نفوذ إيراني في كشمير

صلات ثقافية وسياسية راسخة الجذور بين إيران وكشمير جعلت البعض يطلقون على الإقليم في فترة من الفترات «إيران الصغرى»

كشميرية في مسجد الملا الإيراني مير سيد همداني في كشمير (رويترز)
TT

هل تتحسس الهند من النفوذ الإيراني الثقافي والسياسي في إقليم كشمير الهندي ذي الأغلبية المسلمة؟ لا أحد يعرف بشكل مؤكد كيف تفكر السلطات الهندية في هذا. لكن بالرغم من العلاقات الاقتصادية والسياسية التي تربط الهند بإيران، يدور جدال داخل الهند حول ما إذا كانت إيران تشكل خصما أم «شريكا استراتيجيا». ويشير من يعارضون التقارب مع إيران إلى سياساتها المعادية فيما يخص إقليم جامو وكشمير الهندي، الذي تواجه نيودلهي داخله جماعات انفصالية تريد الاستقلال عن الهند وربما الاندماج مع باكستان. فهناك دوائر إيرانية تدعم مساعي الانفصاليين في جامو وكشمير. ويتضح النفوذ الإيراني على المشهد السياسي الكشميري في الاتصالات المنتظمة بين قيادة «مؤتمر حرية جميع الأحزاب»، وهي جماعة انفصالية كشميرية، والمسؤولين الإيرانيين في نيودلهي. وقد عمدت طهران من جانبها للترويج دوما للقضية الكشميرية ودعم المشاعر الانفصالية ومساندتها سياسيا وماليا. ومنذ فترة قصيرة خرج أحد القيادات البارزة بحزب «مؤتمر حرية جميع الأحزاب» ببيان أكد خلاله أنه من المستحيل تدخل دولة مسؤولة مثل إيران في الانتخابات البرلمانية في كشمير. وجاء البيان في أعقاب ظهور تقارير إعلامية حول استدعاء السفارة الإيرانية في نيودلهي رجال دين شيعة من كشمير ومطالبتهم بتوجيه دعمهم إلى أحد المرشحين الشيعة بانتخابات منطقة سرينغار البرلمانية. كل هذه الأحداث تقلق مسؤولين في الهند، لكن ما يقلق البعض أكثر أن النفوذ الثقافي والديني الإيراني أكبر وأعمق من النفوذ السياسي. فقد تمتعت إيران بنفوذ قوي داخل إقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة في الهند، حيث تشير الأدلة التاريخية إلى أن الإسلام دخل كشمير على يد الإيرانيين في القرن الرابع عشر. وبلغت الصلات الروحية والثقافية راسخة الجذور بين إيران وكشمير مبلغا كبيرا، جعل البعض يطلقون على الإقليم في فترة من الفترات «إيران الصغرى». وكانت الفارسية اللغة الرسمية والأدبية للإقليم لبعض الوقت. ورغم أن التفاعل بين كشمير وإيران يرجع تاريخه إلى ما قبل ظهور الإسلام، فإن التحول الأكبر في العلاقات بين الطرفين يكمن في عام 1360 بانتقال الملا الإيراني مير سيد علي همداني إلى كشمير، حيث أرسى قواعد الإسلام هناك، الأمر الذي أحدث تغييرا هائلا في مختلف مناحي الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفنية بالإقليم. ويعد همداني واحدا من الشخصيات التاريخية الرئيسة التي يعتقد المؤرخون أنها أسهمت في صياغة شكل كشمير الجديدة. فقد ترك همداني تأثيرا كبيرا على الأصعدة الفنية والثقافية والاقتصادية داخل الإقليم. ومن بين أتباعه الـ700 الذين رافقوه في رحلته إلى كشمير رجال معنيون بالفنون والحرف حققوا حالة من الازدهار داخل الإقليم. ونشر هؤلاء الرجال فن صناعة الشال والسجاد والنسيج والخزف والخط. وأعرب الشاعر الهندي الشهير