بري وعون: «ثوابت» تجمع.. و«طباع» تفرق

غياب الود الشخصي يؤثر على تحالفات المعارضة السياسية في لبنان.. لكن هل كسرت «قشة جزين» ظهر هذه المعارضة؟

بري وعون طبائع مختلفة (أ.ب.إ)
TT

عوامل كثيرة تمنع «الطلاق» النهائي بين رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، ورئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، لكن هذه العوامل ـ وغيرها ـ لم تسمح بتحولهما إلى حليفين كاملين، فاكتفيا بحلف القاسم المشترك مع «حزب الله» الذي يتعب قادته كثيرا في السعي إلى ضبط العلاقة بين طرفين تجمعهما «الثوابت» وتفرقهما «وجهات النظر».

ويجمع المراقبون على أن «قشة جزين» لن تكسر ظهر بعير المعارضة، ولن تؤدي إلى انفراط التحالف «الاستراتيجي» القائم في صفوف المعارضة اللبنانية التي يعتبر بري وعون من أركانها الأساسية، مع تسجيل مفارقة لافتة في هذا الاطار تتمثل في أن الطرفين «حليفان» لنفس الحليف، أي «حزب الله» الذي يتولى تنسيق علاقاتهما و«حلحلة» مشكلاتهما ما أمكن، بعدما ثبت بالوجه الشرعي عدم إمكانية تحول «حليف الحليف» إلى حليف كامل، دون أن يعني هذا افتراقهما «لأن ما يجمعهما أكبر مما قد يفرقهما». وتحتل الكثير من التحليلات السياسية صفحات وأثير وسائل الاعلام اللبنانية، متحدثة عن خلافات في استراتيجية الطرفين وشخصيتيهما المتناقضتين، كعسكري عنيد في حالة عون وسياسي مخضرم في حالة بري. علما أن هذا التناقض كان سببا في ابتعاد بري عن الرئيس السابق إميل لحود، وهي حالة مشابهة لواقعه مع عون بخلاف علاقته مع رئيس الجمهورية الحالي ميشال سليمان (ذي الشخصية الدمثة، والطباع غير الحادة) الذي كان بري من أبرز المنظرين لوصوله. غير أن الرئيس السابق لـ«حزب الكتائب» كريم بقرادوني يرد الامر إلى «غياب العلاقة الشخصية» وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة، اذ لا تجمع الطرفين أي علاقة مباشرة رغم وجودهما في «خندق واحد». ولعل أبرز دليل على غياب التواصل بينهما هو ما قاله بري أخيرا ردا على سؤال حول علاقته بالعماد عون وما اذا كان الخلاف حول دائرة جزين قد قطع العلاقة بينهما: «إني أكن كل مودة واحترام للعماد ميشال عون، وأعتقد أنه يبادلني هذا الأمر». فالرئيس بري «يعتقد» لغياب التواصل.

ويرى بقرادوني أن العلاقة السياسية بين عون وبري لم تواكب بعلاقة شخصية، وهذا ما يخلق التباينات الموجودة. فالمنظار الموضوعي لا يكفي في بعض الأحيان في العلاقات السياسية. هناك ود غير متوافر بين الشخصين اللذين يكتفيان بالعلاقة السياسية. ولهذا السبب نجد أن الأمور السهلة بينهما يمكن حلها، لكن عندما تكون الامور صعبة، فهي تحتاج إلى ما هو أكبر من العلاقات السياسية. ففي جزين قد تكون النتيجة النهائية كما هو متوقع بنسبة واحد إلى اثنين، وبالتالي نرى أن الامور لا تستحق معركة بين الطرفين لو كان الود موجودا.

