لوبي دارفور في واشنطن

مجموعات ضغط متعددة جعلت من الأزمة قضيتها.. لكن هل تعمل بشكل حيادي أم أن هناك أخطاء وشبهات؟

متظاهرون ضد العنف في دارفور خلال عملية احتجاج في واشنطن (أ.ف.ب)
TT

تعتقد سارة بلومفيلد، مديرة متحف «الهولوكوست» في واشنطن، أن اهتمامهم بقضية دارفور أمر طبيعي، طالما أن المتحف محاولة ليتذكر العالم المآسي التي حدثت في ألمانيا وبعض الدول الأوروبية عندما اجتاح النازيون القارة. وتقول بلومفيلد لـ«الشرق الأوسط» «سنقيم معارض أيضا لما حدث في رواندا ولأي عملية إبادة جماعية تحدث في العالم» وتزيد قائلة «المهم أن لا يتكرر ما حدث لليهود مع النازيين».

داخل متحف «الهولوكوست» الذي شيد مدخله على هيئة محطة للسكك الحديدية تمثل محطات القطارات التي كانت تنقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال حيث يتم رميهم بعد ذلك في أفران الغاز، ويعتقد أن ضحايا تلك المعسكرات يبلغون أكثر من ستة ملايين من اليهود وهناك غيرهم من الضحايا استهدفهم النازيون مثل الغجر والسلافيين والمثليين جنسيا ـ داخل المتحف يوجد جناح خاص حول مشكلة دارفور يضم صورا مأساوية من معسكرات اللاجئين والنازحين، إضافة إلى صور بعض القرى والبلدات التي تعرضت لقصف الطيران وأحرقت جزئيا أو كليا. وتقول بلومفيلد إن الجناح سيتم توسيعه.

منذ تفجر أزمة دارفور عام 2003، ظل متحف «الهولكوست» من أكثر الجهات التي تقف وراء إثارة القضية في مختلف المحافل الأميركية. وحتى في المظاهرات التي جرت في واشنطن وبعض المدن الأميركية الأخرى كانت شعارات المتحف الأكثر وضوحا.

هذا التحرك جعل عددا كبيرا من اليهود الأميركيين يشكلون في الواقع أقوى مجموعات ضغط التي تدعم قضية دارفور، على اعتبار أنها قضية «إبادة جماعية»، وهو تعبير يلامس مشاعر لا تزال متأججة ضد ما حدث خلال سنوات النازية. لكن هل هناك «إبادة جماعية» في دارفور كما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية عندما قرر النازيون إبادة اليهود، فيما يدخل ضمن خطة هيمنة «الجنس الآري»؟

هذا ما ينفيه باحث مرموق، هو محمود مامداني، وهو أميركي أفريقي أستاذ الإنتربلوجي والعلوم السياسية في جامعة كولومبيا في نيويورك. والذي كتب كتابا مهما بعنوان «الناجون والمنقذون: دارفور السياسة والحرب ضد الإرهاب» ويسير الكتاب عكس التيار الطاغي في أميركا الذي يعتبر أن هناك «إبادة جماعية» في دارفور تقوم بها القبائل العربية ضد القبائل الأفريقية (عرب ضد زرقة بالتعبير المحلي) بدعم من الحكومة السودانية.

وفي فترة وجيزة تشكلت جماعات ضغط كبيرة داخل الولايات المتحدة، تضم مسؤولين داخل الإدارة الأميركية وأعضاء في الكونغرس ومجموعات يهودية ذات نفوذ وباحثين في معاهد أبحاث وصحافيين وإعلاميين وممثلين وفنانين، جميعا يعتبرون الآن أن قضية دارفور هي قضيتهم الأولى.

