة «أسفلت»؟

كلمة «اسفالتوس» اليونانية، وتعني السواد. ثم كلمة «اسفالتون» اللاتينية، ثم «اسفالتوم» أو «اسفالتينز»، وهي مادة في النفط الخام. توجد في النفط مواد أخرى، مثل: «ريزين» (نوع من الصمغ، من بقايا الأشجار التي اختلطت، عبر القرون، مع النفط، وتستعمل في صناعة ورنيش تلميع الأحذية). ومثل: «برافين» (دهن الشمع).

و«اسفالتينز» أثقلها، وينقل سائلا، أو باردا، ثم يسخن (ثلاثمائة درجة فهرنهايت، أو مائة وخمسين درجة سنتغريت) ليكون لينا، ويسهل وضعه على الطرق، وأحيانا يضاف إليه قليل من زيت الديزل ليصير أكثر ليونة. لكن، قبل «اسفالتينز» (أسفلت)، كان الناس يستعلمون «تار» (قطران، أو زفت) في رصف الطرق. واحد يستخرج من النفط، والثاني من الفحم الحجري.

وفي سنة 1644، اخترع جون هلمونت، عالم فرنسي، ماكينة لتحويل الفحم الحجري إلى غاز للاستهلاك. في البداية، كان مغرما بالتطلع إلى الغازات التي تخرج من احتراق الفحم الحجري، وسماها «غازات شيطانية». لكنه، في وقت لاحق، عرف كيف يحرق هذا الفحم، ويحوله إلى «كول قاس» (غاز فحم). وبعد مائتي سنة، سمي «تاون غاز» (غاز المدن)، وذلك لأنه كان ينقل بأنابيب إلى المنازل الأميركية والأوروبية. ويستعمل لإعداد الطعام، وللتدفئة، وللمصابيح.

وفي سنة 1717، بنى جون متكاف، مهندس اسكوتلندي، أول طريق مرصوف في أوروبا. واستفاد من «تار» (قطران أو زفت) الذي كان يستخرج من احتراق الفحم الحجري. كان طول الطريق 180 ميلا، من لندن إلى يوركشاير. بدأ بحجارة كبيرة، ثم صغيرة، ثم رمل، ثم زفت. (رغم أنه كان أعمى).

وبعد مائة سنة تقريبا، وفي سنة 1820، طور الطرق جون ماكادام، أيضا مهندس اسكوتلندي. ونشر وصفة مفصلة عن حجم الحجارة التي استعملها (مثلا: يجب أن تدخل كل حجرة داخل دائرة قطرها بوصة واحدة). وسمي الاختراع «تار ماكادام» (زفت ماكادام). ثم تحول الاسم إلى «تارماك»، وهو الاسم الذي يستعمل حتى اليوم في رصف ممرات إقلاع وهبوط الطائرات.

وبعد أربع سنوات، وفي سنة 1824، رصف شارع «شانزليزيه» في باريس. وفي سنة 1972، استعمل د. إدوارد سميدت، أستاذ الهندسة في جامعة كولومبيا في نيويورك، الزفت لرصف أول شارع في نيويورك (الآن، «فيفث أفنيو»، الشارع الخامس). وفي سنة 1877، رصف أول شارع في واشنطن العاصمة، شارع بنسلفانيا الذي يربط البيت الأبيض بمبنى الكونغرس. وفي وقت لاحق، بعد استخراج النفط في كاليفورنيا، حل الأسفلت محل الزفت.

وبعد الحرب العالمية الثانية، زاد استعمال «ناتشورال جاس» (غاز طبيعي)، والذي ينقل اليوم إلى المنازل في أنابيب تحت الأرض، أو في «أنابيب» محمولة. وهو يتكون من «بروبين» (غاز المنازل) و«بيوتين» (الأكثر اشتعالا، وأكثر قدرة على التحول إلى سائل). ولهذا، بعد أن انخفض استعمال غاز الفحم الحجري لتوليد الطاقة، وزاد الاعتماد على النفط، انخفض استعمال «الزفت» في رصف الطرق، وزاد استعمال «اسفالتينز». لكن، ليس كل الأسفلت من النفط. لأن «اسفالتينز» أيضا يوجد في «بحيرات» في فنزويلا، وترينداد (البحر الكاريبي)، وولاية ويست فرجينيا (أميركا)، وولاية ألبرتا (كندا). ويسميه بعض الناس «تار» (قطران أو زفت)، وذلك لأنه ليس مثل النفط، ولا يتحول إلى ديزل أو بنزين. ويسميه بعض الناس «وايلد أويل» (النفط المتوحش). ولا يستعمل في رصف الطرق.

وحسب كلام د. سكوت غوردون لـ«الشرق الأوسط» يعتقد أن «الزفت» الذي استعمل في بناء أول شارع مرصوف في العراق كان من بحيرات زفت من شرق البحر الأسود (جورجيا حاليا). وغير أهل بابل، عرف «الزفت» الفراعنة (استعملوه في تحنيط مومياوات). وقدماء الصينيين (في بناء تماثيل بوذا وغيره). وقدماء الفرس (في إشعال النار «الدائمة» التي كانوا يعبدونها).