ويعود تاريخ العلاقة بين بري وعون إلى ما بعد عودة الاخير من منفاه الباريسي في عام 2005 للمشاركة في «ثورة الارز»، لكن الاتصالات بينهما كانت موجودة بخجل قبل ذلك. وربما يعود أول اتصال بينهما إلى الثمانينات عند تعيين عون قائدا للجيش في عهد الرئيس أمين الجميل، وهي حكومة كان بري أحد أعضائها. كان بري وعون حينها في خندقين متواجهين، الاول حليف استراتيجي لسورية، والثاني يخوض حرب تحرير ضدها بعد حصول الانقسام. أما بعد اتفاق الطائف و«تمترس» عون في المناطق ذات الغالبية المسيحية، فقد جرى أول اتصال غير مباشر بينهما، وتحديدا يوم الجمعة في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1990، أي قبل يوم واحد على عملية إطاحة عون بالقوة العسكرية. حينها حمل بري السفير البريطاني رسالة إلى عون مفادها أن «الدولة اللبنانية برئاسة الرئيس إلياس الهراوي، تسعى جاهدة لجمع الصفوف، ولا تريد إراقة الدماء، وهي بصدد تأليف حكومة جديدة، وهي تدرك تماما أنك وصلت إلى حائط مسدود. ورغم ذلك هي لا تمانع، بل ترغب، بأن تكون وزيرا في هذه الحكومة»، لكن عون ـ كما يقول بري في كتاب عن سيرته الذاتية ـ اشترط أن يكون وزيرا للدفاع وهو ما لم يقبل به بري، ليبلغه في الختام رسالة جازمة عبر السفير البريطاني تقول: «اقبل بهذا العرض، فإن مثله لن يتكرر، وإلا فالمعركة ضدك ستبدأ غدا صباحا»... وهذا ما حصل. سقط عون وغادر إلى باريس رغم معارضة بري وحليفه آنذاك النائب وليد جنبلاط ترحيله «لأنه لو بقي في لبنان لما اجتمع حوله 10 في المائة ممن اجتمعوا حوله بعد رحيله».

خلال وجود عون في باريس لم يحصل اي اتصال بينهما، لكن قبيل عودة الاخير ذهب بقرادوني إلى بري مبلغا إياه أن عون قرر العودة في 7 مايو (أيار) 2005 إلى بيروت، فأبدى بري ارتياحه لهذه العودة. ولم يترجم هذا الارتياح إلى علاقة شخصية بينهما رغم توصل حليف بري (حزب الله) إلى تفاهم مع عون تحول فيما بعد إلى تحالف انضم إليه بري من باب تحالفه مع الحزب وبقي الطرفان يشيران إلى بعضهما بحليف حليفي.

اختلف بري مع عون في مقاربة العديد من القضايا، فخلال تظاهرة 10 ديسمبر (كانون الأول) 2006 توقف «اجتياح السرايا» الحكومية بسبب رفض بري للفكرة، التي كان عون من أبرز المتحمسين لها ولإطاحة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بواسطتها. أما عند حصول الفراغ الرئاسي فقد كان بري خلال المفاوضات مع أكثر من طرف عربي ومحلي يبدي مرونة واضحة إزاء بعض أسماء المرشحين مثال الوزير ميشال ادة، وغيره وصولا إلى اسم الرئيس سليمان، وهو ما أزعج عون بالتأكيد، كونه يعتبر نفسه «المرشح الطبيعي» للمعارضة للرئاسة.

وبعد حصول اتفاق الدوحة والاتفاق على سليمان رئيسا للجمهورية، حصل الخلاف مجددا. أولا عند إعلان الاتفاق وحديث عون وأنصاره عن «استرداد جزين» ثم خلال تأليف الحكومة وتمسك بري بوزارة الخارجية ووزارة الصحة بعدما طالب بهما عون، ومرة جديدة عندما أقرت التشكيلات القضائية بمباركة رئيس المجلس النيابي نبيه بري رغم اعتراض العماد عون عليها.

وأخيرا مع رفض عون الكلام عن نيته التصويت للرئيس بري في رئاسة البرلمان الجديد بعد الانتخابات، علما أن عون كان المعارض الأكبر ـ وشبه الوحيد ـ لعودة بري إلى رئاسة البرلمان عام 2005 وهو رفض حينها الاقتراع لبري رئيسا لمجلس النواب الحالي.

وما زاد الطين بلة أن عون قال الاسبوع الماضي ردا عن سؤال حول اذا كان يريد بري رئيسا مقبلا لمجلس النواب بأنه «في 7 يونيو (حزيران) أجيب إذا كنت أريد نبيه بري رئيسا للمجلس النيابي أو لا». وأوضح انه «ثلاثة أشياء لا أتكلم عنها في السياسة، وهي نقاط ضعفي ونقاط قوتي ونواياي».

