السودان.. بؤر صراع في الاتجاهات الأربعة

من دارفور إلى أبيي.. ومن كردفان إلى الجنوب.. ومن حلايب إلى جبال النوبة

السودان من أزمة إلى أزمة («نيويورك تايمز»)
TT

يعتري السودانيين شعور قوي، لا يدانيه الشك، بأن بلادهم تتجاذبها بؤر الصراع، بالاتجاهات الأربعة. ويذهب المغالون منهم في توصيف الحالة في بلادهم إزاء ذلك، بأنها تماثل حال من «يخرج من حفرة ليقع في دحضيرة»، على رأي المثل المصري. ويتفقون بأن التحدي الحقيقي أمامهم الآن، هو كيفية التغلب على تلك البؤر، عبر التسويات والمعالجات الدائمة.

يعتقد المفكر السوداني الدكتور حيدر إبراهيم في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنه لا يرى أية بادرة لإطفاء تلك البؤر في الأفق القريب، يذهب، هنا، إلى القول بأن الدولة السودانية، في الأصل، من حيث الثقافة والمجتمع والسياسة، هي مجرد أوهام مجاورة لبعضها البعض. ودليله على ذلك سؤال الهوية الحي القائم: من نحن؟ ويحمّل حيدر إبراهيم المسؤولية كاملة للمثقفين السودانيين، ويقول «كلهم فاشلون». غير أن آخرين يفتحون كوات أمل بأن التحديات جدية وصعبة، ولكن الانتخابات المقبلة، المقرر لها فبراير (شباط) العام المقبل، إذا ما جرت بسلام فإنها «ربما تكون بداية لإطفاء لهيب تلك البؤر، ومقدمة عملية لنزع فتيل قنابل موقوتة مزروعة في مناطق مختلفة في البلاد»، كما قال لـ«الشرق الأوسط» البروفسير حسن الساعوري المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية، الذي وصف بعض بؤر التوتر في البلاد، بأنها «سبة».

وتعتلي الأزمة في دارفور، بجدارة، المرتبة الأولى في سياق أي فعل تحليلي رصدي، لبؤر التوتر في البلاد. وكان نائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه أطلق على الأزمة في الإقليم بأنها «قضية القضايا السودانية». كتاب القضية ضخم، ولكن ملخصها أن مجموعات من أبناء دارفور يمثلون تيارات فكرية رفعوا السلاح في وجه الحكومة في العام 2001 منطلقين من منطقة جبل مرة وسط الإقليم، رافعين مطالب تتعلق بالتوزيع العادل للسلطة والثروة بين دارفور والسلطة المركزية. ودخل الطرفان؛ الحركات المسلحة والحكومة في الخرطوم، في حرب مسلحة طاحنة، شملت ـ حسب مراكز الدراسات في العاصمة السودانية ـ نحو ثلثي الإقليم، أسفرت، حسب التقارير الرسمية عن مقتل نحو 10 آلاف شخص ولجوء نحو ألف آخرين يحتضنهم نحو 20 مخيما حول المدن الرئيسية داخل السودان، ومخيمات أخرى داخل تشاد، على الشريط الحدودي بين البلدين، فيما تتحدث التقارير الدولية عن مقتل 200 ألف شخص، ونزوح ولجوء مليوني شخص.

وطبقا للدراسات، التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، فإن حرب دارفور أحدثت حالة من الاضطراب الاجتماعي، فيما يعرف بصراع «عرب زرقة»، بين القبائل العربية في الإقليم، والقبائل الأفريقية، كما أفرزت تلك الحرب نحو 17 حركة تحمل السلاح في دارفور. أيضا نتجت عن الحرب عصابات نهب مسلح، تنشط في مختلف أنحاء دارفور. وتلفت الدراسات في العاصمة السودانية إلى أن مشكلة دارفور حولت الإقليم إلى ساحة للمعارك السياسية الدبلوماسية، بين دول المنطقة العربية والأفريقية، على السواء، حيث تسعى كل دولة إلى نيل شرف تحقيق السلام في دارفور، دونما مراعاة للتحرك المقابل، لتحقيق الأهداف ذاتها.

