الهروب الكبير

«الشرق الأوسط» في إقليم سوابي الباكستاني تستطلع أوضاع المدنيين وشهاداتهم الحية على العنف في الإقليم

اهالي سوابي يفرون من الاقليم (أ.ف.ب)
TT

وقف محمد خالد خان في طابور طويل أمام أحد مستودعات برنامج الغذاء العالمي في سوابي (إحدى مدن الإقليم الحدودي الشمالي الغربي، التي تبعد 90 كيلومترا عن العاصمة الباكستانية إسلام آباد) متجاهلا القيود التي تفرضها عليه حقيقة أنه من الطبقة الوسطى، من أجل الحصول على حصص طعام كافية لعائلته لتوفير الغذاء لهم لمدة أسبوع. وعلى الرغم من الأيام الخمسة المضنية التي شهدها خلال نزوح عائلته من مدينة مينغورا، فإنه احتفظ بهندامه الحسن وبرباطة جأشه. كان خالد خان يدرس للحصول على درجة الماجستير في الأدب الأوردي في جامعة «مالاكاند» قبل بداية العملية العسكرية هناك. قال خالد خان لـ«الشرق الأوسط» بلغة أوردية طلقة ـ الأمر الذي يعد أمرا نادرا بين البشتون في هذه المناطق النائية ـ إن عائلته استغرقت يومين للوصول إلى مخيم كوتا لاهور في سوابي، وإن عائلته المكونة من 12 فردا غادرت مدينة مينغورا في 9 مايو (أيار)، حيث كانت المدينة الجبلية لا تزال تحت سيطرة مقاتلي طالبان. وأضاف: «لن أنسى ما حييت الألم والمحنة التي عايشتها أمي وأبنائي على أيدي طالبان». وأشار إلى أنه بعد أن أجرى ترتيبات السفر بصعوبة بالغة ومجازفا بحياته في مدينة مينغورا اضطر هو وأفراد عائلته لقضاء ساعات في العراء بسبب الجيش الذي يسيطر على مخارج المدينة، للسماح لهم بالتوجه نحو دارغاي، حيث تمكنوا من استئجار شاحنة داتسون أخرى لتقلهم إلى سوابي. وقال خان لـ«الشرق الأوسط»: «شاهدنا العديد من العمليات العسكرية خلال العام الماضي لكن الأمر بات شديد الوطأة هذه المرة فقد فرضت علينا الكثير من القيود». أدرك خان هو وأفراد عائلته الآخرون من الذكور أنهم لن يكونوا في مأمن طالما ظلوا في مينغورا لأن الجيش يدك المدينة بالمدفعية الثقيلة وقال: «رأينا العديد من الأشخاص يسقطون ضحايا نتيجة لقذائف المدفعية لذا رغبنا في الخروج من المدينة بأسرع ما يمكن». لكن أدرك خالد خان حينئذ أنه ربما يكون قد أفرط في الكلام أو ربما يكون قد تجاوز الخطوط الحمراء فقال: «لا أستطيع أن أخبرك بأكثر من ذلك، هذا كل ما لدي، ولو أنك مكاني لآثرت الصمت أنت أيضا». وأجاب خان بعد ذلك على أسئلة «الشرق الأوسط» المتكررة وهو يبدو عليه الخوف الممزوج بالإصرار. بيد أن خالد خان ليس وحده هو الذي آثر الحذر في تأكيداته، فقد أفاض آخرون في التعبير عن مخاوفهم، فقال محمد سراج، الذي أصيب هو ثلاثة