ويشدد بقرادوني على أن بري وعون «في صف سياسي واحد ويشكلان جزءا من تحالف المعارضة الواسع»، جازما بأنه لو أن الخلاف هو بين عون وأي شخص آخر من تحالف «14أذار» لوقف بري إلى جانبه بالتأكيد، والعكس صحيح. لكن داخل الخط الواحد تلعب العلاقة الشخصية دورها، كما هو حاصل بين الرئيس بري والسيد حسن نصر الله، إذ تلعب العلاقة الشخصية بينهما دورا كبيرا في تذليل العديد من العقبات والمشكلات التي تعترضهما والتي لا تصل حتى إلى أسماع الصحافة. ويضيف: «هناك علاقة ثقة تنمو بين الأطراف الذين يمتلكون علاقة شخصية مباشرة، هي مفقودة بين الرجلين، وعلاقاتهما تقوم على أسس موضوعية وسياسية، وهذه تؤدي إلى ما هو حاصل اليوم بينهما. لو كان الاختلاف هو بين «حزب الله» وعون لكانت المسألة حلت فورا. العامل الشخصي في العلاقات السياسية يؤدي إلى ازاحة الكثير من العقبات، وعدم وجود عامل الثقة، قد يؤدي إلى العرقلة. لكنهما يبقيان أبناء خط واحد وحلف واحد، وهذا أمر لا يمكن التشكيك به». ويرد غياب عامل «الثقة» إلى ضعف التواصل بينهما، وبين تياريهما.

ولا يرى بقرادوني في العداء السياسي الذي كان قائما بين بري وعون خلال «حرب التحرير» سببا كافيا لهذا «الجفاء»، فهذا الكلام نفسه يصح على العلاقة بين عون والحزب وهما يتمتعان الان بأفضل العلاقات، وكذلك الحال بين العماد عون والوزير السابق سليمان فرنجية الذي كان في الضفة المقابلة لعون، لكن العلاقة السياسية التي دعمت بعلاقة شخصية، أدت إلى حل الاختلاف بينهما في زغرتا، أما في جزين فلم يحصل بسبب نقص التواصل. هما ضمن حلف واحد، لكنهما لا يتواصلان معا مما يجعلهما يقولان «حليف حليفي» عندما يتحدث أحدهما عن الاخر. وما يجعل «حزب الله» من يؤمن التواصل بينهما في غياب العلاقة المباشرة. وينفي بقرادوني وجود أبعاد سياسية تؤثر في واقع العلاقة بينهما، مشيرا إلى أنه حاول متابعة هذا الموضوع عن كثب لمعرفة اسبابه وأنه خلص إلى أنه لا يوجد إيحاءات داخلية أو خارجية، أو اسباب سياسية خاصة في هذا الموضوع. مشددا على أنه لا يوجد خلاف سياسي بين الطرفين، وأنه متأكد ـ بحسب معلوماته ـ أن مرشح العماد عون الوحيد لرئاسة المجلس هو الرئيس بري. وهل هو اختلاف في الطباع، يقول: بالتنسيق المباشر المفقود، فتنسيق علاقاتهما بالواسطة ـ أي عبر حزب الله ـ من شأنه أن يجعل الامور أصعب. ويعرب عن اعتقاده أن «حزب الله» أوقف عمل ماكينته الانتخابية في منطقة جزين وأعطى الحرية لمناصريه. مشيرا إلى أن ما حصل أحدث إرباكا وبرودة في العلاقة بين الطرفين، لكن الامور عادت إلى مجاريها بعد برودة. مشددا على ضرورة أن تعمل القيادات جديا مع القاعدة لتجاوزه.