ولمائة سنة تقريبا، كان «زفت» ترينداد يصدر إلى أوروبا وأميركا ليستعمل في رصف الطرق. اليوم، يستعمل الأسفلت في رصف خمسة وتسعين في المائة من طرق وشوارع أميركا. وتستعمل الخرسانة أيضا. ويتوقع أن تكون «مبادرة الأسفلت» التي أعلنها أوباما مثل مبادرة الطرق البرية التي أعلنها الرئيس أيزنهاور قبل أكثر من نصف قرن، وربطت المدن الأميركية بأكثر من خمسين ألف ميل من الطرق البرية.

وعن هذا، قال بيتر غراس، مدير معهد الأسفلت: «طبعا، نحن سعداء لأن الحكومة الأميركية، أخيرا، قررت الانتباه إلى تدهور الطرق والشوارع والكباري. ونحن مستعدون». وقال إن المعهد يعتمد على دعم من شركات نفط، مثل: «إكسون موبيل» و«إمبريال». وقال إنهم بعد مبادرة أوباما، يفكرون في تأسيس «أكاديمية أسفلت». (في الشهر الماضي، احتفلت مجلة «أسفلت» التي يصدرها المعهد بمرور ستين سنة على تأسيسها. ونشرت أول صورة على أول غلاف في سنة 1949: صورة مطار واشنطن بعد رصف ممرات الطائرات فيه).

ولا يذكر الأسفلت إلا وتذكر «بيفر» (الماكينة العملاقة التي تسخن الأسفلت، ثم تبسطه على الأرض). وهي اختراع أميركي. في سنة 1919، نشرت مجلة «بوبيولار ساينس» العلمية الأميركية صورة واحدة من هذه الماكينات أرسلها الأميركيون إلى فرنسا لرصف طرق مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وافتخرت المجلة بالاختراع الأميركي، وكتبت: «حتى الفرنسيون لم يعرفوا مثل هذه الماكينة العملاقة، وهم الذين يدعون أنهم أصحاب الحضارة الحديثة. هذه الماكينة دليل على العبقرية والإبداع الأميركي».

وصورت أفلام سينمائية أميركية هذه الماكينة والأسفلت الساخن يصب على الأرض، والدخان يتصاعد، وزئير الماكينة العملاقة، والعمال وقد غطاهم السواد والعرق يتصبب منهم. وأيضا، يبدأ فيلم «أسفلت» الألماني بمنظر الماكينة العملاقة، ودخانها وصوتها العالي. لكن، صار لذلك معنى خاص. لأن الفيلم صدر سنة 1929، مع بداية ظهور أدولف هتلر، ونظريات النازية عن تطوير وتصنيع ألمانيا، انتقاما من هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وفي فيلم «أسفلت جنجل» (غابة الأسفلت) سنة 1950، تظهر الماكينة العملاقة في قصة سرقة بنك في نيويورك، واستعمل اللصوص أنفاقا تحت شوارع الأسفلت لسرقة متجر للجواهر والذهب. ويجرى الآن إخراج فيلم اعتمادا على قصة كارل روكس، أديب شاب أسود في نيويورك، وأيضا اسمها «أسفلت»، وهي عن الحياة في حي للطبقة الفقيرة في نيويورك (ولد المؤلف ف هارلم، في حي الزنوج في نيويورك). وسبب الاسم هو طريق عال يفصل بين الحي الفقير وحي للأغنياء.

وفي السنة الماضية، أضافت مكتبة الكونغرس الفيلم إلى محفوظاتها التاريخية.

وأخيرا، ظهر فن الرسم على الأسفلت. رسم واحد الملكة إليزابيث الأولى على شارع في لندن. ورسم ثان أربع بنات أوروبيات بيضاوات ومعهن بنت سوداء (رمزا للتسامح بين الأعراق) على شارع في بروكسل. ورسم ثالث الرئيس الأميركي السابق كلينتون على شارع في واشنطن. ورسم رابع كلبه المفضل على شارع في لوس أنجليس.

وتغني فرقة «مانبريك» الأميركية لشارع أسفلت، وتقول: «في الطريق الريفي، يتلوى شارع الأسفلت». وكتب السويدي مايكل أندرسون قصيدة فيها: «بطيئا يسقط الثلج. ناعما وهشا. فوق شارع الأسفلت الرمادي. وسريعا سيختفي». وكتب لبناني يخاطب الشعب اللبناني، بعد إصلاح شارع أسفلت حيث يسكن: «افرح أيها الشعب بهذا الإنجاز العظيم. صار بإمكاننا قيادة سياراتنا مرفوعي الرأس. بعد أن كان رأسنا يرتطم بسقف السيارة عند نزولنا هذه الحفر».