علامة إقبال عن اعتقاده بأن الفضل يعود إلى همداني في دخول الفنون والحرف الرفيعة إلى الإقليم، الأمر الذي أحدث نقلة ثقافية واقتصادية كبيرة في كشمير. كما كان من شأن المهارات والمعرفة التي نقلها همداني إلى كشمير إحداث نهضة بصناعة لا تزال معروفة حتى الآن باسم الشال الكشميري. وساعدت المهن والحرف التي أدخلها إلى وادي الكشمير ذي المناظر الطبيعية الخلابة، الذي يشتهر باسم «سويسرا آسيا»، في توفير مصدر رزق للحرفيين في كشمير على مر قرون عدة. وحتى الآن، لا تزال الروابط قوية بين كشمير وإيران على الصعيدين السياسي والثقافي. والملاحظ أن آيديولوجية الثورة الإيرانية عام 1979 كان لها عميق الأثر على الحياة السياسية الكشميرية، وأثارت الكثير من الجماعات الساعية لضمان استقلال كشمير علانية في منتصف الثمانينات قضية «الثورة الإسلامية» باعتبارها «السبيل الوحيد لتحرير» كشمير. كما ترتبط منطقة كارغيل في كشمير بعلاقات وثيقة مع إيران. وقد تأثرت المنطقة على نحو مباشر بالثورة الإيرانية عام 1979 بقيادة آية الله الخميني، الأمر الذي يمكن معاينته بوضوح في أسواق المدن التي تعج بصور الإمام الخميني، علاوة على ما يتمتع به من مكانة رفيعة لدى أهالي كارغيل. وعلى خلاف الحال مع أي جزء آخر بالولاية، يجري الحديث هنا بحماس عن كافة التطورات التي تشهدها إيران. ويتحدث السكان المحليون عن «ثورة شرائط الكاسيت»، في إشارة إلى الخطب والمحاضرات الصوتية المسجلة للخميني، التي غيرت وجه الحياة الاجتماعية والمعايير الدينية في كارغيل في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979. وبعد الثورة شهدت كشمير بناء العديد من المدارس الخاصة الجديدة، التي تولت قيادة الكثير منها منظمات دينية مثل «مركز الإمام الخميني التذكاري» في كارغيل. وقال أصغر علي كاربالي، رئيس «مجلس تنمية هضبة كارغيل المستقلة»، أحد رجال الدين الشيعة البارزين، الذي قضى عدة سنوات في إيران: «على خلاف الحال في باقي أرجاء الولاية، يوجد نفوذ إيراني قوي في حياتنا الثقافية. وإلى جانب الشؤون السياسية في كارغيل، كثيرا ما تجري مناقشة الأحداث السياسية في غرب آسيا، خاصة إيران، هنا. كما أن الكثير من الشباب يسافر إلى إيران لتلقي تعليم ديني»، مشيرا إلى أن جذور العلاقة الوثيقة بين إيران وكشمير تعود إلى منبت آية الله الخميني الذي تعود أصول أسرته إلى الهند وإلى الإقليم. والملاحظ أن التأثيرات الفارسية تركت بصمة عميقة على المناحي التاريخية والمعمارية والأدبية وتقريبا كل جوانب الحياة الأخرى في كشمير. وجرت كتابة معظم كلاسيكيات الأعمال التاريخية والأدبية والشعرية والطبية، بل وغالبية السجلات الرسمية، باللغة الفارسية على يد علماء من أبناء كشمير. وظلت كشمير وجهة مفضلة لدى الإيرانيين، ولا تزال أضرحة الدعاة الذين قدموا من فارس تحظى بقدر بالغ من التبجيل بين الكشميريين حتى اليوم. ولم يقتصر تأثير إيران في الإقليم على الدين فحسب، وإنما امتد إلى الفنون والحرف والطعام والأدب والأعياد. وإلى جانب الشعر، تأثرت الموسيقى داخل الإقليم أيضا باللون الفارسي بالنسبة لكل من شكلها والآلات المستخدمة