وترى الدراسات أن ذلك يعتبرا سببا أساسيا لعدم إنجاح اتفاقات السلام التي جرت لإنهاء الصراع في دارفور، من اتفاق أبوجا للسلام في الإقليم في العام 2006، إلى الاتفاقات التمهيدية، التي تمت بين الحكومة وبعض الفصائل الأخرى. ويشبه الدكتور الشفيع خضر، القيادي البارز في الحزب الشيوعي السوداني المعارض، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، موضوع قضية دارفور بقضية الشرق الأوسط، أو ما يعرف بالصراع العربي الإسرائيلي في بعض فصوله المعقدة، فيما يراها محلل متخصص في شؤون دارفور، طلب عدم ذكر اسمه، بأنها تمثل «المهدد الأول للأمن القومي العربي في الجنوب، مقابل قضية الشرق الأوسط كمهدد أول للأمن القومي العربي في الشمال»، ويضع الفريق عثمان بلية، الخبير العسكري السوداني ورئيس هيئة أركان الجيش السابق، أزمة دارفور في مصاف الصراعات العالمية، حين قال لـ«الشرق الأوسط» «إنه ليس محليا أو إقليميا وإنما صار صراعا عالميا له رد فعل كبير داخليا»، ويقول إنه مخترق من قبل قوى عالمية، ويخشى من أن تنفجر الأوضاع في الإقليم لهذا السبب خلال الانتخابات المقبلة. ويربط المحللون دارفور، بسوء العلاقات بين السودان وتشاد، ليرتقي ذلك السوء في علاقات البلدين إلى مصاف بؤرة مجاورة يتأثر بها السودان مباشرة، حسب الدكتور الساعوري، ويقول في هذا الخصوص إن أنظمة الحكم في تشاد على مدى التاريخ البعيد بدأت رحلتها إلى سدة الحكم في أنجمينا من داخل أراضي السودان، أي إن دارفور تمثل تاريخيا أرض انطلاق للسلطة في تشاد. ويرى الساعوري، بذلك، أن كل ما يحدث في تشاد من صراع ينعكس بؤرة للتوتر في السودان، ولو على الشريط الحدودي بين البلدين. والواقع الآن ـ حسب التقارير المتداولة في مراكز الدراسات بالخرطوم ـ أن المعارضة التشادية تتسلل إلى داخل الأراضي السودانية، من وقت لآخر، في سياق نشاطها العسكري ضد الرئيس إدريس ديبي، وفي الوقت ذاته، تنطلق أكثر من حركة دارفورية مسلحة، من قلب تشاد لممارسة نشاطها داخل السودان. أما نقطة الصراع الثانية الملتهبة فهي بؤرة الصراع في منطقة أبيي، الغنية بالنفط، المتنازع عليها بين الشمال، ممثلا في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والجنوب، ممثلا في الحركة الشعبية. يتفق المراقبون للأمور في المنطقة، على أن أبيي «كشمير» أخرى. برزت قضية الإقليم للسطح خلال مفاوضات السلام في نيفاشا. وكان ملف «أبيي» آخر الملفات العالقة في نيفاشا، ولم يتوصل فيه الطرفان إلى اتفاق، إلا في الأسبوع الأخير، الذي سبق التوقيع النهائي للاتفاق. من أهم بنوده: إدارة مؤقتة، ونصيب من عائدات النفط، والاتفاق على لجنة من الخبراء الدوليين لتحديد حدود أبيي، على أن يتم استفتاء أهل أبيي فيما بعد حول تبعيتهم للشمال أو الجنوب في نهاية الفترة الانتقالية للاتفاق بين الشمال والجنوب في نيفاشا مدتها 6 أعوام اعتبارا من موعد توقيع الاتفاق في يناير (كانون الثاني) عام 2005. ولكن أبيي تحولت إلى بؤرة صراع وصلت إلى حد الحرب في المنطقة، التي تعادل مساحتها مساحة دولة لبنان، في عام 2008، أسفر الصراع عن مقتل العشرات وتشريد الآلاف وتحولت أبيي المدينة الحية إلى مدينة أشباح، حسب وصف مسؤولين في الأمم المتحدة قاموا بزيارة