واعتبرت قضية دارفور هي أفضل تجسيد لمبادئ العدالة الدولية التي بدأت تترسخ منذ أواخر التسعينات. وكان من حسن حظ قضية دارفور وسوء طالع الحكومة السودانية أن ترسيخ هذه المبادئ والقيم صادف تفاقم هذه المشكلة بوجهها الكالح الذي تمثل في حالة نزوح جماعي وتدمير وتخريب للقرى ومواجهات عنيفة بين القوات الحكومية والمسلحين. واستطاعت مجموعات الضغط (اللوبيات) أن تجعل إدارة الرئيس السابق جورج بوش تستخدم تعبير «إبادة جماعية» وظل بوش متمسكا بهذا التوصيف، وقال مرة عندما سألته عن الموضوع ضمن لقاء أجرته معه «الشرق الأوسط» مع ثلاث صحف أخرى في البيت الأبيض «أنا أول من سميت الأشياء بأسمائها وقلت إن ما يحدث في دارفور إبادة جماعية» كما أن الرئيس الحالي باراك أوباما وبتأثير من جماعات الضغط والتوجهات السائدة وسط الرأي العام الأميركي ظل خلال الحملة الانتخابية يستعمل بدوره تعبير «إبادة جماعية».

وتأثر باراك أوباما في تعامله مع قضية دارفور بآراء مستشارة لها حكاية مع أوباما نفسه، وهي سامنثا باور.

من هي سامنثا باور؟

هي في الأصل صحافية وكاتبة وباحثة أكاديمية، كانت تعمل ضمن مركز «كار» حول سياسات حقوق الإنسان في جامعة هارفارد، وسبق لها أن نالت جائزة «بيلتزر» الصحافية، وعندما ترشح أوباما للرئاسة عملت باور مستشارة للشؤون الخارجية، لكنها استقالت في مارس (آذار) 2008 وذلك قبل أن تنتهي الحملة الانتخابية. بعد أن نقلت عنها صحيفة اسكوتلندية وصفها هيلاري كلينتون، منافسة أوباما أيامئذ، بأنها مثل «الوحش»، وأعربت سامانثا باور عن ندمها العميق على تصريحاتها وكانت صحيفة «ذي سكوتش مان» نقلت عن باور قولها إن هيلاري «وحش كما أنها غير مستعدة للتنازل عن أي شيء». وكتبت باور دراسة في شكل كتاب عن دارفور على الرغم من أنها لم تزر الإقليم وهي تعتبر الإبادة الجماعية في «دارفور» مماثلة للإبادة الجماعية التي تعرض لها « الأرمن» في تركيا. وبعد إعلان فوز أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، عادت سامانثا باور، وبدون ضجة لتشغل موقعا مهما داخل مجلس الأمن القومي، وهي التي تعتبر حاليا من أهم الشخصيات داخل البيت الأبيض التي ترسم سياسات إدارة أوباما تجاه دارفور وكذلك تجاه السودان بصفة عامة. ويمكن القول إن سامانثا باور حاليا هي أبرز شخصية على الإطلاق مؤثرة في صنع القرار الأميركي حول دارفور، لذلك تدور كل مجموعات الضغط حولها.

من أبرز مجموعات الضغط الأميركية التي تتبنى قضية دارفور، التحالف الذي يطلق عليه «سايف دارفور» أي أنقذوا دارفور. وكان هذا التحالف الذي يضم عدة مجموعات هو الأقوى والأوسع نفوذا والأكثر حضورا، بيد أن تقريرا نشر في صحيفة «نيويورك تايمز» في أغسطس (آب) عام 2007، حول شبهات مالية وأيضا مدى دقة ما ينشره وحملاته الإعلانية هزت مصداقيته، وهو ما أدى إلى أن يخفت صوته، على الرغم من أنه لا يزال أكثر مجموعات الضغط حضورا على الأقل في نظر الأميركيين الذين يتعاطفون بطريقة عامة مع أهل دارفور دون توقف عند التفاصيل والجزئيات.