ويلفت إلى أنه لم تكن هناك علاقة بينهما قبل عودة عون إلى لبنان، بل مجرد اتصالات. فقبل عام 1989 كانا في جبهتين مختلفتين، لكن الاتصالات كانت موجودة، فالرئيس بري كان وزيرا وميشال عون كان قائدا للجيش خلال عهد الرئيس أمين الجميل. أما خلال فترة وجود عون في فرنسا فكانت الاتصالات غائبة بشكل تام. وأوضح بقرادوني إلى أنه ساهم في عملية التحضير لعودة عون، وأن الرئيس بري كان مطلعا على هذا الملف وكان مرتاحا لها رغم الخلاف السياسي. مشيرا إلى أن الاجواء كانت حينها بدأت بالتغير، وأن مرحلة جديدة بدأت لدى عون بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. لكن بقرادوني نفى وجود أي شروط مسبقة على عودة عون آنذاك «فهو إذا وضعت عليه شروط يرفض الموضوع برمته» وهذا من طباعه المعروفة، فهو رجل لا يمكن ان توضع عليه شروط، بل يجب تركه يتصرف وفقا لرؤيته، وهذا الامر نفسه ينطبق على الرئيس بري الذي يتميز عنه بأنه أكثر مرونة بالشكل رغم أنهما من ذات الجوهر. وهذا جزء من المشكلة فنحن أمام شخصيتين قويتين.

ويؤكد عضو تكتل «التغيير والإصلاح» النائب إبراهيم كنعان أن ما حصل في جزين «لم، ولن يؤثر على العلاقة السياسية الثابتة بين الطرفين»، مشيرا إلى أن أهداف معركة جزين بالنسبة إلى التيار تتلخص في السعي المعروف للتيار إلى تصحيح الخلل الحاصل في التمثيل المسيحي، وأن التيار يعتبر أنه يجب إعطاء أهالي جزين الخيار بعدما أصبحت القضاء دائرة انتخابية مستقلة وفقا لقانون الانتخاب الجديد. مشيرا إلى أن لجزين «رمزية كبيرة، وهي عانت طوال سنوات من العديد من المشكلات من بينها الاحتلال الإسرائيلي، ونحن نرى أن لا إمكانية لدينا للتراجع عن مبدئية الصراع»، متحدثا في المقابل عن وجود «إحراج معين» لم يكن الرئيس بري قادرا أن يتخطاه في موضوع جزين، فكان القرار المشترك بالاحتكام إلى أهالي جزين.

ويشدد كنعان على أن العلاقة طبيعية بين «الرئيس والجنرال»، ويقول: «هناك الكثير من الأمور التي تجمعنا بالسياسة، لكن هناك خصوصية لكل منهما، وهذه الخصوصية تخلق في بعض الأحيان تمايزا بينهما، لكنهما في نهاية المطاف جزء من تحالف تجمع المنضوين فيه أهداف وطنية كبرى» متمنيا لو أن الأكثرية تتعاطى مع قضاياها بنفس الشفافية والصراحة.

ويصف بري الكلام عن وجود تباين بين الرجلين وعدم رغبة العماد عون بانتخاب بري رئيسا للبرلمان «مجرد تنظير» معتبرا أن موضوع رئاسة المجلس «سابق لأوانه»، وأن عدم إعلان العماد عون دعم هذا الترشيح «يشكل احتراما لإرادة الرئيس بري الذي لم يعلن ترشيحه بعد لهذا المنصب وثانيا بانتظار إعادة إنتاج المجلس النيابي الجديد»، مشددا على أن هذا لا يعني استبعاد انتخاب الرئيس بري، مستدلا على ذلك بكلام للعماد عون الذي أجاب بالنفي عن سؤال عن وجود مرشح آخر يدعمه لرئاسة المجلس الجديد غير الرئيس بري.

ويؤكد عضو كتلة بري النائب ناصر نصر الله أن العلاقة «طبيعية وعادية» بين بري وعون. مشيرا إلى أن كل تبعات الموضوع تنحصر في جزين ولن تخرج عن حدود هذا القضاء. معتبرا أن الذين سوف ينجحون في انتخابات جزين ـ أيا كانوا ـ سيكونون في خط المعارضة وبالتالي لا خسارة لأحد فيه. جازما بأن العلاقة السياسية بين بري وعون قائمة على تحالف ثابت ومستمر قبل الانتخابات وبعدها.