لها بعد أيام من اندلاع القتال فيها. وفيما يرى موالون للحركة الشعبية أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة الرئيس عمر البشير، هو سبب تصعيد الأوضاع في أبيي لأنه لم يعترف بتقرير لجنة الخبراء حول ترسيم حدود المنطقة، يعتقد أنصار حزب المؤتمر الوطني أن الأزمة في المنطقة «مصطنعة» في الأصل، تسبب فيها القائد الجنوبي سلفا كير من أجل الحصول على النفط في المنطقة، حيث يستخرج منها الآن نحو 75% من جملة النفط المستغل في البلاد. أخيرا لجأ الطرفان إلى محكمة التحكيم الدولية في لاهاي للبت في النزاع، على أن يعلن القرار في يوليو (تموز) المقبل. إما أن تكون أبيي شمالية أو جنوبية. وفيما يقول الطرفان بأنهما سيلتزمان بقرار المحكمة، إلا أن خبراء في شأن هذا الصراع، من بينهم اللواء عبد الرحمن أرباب، يرون أن أي طرف لا يأتي الحكم في صالحه لن يرضى به، ويتوقع أرباب في هذه الحالة أن يكون الصراع المحتمل بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وهو في الوقت ذاته صراع بين قبيلة المسرية العربية من سكان المنطقة، التي ترى أن أبيي شمالية، وبين قبيلة دينكا نقوك وهي أفريقية، وتتمسك بأن أبيي جنوبية. وعلى مرمى حجر من أبيي، ينظر المراقبون إلى ما يسمونه تمرد جديد في منطقة «جبال النوبة»، الواقعة في الجانب الشرقي من ولاية جنوب كردفان، ويرصدون لذلك سببين: الأول هو إلغاء ولاية «غرب كردفان» بموجب اتفاق نيفاشا مما تسبب في تقليص السلطات المحلية، وهذا خلف شعورا لدى الآلاف من أبناء الولاية الملغية بأن بروتوكول جبال النوبة والنيل الأزرق، المرفق مع اتفاق نيفاشا، نزع منهم «كعكة» حكم كانت خالصة لهم، حسب تعبير صحافي من أبناء المنطقة، ومن بين هؤلاء من كانوا مسؤولين حكوميين في مستويات مختلفة في ولايتي «غرب كردفان وجنوب كردفان»، قبل دمجهما في ولاية واحدة باسم «جنوب كردفان»، فضلا عن نحو 12 ألفا من الميليشيات التي كانت تحارب ضد الحركة الشعبية في حرب الجنوب. ويرى أن أغلب هؤلاء صاروا «فاقدا دستوريا وعاطلين عن العمل»، بعد دمج الولايتين، ويرى أنهم صاروا أشخاصا لديهم القابلية للتمرد على الحكومة في أية لحظة. والسبب الثاني شعور يشمل أنباء «جبال النوية»، الذين حاربوا الشمال إلى جانب الحركة الشعبية، ويضمهم كيان «الحركة الشعبية فرع جبال النوبة»، بأنهم قد «خرجوا بعد توقيع اتفاق نيفاشا بلا حمص»، حسب تعبير أحد الجنود الموالين للحركة جرى تسريحه أخيرا. ويعتقد تلفون كوكو، القيادي من أبناء جبال النوبة، الذي سجل لوقت طويل مواقف معارضة للحركة الشعبية «الحركة الأم»، أن بروتوكول «جبال النوبة والنيل الأزرق» به نواقص كثيرة تجعل كل من يسعى إلى تنفيذه يفشل، ويعدد كوكو في حديث لـ«الشرق الأوسط «أن البروتوكول لم يشرك أبناء «جبال النوبة» في مواقع اتخاذ القرار في الولاية أو في حكومة الجنوب مع أن أبناء النوبة لعبوا دورا كبيرا في نجاح عمليات الحركة العسكرية في كل محاور القتال في الجنوب، وقال «لولاهم لما استطاعت الحركة أن تحارب الشمال». وحسب كوكو، فإن «أبناء المنطقة» لم يحصلوا على أية نسبة من الثروة بما يمكن من إزالة التهميش في مناطقهم، كما أنه يرى أن نصيب الولاية من عائدات النفط، ليس فيه أية ميزة.