في يوليو (تموز) 2007 تم إقرار قانون «محاسبة دارفور» في مجلس النواب الأميركي بالتزامن مع قرار مجلس الأمن نشر قوات 26 ألف جندي من قوات حفظ السلام. كان القراران، ولا شك، نتيجة جهد قام به «تحالف دارفور» وذلك من خلال حملة دعائية كبيرة. بيد أن مؤسسة لمراقبة الإعلانات في بريطانيا اكتشفت أن أرقام الضحايا التي يقدمها التحالف في إعلاناته ليست دقيقة. وأدى ذلك الموقف إلى زعزعة الثقة في تحالف «أنقذوا دارفور». وكان الإعلان مثار الجدال، والذي نشر في الولايات المتحدة وبريطانيا، يقول «بعد ثلاث سنوات قتل 400 ألف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء»، وبناء على شكوى سودانية وجدت الهيئة البريطانية للرقابة أن «أنقذوا دارفور» انتهكت لوائح الموضوعية، وطلبت من التحالف تعديل صيغة الإعلان. وشكلت هيئة المحاسبة الأميركية، وهي هيئة حكومية، في ذلك الوقت، لجنة بحث مستقلة، حيث توصلت إلى نتيجة مؤداها أن عدد قتلى دارفور في الفترة ما بين سبتمبر (أيلول) 2003 ويونيو (حزيران) 2005 بلغ 158 ألف شخص، في حين قالت تقديرات أخرى إن عدد القتلى بلغ 131 ألفا. وتقول التقديرات إنه بعد اتساع رقعة الاشتباكات المسلحة بين الحكومة والحركات المسلحة فإن التقديرات تشير إلى احتمال مقتل 200 شخص كل شهر، وهو ما يضع عدد القتلى حتى عام 2007 في حدود 200 ألف، أي نصف تقديرات تحالف «أنقذوا دارفور». كما أن التقارير تشير إلى أن معظم القتلى ماتوا بسبب الأمراض والأوبئة وسوء التغذية.

وإضافة إلى مشكلة تضخيم عدد القتلى، عادت «نيويورك تايمز» من جديد لاتهام تحالف «أنقذوا دارفور» بأنه لم ينفذ أية مشاريع لمساعدة اللاجئين والنازحين في الإقليم المضطرب. بل ظل يستعمل الأموال التي يجمعها لغرضين «القيام بحملات إعلانية متواصلة في الصحف والإذاعات وشبكات التلفزيون الأميركية»، وأيضا لاستقطاب نشطاء جدد إلى هذا التحالف في مختلف المدن الأميركية. وأدت هذه الانتقادات إلى ابتعاد عدد كبير من أعضاء الكونغرس عن هذا التحالف. لكن ذلك لا يعني أن «أنقذوا دارفور» فقد كل زخمه، إذ إن التحالف نظم الشهر الماضي مظاهرة أمام السفارة السودانية في واشنطن شارك فيها عدد محدود لا يتجاوز 20 شخصا، لكن، وهذا هو الأهم، كان من بينهم النائب الديمقراطي جيم ماكفرن، والنائب الديمقراطي جون لويس والنائبة الديمقراطية دونا إدوادرز، والنائب الديمقراطي كيث أليسون، والنائبة الديمقراطية لين وولسي، إضافة إلى رئيس تحالف «أنقذوا دارفور» جيري فولار. بيد أن العدد الضئيل يعكس مدى تراجع شعبية «أنقذوا دارفور»، لكن بالمقابل مشاركة ستة من أعضاء الكونغرس في هذه المظاهرة الصغيرة يبين إلى أي مدى قوة المجموعات التي تساند دارفور في الولايات المتحدة وتغلغلها داخل أروقة السياسة الأميركية. وهذا ما يؤشر على أن مجموعات الضغط من أجل دارفور تستهدف بالدرجة الأولى الطبقة السياسية النافذة في واشنطن، وليس الجماهير.

وفي المقابل اتجه المساندون لقضية دارفور إلى منظمتين أخريين، وهما منظمة «إنف» (يكفي) التي يقودها الناشط جون برندر قاس، وكذا منظمة «شبكة التدخل ضد الإبادة الجماعية». بيد أن منظمة «إنف» لا يقتصر نشاطها على قضية دارفور والسودان، بل يشمل كذلك أوغندا والكونغو والصومال وزيمبابوي وهي تهدف بالأساس إلى مناهضة الجرائم «التي ترتكب ضد الإنسانية».