من أفراد عائلته بإصابات خطيرة نتيجة للقصف المدفعي الذي شهدته منطقة شمازي القريبة من مينغورا: «إذا علمت طالبان أنني تفوهت بكلمة واحدة ضدها فسوف يذبحونني وإذا قلت شيئا ضد الجيش فأخشى أن تلقي الشرطة القبض عليّ». وقد تعرض محمد سراج، الذي يبلغ من العمر 23 عاما مع أمه وأخته وشقيقه الأصغر إلى إصابات نتيجة تعرضهم لشظايا قذيفة مورتر خلال المواجهات. عندما انطلقت العملية العسكرية في وادي سوات والمناطق المتاخمة لها في الثاني من مايو (أيار) الجاري، بدا للسكان المحليين أنها ستكون شبيهة بالعمليات العسكرية المماثلة العديدة التي شنتها الحكومة ضد مقاتلي طالبان من قبل، والتي بدأت في ديسمبر (كانون الأول) 2007. وقال غولزار محسن، الذي يقطن في كلباني (بونير): «قرأنا في الصحف أن الجيش يعني هذه المرة أمرا جديا، لكننا اعتقدنا أن الأمر أشبه بخدعة»، فخلال العمليات السابقة، كان وجود الجيش يقتصر على قمم الجبال وقمم التلال ومن ثم لم يكن الأمر يزعج مواطني بونير أو سوات كثيرا. بيد أن الأمر مختلف هذه المرة، حيث حث الجيش المواطنين على إخلاء المدن قبل أن يبدأوا تقدمهم باتجاهها لتطهيرها من المسلحين. وقد قامت القوات الأمنية خلال المرحلة الأولى من العملية العسكرية بعملية قصف مكثف لمخابئ المقاتلين باستخدام المدفعية الثقيلة والطائرات الحربية فيما يوصف في مصطلحات الجيش بأنه تكتيك «لإضعاف الهدف». وخلال الأيام التي تلت بداية العملية العسكرية بدأت عملية النزوح الواسعة لمواطني سوات تزداد سوءا بمرور الأيام، وأمر رئيس هيئة أركان الجيش، الجنرال أشفق برويز كياني، القادة العسكريين الذين يقودون العملية العسكرية في الوادي بضمان وقوع أقل الخسائر، حتى وإن انطوى ذلك على المخاطرة. وقالت إدارة العلاقات العامة للجيش الباكستاني في بيانها: «إن رئيس هيئة أركان الجيش طالب الجيش بالاحتياط وضمان أقل عدد من الخسائر حتى وإن انطوى ذلك على المخاطرة خلال توجيه ضربات تتسم بالدقة». وقد أجبرت العملية العسكرية واسعة النطاق، التي بدأتها الحكومة الباكستانية في وادي سوات والمناطق المتاخمة له، المواطنين على النزوح بصورة جماعية من هذه المناطق إضافة إلى بونير ودير وشانغلا. وقال وزير خان، العامل الذي يسكن في مينغورا، إنه قطع أكثر من 70 كيلومترا سيرا على الأقدام مع 12 من أفراد أسرته للوصول إلى منطقة ماردان الآمنة، وإنه اضطر إلى دفع نفقات باهظة لسائق شاحنة ليقله وأفراد أسرته إلى مدينة ماردان بعد أن سافر هو وأفراد أسرته يوما كاملا: «لا يمكنني أن أتحدث ضد أحد كما أنني لن أنحاز إلى أحد».