فيما يعتقد العقيد أمن متقاعد، محمد مركزو، والي ولاية جنوب كردفان السابق بعد توقيع اتفاق السلام، وأمين المزارعين والرعاة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن تأخيرا كثيرا صاحب عملية تنفيذ البروتوكول في «جبال النوبة»، مقارنة بتنفيذ البنود في «النيل الأزرق»، التي شهدت تأسيسا مبكرا للحكومة والمؤسسات الأخرى، والتنمية، وهذا ما يظهرها في حالة من الاستقرار، غير أن الوضع في جنوب كردفان بدأ بتعقيدات بين الأطراف أدت إلى هذا التأخير، الذي من شأنه وضع الولاية في حالة من الاضطراب لفترة طويلة. ويقول مركزو «التأخير غير مبرر».

وتقطن منطقة جبال النوبة، التي تبلغ مساحتها نحو 50 ألف كيلومتر مربع، نحو 50 قبيلة، جلها من قومية النوبة، وأشهرها قبائل النِمق، المورو، واتورو، وكواليب، وشات، والدقيق، وتقلي، وتسكن المنطقة قبائل أخرى من أصول عربية مثل: الحوازمة والمسيرية وغيرها.

وتقول التقارير إن هناك نحو 1500 من قوات الجيش الشعبي من أبناء جبال النوبة تم إحضارهم إلى مدينة كادقلي كبرى مدن المنطقة، في إطار عملية دمج القوات الواردة في الاتفاق، ولكن بسبب بطء الإجراءات تسرب أغلب هذا العدد من معسكراتهم، ولم يبق منهم سوى 500 في وضع غير محدد المعالم، حسب التقارير، التي تضيف أن هؤلاء يشكلون بذرة صالحة لنمو تمرد من جديد في المنطقة ما لم تتحرك حكومة الوحدة الوطنية لحسم أمرهم. ولكن مالك عقار، نائب الأمين العام للحركة الشعبية ووالي النيل الأزرق المشرف على تنفيذ «بروتوكول جبال النوبة والنيل الأزرق» عن الحركة الشعبية، ينفي وجود بوادر تمرد في المنطقة، ويقول لـ «الشرق الأوسط» إنه لا علم له بوجود أي تمرد في جبال النوبة، ومضى «من مسؤوليتي عن الملف فليست لديّ فكرة عن تمرد في جبال النوبة»، وحسب أقوال عقار فإن البروتوكول تم تنفيذه مجملا بنسبة أكثر من «50%»، وقال «هناك جوانب حصل فيها التنفيذ بشكل جيد وهناك جوانب سيئة مثل جانب تقسيم الثروة فإنه صفر».