بها. فآلة «تومباك» (أحد أشكال الطبلة) كانت من بين أبرز الآلات الموسيقية خلال عصور قديمة مزدهرة في إيران، وجرى استخدامها في الغالب من جانب النساء. هذه الآلة تستخدمها النساء في كشمير، ويكمن الاختلاف الوحيد على هذا الصعيد في أن هذه الآلة يجري صنعها من الخشب حاليا في إيران، بينما لا يزال الكشميريون يصنعونها من الصلصال الصلب، وهي الصورة الأصلية للآلة. ففي كتابه «سرغوزاشتي موسيقي إيران» عن أسلوب العزف على هذه الآلة، تناول دكتور روح الله خالقي أسلوب استخدام الآلة داخل إيران، مشيرا إلى أنه يطلق عليها في إيران اسم «تومباخ» أو «تونباك». من ناحية أخرى، ومع انتشار الإسلام في الإقليم، انتشرت معه الحرف والفنون المرتبطة به. وتشكل الفنون الكشميرية مصدر رزق لنسبة كبيرة من أبناء الإقليم. لكن الكشميريين من جهتهم نجحوا في إدخال تغييرات قيمة على هذه الحرف والفنون بما يتوافق مع طابعهم الثقافي. كما دخلت التأثيرات الإيرانية على العمارة إلى كشمير، حيث امتزجت بالعمارة الكشميرية لتثمر نموذجا جديدا. ومن بين أشهر النماذج على ذلك مسجد «خانقه الموالا» (Khanqah ـ e ـ Mualla)، الذي يضم ضريح همداني في كشمير. ويعد هذا المسجد، الذي يضم الغرفة التي أقام بها همداني لدى وصوله الإقليم للمرة الأولى، نموذجا رائعا للعمارة الخشبية في كشمير، خاصة بالنظر إلى النقوش الموجودة على جدرانه. ترك همداني تأثيرا بالغا على أعمال الكتاب المعاصرين في كشمير. ولا يزال بعض أحفاده يعيشون في كشمير اليوم. كما نقلت إيران إلى كشمير فن صناعة السجاد. وحتى اليوم، لا يزال أسلوب نسج السجاد الكشميري هو ذاته الذي تناقلته عدة أجيال من كبار صانعي السجاد الإيرانيين. ويكمن سر شهرة السجاد الكشميري في الالتزام بالتصميمات الدقيقة والجودة الأصلية للسجاد الفارسي. كما نقلت إيران إلى كشمير شجر «تشينار» (chinar) الذي يشتهر به الإقليم حاليا. وتوجد أكبر وأقدم شجرة «تشينار» بحديقة الصوفي سيد قاسم شاه في كاترغرام. ويعود تاريخ زراعة هذه الشجرة إلى عام 1374 ميلادية على يد سيد قاسم صاحب. ويبلغ ارتفاع الشجرة 14.78 مترا. وأثناء استقباله نظيره الهندي عام 2003، تحدث الرئيس الإيراني آنذاك، محمد خاتمي، حول هجرة الإيرانيين إلى الإقليم منذ قرون عدة مضت، وأشار إلى أن شجر «تشينار» زرع دخل الإقليم على يد الإيرانيين. ويقول أبو فضل، الكاتب والصحافي الكشميري، إن عيد النيروز، الذي يضرب بجذوره بقلب الثقافة الإيرانية، ما زال يجري الاحتفال به في كشمير. ومثلما الحال في إيران، ينقسم العام في كشمير إلى أربعة فصول، ويشكل عيد النيروز بداية فصل الربيع. وعلى خلاف الحال مع باقي أنحاء الهند، يعتبر هذا العيد عطلة رسمية في كشمير. وخلال ورشته الفنية التي أقامها في كشمير، قال الفنان الإيراني توراج خامننه زاده: «خلال فترة إقامتي في كشمير، تمكنت بسهولة من معاينة العلاقات الثقافية الوثيقة بين إيران والإقليم. وسعيت من خلال أعمالي الفنية لإظهار هذه العلاقة». وخلال رسوماته، عرض توراج صور سبعة صوفيين إيرانيين بسبعة أضرحة شهيرة داخل كشمير في محاولة لرسم العلاقة بين إيران والإقليم.