وقد استغرق محمد شيرزاد ثلاثة أيام للوصول بأسرته المكونة من 12 فردا إلى سوابي، التي عادة ما تستغرق الرحلة إليها في الأيام العادية خمس ساعات، فقد بقيت العائلة عالقة في بانيغرام لمدة يومين لأن الجيش فرض حظر تجول هناك. وقال شيرزاد لـ«الشرق الأوسط»: «عندما فرض الجيش حظر التجول في بانيغرام، تحاشى الكثيرون الطرق الرئيسة وسافروا مشيا على الأقدام عبر الجبال للوصول إلى ماردان». وتقع مدينة ماردان الصغيرة المجاورة لسوات على بعد 45 كيلومترا من بيشاور ويوجد بها أكبر تجمع للنازحين من سوات. وقال جيهانغير تورو، الناشط الاجتماعي الذي يعمل مع المؤسسة الحكومية لإدارة الأزمة الإنسانية الناشئة في إقليم الحدود الشمالية الغربية: «كل المدارس والكليات في ماردان مكتظة ولا توجد أماكن في المنطقة لتوطين النازحين». وقال جيهانغير لـ«الشرق الأوسط» إن هناك أكثر من 500 ألف نازح داخلي في ماردين وحدها ممن سجلوا أسماءهم لدى السلطات المحلية. ووصلت مجموعة تتكون من 200 رجل وامرأة وطفل إلى قرية تورو ـ الموجودة على بعد 55 كيلومترا من سوات ـ بقيادة بابا غول رحمن. وقد قدمت كل هذه المجموعة المكونة من 200 فردا من مينغورا؛ أكبر المدن بوادي سوات. وأفاد بابا غول رحمن لـ «الشرق الوسط»: «غادرنا مدينة مينغورا عندما شرع الجيش في قذف منطقتنا. وقبل بضعة أيام من القذف، كانت طالبان قد حطت على منطقتنا واحتلت بعض المنازل الخاوية، بعدها بدأ الجيش في قذف منطقتنا، وهو ما أجبرنا على الرحيل». وكان بابا غول رحمن، والمجموعة التي تسير بقيادته، محظوظا بالفرار من قذف المدفعية المكثف، والقذف الجوي دون أن تلم بهم أي أضرار. ومع ذلك، كان هناك بعض الأفراد الأتعس حظا، ومثال على ذلك، أصيب سراج ـ وهو شاب في الـ23 من عمره ـ وثلاثة من أفراد أسرته بشظايا قذائف الهاون التي أطلقها الجيش لاستهداف مسلحي طالبان المختبئين بالمنطقة. وتحدث سراج لـ«الشرق الأوسط» مستلقيا داخل خيمة في معسكر الشيخ ياسين للمهجرين داخليا في ماردان قائلا: «أصيب كل من أمي وشقيقتي وشقيقي الأصغر من قذائف الهاون». وكان أخوه الصغير ووالدته المسنة موجودان بالخيمة داخل المعسكر لإظهار إصاباتهما وجروحهما إلى الصحيفة.

وأوضح سراج أنه في 9 مايو (أيار) سقطت قذيفتان بالقرب من منزلهم بمنطقة لابور بمدينة مينغورا، وأشار إلى أن «سكان المنطقة جميعا عقدوا العزم على إخلاء المنطقة». ومع ذلك، فعلى أساس حظر التجوال الذي كان مفروضا على مدينة مينغورا، فقد أجبروا على الاختيار ما بين المخاطرة بالرحيل أو الموت إذا ما ظلوا داخل منازلهم. وفي الوقت الذي بدأ فيه جميع الرجال والنساء النزوح على الأقدام متوجهين صوب ماردان، سقطت قذائف الهاون عليهم، وأصيب سراج وأفراد أسرته بجراح. وقالت والدة سراج، التي قالت إن عددا كبيرا من جيرانها لقوا حتفهم إثر سقوط قذائف الهاون الشاردة، التي أطلقتها القوات الباكستانية لاستهداف مسلحي طالبان، عليهم: «لا أعلم إذا كان ابني سيتمكن من السير مجددا أم لا». كانت عائلة سراج واحدة من بين الكثيرين في معسكر الشيخ ياسين ممن أصيبوا جراء سقوط قذائف الهاون الشاردة عليهم، بيد أنهم لم يذكروا في تعليقاتهم أي شيء سواء عن مسلحي طالبان أو عن تقدم الجيش الباكستاني. وقال سراج: «لن أتحدث عن طالبان لأني أعلم أنهم قد يقتلوني، إلا أنني لن أقول شيئا أيضا عن الجيش». وتذكر الحكومة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أرقاما متضاربة بشأن العدد الإجمالي للنازحين نتيجة لعمليات القتال في سوات والمناطق المجاورة. وأفاد المسؤولون الحكوميون أن عدد النازحين المحليين بسبب الصراع تجاوز بالفعل الـ2 مليون نسمة. في الوقت الذي أشار فيه مسؤولو المفوضية إلى أن من سجلوا أسماءهم مع السلطات منذ 2 مايو (أيار) بلغوا قرابة 1.7 مليون نسمة. وبغض النظر عن الرقم الدقيق للنازحين، فثمة حقيقة بأن مثل هذا العدد الضخم من النازحين المحليين يفرض عبئا ثقيلا من نوعه على كاهل الحياة المدنية بالمدن الصغيرة مثل ماردان. ويقول جيهانغير تورو ـ الناشط في مجال الخدمة المجتمعية: «توجد 83 مدرسة وكلية في ماردان، وجميعها حاليا يشغلها الأفراد النازحون من سوات والمناطق المحيطة».