ويلاحظ أن هناك الكثير من الململة وسط أبناء الشرق حيال الأوضاع محليا، وهناك من يعتقد أن اتفاق الشرق هو في الأصل تم بين الحكومة الإريترية والحكومة السودانية في شكل صفقة، ولم يناقش جذور المشكلة في الشرق المتمثلة في التنمية. ويقول السياسي من أبناء الشرق، علي منيب، لـ«الشرق الأوسط» إن الشرق حتى الآن يدار من الخرطوم، ومعاناة المواطنين لم تتغير، والفقر موجود كما هو، «لا تعليم ولا صحة ولا مياه». وأطلق على المشروعات التي نفذت في الشرق بأنها (مشروعات «أيلا» وليس مشروعات المواطنين)، نسبة إلى والي ولاية البحر الأحمر «محمد طاهر أيلا». ويقول منيب إن هناك نحو 4 آلاف من الجنود المسرحين من قوات جبهة الشرق هم الآن في حالة غضب من أخطاء حدثت لهم في عملية التسريح، يشكلون قنبلة كبيرة قابلة للانفجار في وجه الحكومة، في أي وقت. ويتفق المحللون على أن النزاع بين مصر والسودان حول مثلث حلايب الواقع في ولاية البحر الأحمر في شرق السودان، يمثل قنبلة رابعة يمكن أن تنفجر في يوم ما، ويقول سياسي من شرق السودان، لم يذكر اسمه، إن أزمة حلايب، وهي بمساحة 85 كيلومترا على ساحل البحر الأحمر، ستظهر على سطح الأحداث مع الانتخابات المقبلة في السودان، وقال إن علامات الأزمة لاحت، فعلا، عندما لم تتمكن فرق الإحصاء السكاني من الدخول للمنطقة، وبالتالي لم يشملها الإحصاء. وتساءل: كيف يتم التعامل مع حلايب خلال الانتخابات، هل ستكون خارج الخارطة السياسية السودانية أم سيتم التعامل معها بالتعيين. بينما يرى الدكتور الشفيع خضر أن «حلايب» لها حساسيتها الخاصة كبؤرة صراع، ويقول إنها «تحل عبر التكامل بين السودان ومصر»، ويتفق معه في الطرح الفريق بلية، الذي شغل من قبل منصب قائد المنطقة العسكرية للبحر الأحمر التي يتبع لها مثلث حلايب. وفي اتجاه آخر، لا يرى الفريق بلية في الصراعات التي تحدث سنويا بين المزارعين السودانيين والإثيوبيين مع بداية موسم الزراعة خطورة ترتقي إلى مهدد أمني للبلاد في المستقبل، ويقول «إنها نزاعات أراض على الشريط الحدودي، ولا خلاف بين الدولتين على الحدود». ويدق المحللون، بشدة، ناقوس الخطر من ما يسمونها تصاعد النزاعات القبلية على مستقبل السودان، وتشير التقارير، في هذا الخصوص، إلى توترات قبلية طاحنة في جنوب دارفور بصورة مستمرة، وفي جنوب كردفان من وقت لآخر، وتصاعدها بعنف في الأشهر الأخيرة في جنوب السودان، حيث بلغ عدد القتلى، خلال أقل من ثلاثة أشهر في الجنوب، نحو 1000 شخص. ويرشح معارضو الحركة الشعبية الأوضاع القبلية في الجنوب إلى الانفجار التام، لتشمل كل المجموعات العرقية في الجنوب، وعددها نحو 153 مجموعة، تنتمي إلى نحو 63 مجموعة قبلية كبرى.

ويعتبر الشفيع خضر أن الصراعات القبلية بدأت تأخذ أبعادا خطيرة في دارفور وكردفان والجنوب، ويقول في سياق تشريحه لأسباب الصراعات القبلية «تاريخيا هناك شكوك في البرلمانات في العهود الديمقراطية، كما انسحب الشك على الأحزاب، وبعد قدوم حكومة البشير سعت إلى إضعاف الأحزاب، فكان البديل هو القبيلة»، فهناك من هم في يدهم أمور البلاد يغذون القبيلة في الاتجاه القبلي. وأضاف «وما أسهل دفع القبيلة في اتجاه الانفجار»، فيما يقول الدكتور حيدر إبراهيم إن «نظام الإنقاذ كرس القبلية في البلاد، أي حول النظام الفيدرالي نظام قبلي»، وفي السياق ذاته يرى البروفسير الساعوري أن ضعف الولاء الطائفي في البلاد كان الأسوأ، حيث جعل البديل هو القبيلة أو العرق، ويقول «لقد اختفى التفكير القومي والتفكير من أجل الصالح العام وصار التفكير من أجل القبيلة والأرض»، واصفا الوضع بأنه «ردة سياسية». ويضيف «كنا نلعن الطائفية ولكن لا ندري أنها كانت ماسكة القبائل تحت مظلاتها ولافتاتها»، ويحمل الساعوري بعض القوي السياسية، خاصة الحزب الشيوعي السوداني والإسلاميين، مسؤولية هذه الردة، ويقول «حزب ظل يتغنى بالتقدمية، وهو الحزب الشيوعي صار الآن في أحضان القبلية والإقليمية، عبر خطاب التهميش المرفوع، والذي لا يخلو من العنصرية»، ويضيف «وبنفس القدر وقع الإسلاميون في أحضان القبلية»، وقال «هذه القبلية التي نعيشها هي بؤرة الصراع الكبرى».