ومن بين الفئات المؤثرة في قضية دارفور هناك نجوم هوليوود ومن أبرزهم الممثل جورج كلوني وبنجامين بن أفلاك، وداني غلوفر.

وجميع هؤلاء الممثلين لهم تأثير وسطوة كبيرة على الرأي العام الأميركي. وأبرزهم جورج كلوني. وهو أفضل مثال لطريقة استفادة فضية دارفور من مثل هؤلاء النجوم.

وشارك مع الرئيس الحالي باراك أوباما في سبتمبر (أيلول) من تلك السنة في مؤتمر صحافي في «نادي الصحافة الوطني» في واشنطن. وشارك مع والد كلوني نيك وهو أحد أشهر المذيعين الليبراليين في أميركا في إعداد برنامج تلفزيوني عن دارفور وذلك بالتركيز على الأوضاع البائسة التي يعيشها اللاجئون في معسكراتهم في السودان وتشاد وبث الفيلم بعنوان «رحلة إلى دارفور» وبثت الفيلم جميع شبكات التلفزيون الأميركية كما طبعت منه ملايين الأقراص المدمجة ووزع على نطاق واسع في أميركا وأوروبا. وساهم كلوني، من خلال استضافته في برنامج النجمة التلفزيونية أوبرا وينفري، وكذلك من خلال مساهمتها في أنشطة «أنقذوا دارفور» خاصة المظاهرة الكبرى التي جرت في أبريل (نيسان) 2006، في تعبئة الناس لصالح قضية دارفور، وجذب عدد من السياسيين لمساندة القضية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 شارك كلوني في شريط «دارفور الآن»، الذي كان يهدف حشد الناس حول العالم لإيقاف أزمة دارفور المتفاقمة. وفي فبراير (شباط) الماضي زار جورج كلوني مع الصحافي نيكولاس كريستوف معسكر «قوز بيضة» في الأراضي التشادية، ليعود إلى الولايات المتحدة ويطلق نداء من أجل دارفور، واستقبله الرئيس باراك أوباما ووعده بأن يبذل قصارى جهده من أجل إيجاد حل لمشكلة دارفور.

وعلى الرغم من الزخم القوي الذي خلقته كل هذه التحركات حول قضية دارفور، فإن «التراجع النسبي» للقضية إعلاميا، أتاح الفرصة للاستماع إلى وجهة نظر أخرى، يمثلها الآن محمود مامداني، الذي يقول إن جذور المشكلة تعود إلى فترة الاستعمار البريطاني، حيث قسمت القبائل إلى «قبائل أصلية» و«قبائل مستوطنة»، ثم أدى الجفاف، الذي عرفه الإقليم في الثمانينات، إلى نزاعات قبلية حول الأراضي والمزارع، ويشير مامداني إلى أن الحكومة الحالية تعاملت تعاملا فاشلا مع مشكلة النزاع على الأراضي، ثم كان لاستمرار الحروب الأهلية وتضافر كل العوامل السابقة الأثر الأكبر في انفجار الوضع في دارفور. وعلى الرغم من «التراجع النسبي» في حضور القضية أميركيا، فإن هناك عاملا مؤثرا يبث الحماس بين الفينة والأخرى في المنظمات والقوى الضاغطة، وهو وجود مجموعة من أبناء دارفور في أميركا وبينهم نسبة لا بأس بها من الذين نالوا تعليما متقدما، وهم يعملون مع مختلف هذه المنظمات. بيد أنه على الجانب الآخر توجد أخطاء حكومة الخرطوم في معالجة الأزمة، ومن ذلك المذبحة التي جرت قبل أشهر قريبة في معسكر «كلما»، وكانت مذبحة فظيعة بكل المقاييس، وانتشرت صورها على نطاق واسع بين المواقع الأميركية مما جلب غضبا إضافيا من طرف المتعاطفين مع قضية دارفور. وقال مصدر في منظمة «إنف» التي يقودها برندر قاس ردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول أهم مجموعات الضغط الحالية في الولايات المتحدة التي تعمل لصالح دارفور «أهم مجموعة ضغط تعمل لصالح القضية هي الحكومة السودانية نفسها».