وتؤوي القرى المحيطة بماردان أيضا عددا ضخما من الأفراد النازحين، وأوضح جيهانغير تورو لـ«الشرق الأوسط» أن آلاف النازحين يقطنون حاليا في القرى المحيطة بمدينة ماردان. وتعتبر تورو من إحدى القرى المحيطة بماردان، إذ تبعد عنها حوالي 35 كيلومترا، ويقيم فيها حاليا ما يصل في مجمله 1000 نازح. ويؤوي وجيد إقبال ـ وهو صاحب متجر فقير ـ أسرة تتكون من 12 فردا من مدينة مينغورا، ويقول في هذا الصدد: «يجب أن يقيموا هنا حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه في سوات، ومع ذلك فأنا رجل فقير ولا يمكنني استضافتهم لفترة طويلة». ويخشى عروج صيفي ـ المسؤول بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ـ أن تضطر مدن إقليم الحدودية الشمالية الغربية لاستقبال هجرة ثانية خلال الأسابيع المقبلة، وذلك عندما لا يكون بإمكان المجتمعات المضيفة في القرى تحمل الأعباء المالية لاستضافة الأسر النازحة داخليا. وتأتي غالبية أسر النازحين القاطنة بالمخيمات التي أنشأتها الحكومة، من الطبقات الدنيا في المجتمع. وهم إما من المزارعين، أو العمال، أو من الموظفين الحكوميين ذوي المراتب المتدنية. ورغم هذا، يمكنك أن تجد أيضا عددا صغيرا للغاية من التجار الأثرياء داخل المخيم. ومنهم محمد جان ـ البالغ من العمر 60 عاما ـ وهو قادم من مدينة مينغورا، وقد قابلته الصحيفة في معسكر شاهزاد في ماردان. ويملك محمد متجرا كبيرا للبقالة بمدينة مينغورا قبل أن يسلبه مسلحو طالبان، ويقول محمد: «أنا رجل معدم الآن، ولا أعلم كيف يتسنى لي إطعام أفراد أسرتي الـ25». وأضاف: «اتصلت اليوم بأحد أصدقائي في مدينة مينغورا عبر الهاتف الجوال، ويملك صيدلية، وأخبرني أن طالبان سلبت صيدليته هو الآخر». ويرى محمد أن سكان سوات باتوا يعانون من المتاعب النفسية جراء المحنة المستمرة التي عايشوها على مدار العامين المنصرمين، وقال: «نحتاج إلى مستشفى للأمراض العقلية بالمخيمات لمعالجة هؤلاء الأفراد». ويبدو تشخيص محمد صحيحا إلى حد ما، وذلك على أساس ما نرى من تشاحن وتقاتل بين النازحين بعضهم بعضا على أمور أقل ما توصف بأنها تافهة، فالشجار والضرب أمر شائع إلى حد كبير داخل مخيمات النازحين. وأكد الدكتور سعد محمد خان ـ الزميل بمنظمة «أمة» غير الحكومية لمسلمي المملكة المتحدة ـ أن حالات الاكتئاب والتوتر في تزايد بين سكان مخيمات النازحين، وتابع: «أن الاكتئاب والتوتر من المشكلات الشائعة بين النازحين داخليا، ونحن نرى نوعا من العداء بين أغلب الحالات التي نعالجها بالمخيمات».