ويلفت الشفيع خضر إلى بؤر أخرى، مثل «الصراعات حول بناء السدود»، على نهر النيل، ويقول إن مثل هذه البؤر الناتجة عن مشروعات التنمية سببها سوء إدارة الأمور. وقد أدت التوترات بسبب إنشاء «سد مروي»على نهر النيل شمال السودان والدراسات من أجل إنشاء سد آخر في منطقة كجبار «شمال منه» إلى مقتل وإصابة أشخاص في صدامات مع الشرطة، كما حدثت احتكاكات بين المواطنين والشرطة في منطقة «النيل الأبيض» جنوبي الخرطوم بسبب النزاع حول أرض خصصتها الحكومة لإنشاء مصنع جديد للسكر. ويصف معارضو الحكومة مثل هذه التوترات التي تحدث بسبب إنشاء مشروعات التنمية بأنها «التنمية بقوة السلاح»، ويعزون ذلك إلى سوء الإدارة والتقديرات، فيما ترى الحكومة أن تلك البؤر مصطنعة من ورائها أحزاب بعينها، وتشير في هذا الصدد، من وقت لآخر، إلى الحزب الشيوعي والحركة الشعبية. ويعتقد حيدر إبراهيم أن بؤر التوتر من أسبابها الأساسية، غياب التنمية والديمقراطية، ويقول إنه «توتر تنموي»، ولا يرى المفكر السوداني أية بادرة لإطفائها، لأنه، حسب نظرته، لا توجد تنمية حقيقية تذكر، هناك مبالغ كبيرة تصرف لكن «لا مقاعد للجلوس في المدارس ولا قابلات في المستشفيات ولا طرق»، وينبه «حتى في ظل اتفاق نيفاشا فإن الإنجاز صفر: التنمية في الجنوب لم تغادر الحضيض، وهناك حروب أهلية بدأت، ولا توجد فرص لحياة أفضل». ويكاد يتفق الدكتور الشفيع خضر مع حيدر إبراهيم في أسباب نشوء بؤر التوتر في السودان، ويقول: إن التوتر مرتبط بمركز السلطة. هناك قضايا مصيرية في الدولة السودانية لم تحل بشكل نهائي، وظلت معلقة منذ استقلال السودان حتى انفجر بعضها، وهناك محاولات لمعالجتها مثل قضية الجنوب وشرق السودان، وأخرى ظلت متفجرة، وهناك قنبلة موقوتة. ويقول الدكتور خضر: القضية، في الأصل، شعور بعدم المشاركة في اتخاذ القرار ظل يلازم مناطق الصراع، أي شعور بالاغتراب داخل الوطن، وهناك قضايا الهوية والعلاقة بين الدين والدولة، والممارسة السياسية، وغيرها، لم تحل منذ أن دخل السودان بعد الاستقلال مرحلة إعادة بناء الدولة الحديثة.. حيث لم نتمكن من بناء دولة لها كيان وأجهزة وبرلمان ورئاسة تعبر عن البنيان المتطابق لمفهوم الدولة القومية. وحسب القيادي خضر، وهو من مفكري الحزب الشيوعي السوداني، فإن هذه البؤر إذا لم نتصد لها فستظل محل قلق مستمر للبلاد، وتظل أخرى قنابل موقوتة.