من مارك توين.. إلى أوباما

الكتاب الذي أهداه رئيس وزراء إسرائيل إلى الرئيس الأميركي.. هل هو رسالة سياسية مغرضة؟

أوباما ونتنياهو.. رسالة سياسية في كتاب (إ. ب. أ)
TT

عندما زار رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أميركا الأسبوع الماضي أهدى الرئيس الأميركي باراك أوباما كتابا هو: «إنوسنتس أبرود» (أبرياء في الخارج) الذي كتبه الكاتب الأميركي الشهير مارك توين عام 1867 وفيه يروي مشاهداته عندما زار الأراضي المقدسة في فلسطين. لكن داخل طائرة نتنياهو قبل هبوطها في واشنطن انقسم الوزراء المرافقون حول أهمية ورمز الهدية. في جانب، اعتقد وزراء انها ستكون مثل هدية الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى أوباما، خلال مؤتمر قمة دول اميركا الوسطى والجنوبية. فقد قدم شافيز كتاب كتبه قبل ثلاثين سنة ادواردو غالينو من أوروغواي بعنوان «اوبن فينز» (شرايين مفتوحة في أميركا اللاتينية: خمسة قرون من نهب قارة)، وذلك في رسالة ضمنية من شافيز إلى أوباما بأنه يرفض «سياسات الهيمنة والتحكم» من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وقال هؤلاء المرافقون لنتنياهو إن إهداء كتاب مارك توين إلى أوباما سيخدم هدفين: أولا: يوضح لأوباما «حقيقة» العرب والمسلمين، مثلما اوضح كتاب غالينو «حقيقة» رأي اللاتينيين في اميركا. ثانيا: يزيد توزيع كتاب مارك توين، مثلما زاد توزيع كتاب غالينو (بنسبة نصف مليون في المائة خلال اسبوع واحد. وكان، قبل ذلك، كتابا مجهولا). ثالثا: يوضح كتاب مارك توين ان اليهود كانوا في القدس في منتصف القرن التاسع عشر، قبل بداية الحركة الصهيونية التي دعت اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين لتأسيس وطن لهم هناك.

رابعا: يوضح صحة شعار اليهود: «شعب بلا وطن إلى وطن بلا شعب»، وان فلسطين، قبل اليهود، واعتمادا على ما جاء في الكتاب، كانت أرضا جرداء ومن دون سكان.

لكن، في الجانب الآخر، عارض وزراء إسرائيليون داخل طائرة نتنياهو هذه الهدية. وقالوا ان في إهدائها استفزازات كثيرة. ليس فقط الاستفزازات في الكتاب عن العرب والمسلمين، ولكن، ايضا، استفزاز أوباما بسبب الإساءة في كتاب مارك توين إلى العرب والمسلمين، فهناك مسلمون في عائلة أوباما. لكن من هو مارك توين؟ وماذا كتب في كتاب «أبرياء في الخارج»؟ ولماذا هذا الكتاب مثير للجدل حتى اليوم؟ يعتبر كثير من خبراء الأدب الأميركي مارك توين أديب أميركا الأول. فقد ولد وعاش في ريف ولاية ميسوري. وخلط بين الجد والتأمل. وكانت اغلبية تأملاته استهزائية وتهكمية، وتوفي سنة 1910. وغير كتاب «أبرياء في الخارج»، اشتهر بكتابة اثنتين من أشهر الروايات الأميركية:

أولا: «مغامرات توم سويار» (سنة 1876). وهي عن صبي في ريف ولاية ميسوري، وعن تأثير الكنيسة عليه، وعن صداقته مع الصبية «بيكي» ثانيا: «مغامرات هاكلبيري فين» (سنة1884). وهي عن الحياة في ذلك الوقت في ولايات الجنوب، على ضفاف نهر مسيسبي، وخاصة عن التفرقة العنصرية ضد الزنوج. وتمثلت هذه في علاقة بين هالكبيري، صبي ابيض، وصديقه «جيم»، صبي اسود، الذي شاركه في رحلة على طوف على النهر.

وفي السنة الماضية، صدر كتاب «من هو مارك توين؟»، وفيه مقتطفات من اكثر من نصف مليون صفحة بخط يد الرجل كانت موجودة في مكان مغمور. واكدت قصص الكتاب القصيرة اسلوب الرجل الذي يكثر من الاستهزاء والتهكم. توجد في الكتاب قصة «حفار القبور»، عن ميل الإنسان نحو الصراحة والشفافية وهو يقترب من الموت. وقصة «ذكريات سعيدة من كرسي طبيب أسنان»، وقصة «صندوق الموسيقى ليست فيه موسيقى» وفي سنة 1869، اصدر مارك توين كتابه «أبرياء في الخارج». وذلك بعد ان سافر في رحلة محيطية إلى أوروبا والشرق الأدنى مع «حجاج» مسيحيين كان هدفهم الأول هو زيارة القدس. وسيرا على فلسفة التهكم، تهكم توين على الفرنسيين الكاثوليك في وقت كان فيه الكاثوليك في الولايات المتحدة عشرة في المائة من السكان (الآن ثلاثون في المائة). وتهكم على فقراء ايطاليين يعيشون بالقرب من الفاتيكان، وسأل: ماذا سيقول عيسى المسيح اذا شاهدهم؟. وتهكم على روس وروسيات يمشون عرايا على بلاج اوديسا. وقال انهم، في هذا المجال، متحررون أكثر من الأميركيين والأميركيات. لكنه عاد وقال ان «التعري بهذه الطريقة ليس إلا توحشا وبربرية». حتى داخل السفينة، تهكم مارك توين على بقية المسافرين والمسافرات: الذي يشخر عندما ينام، والذي يبصق في الأماكن العامة، والذي يتفلسف ويعتقد انه يعرف المسيحية اكثر من غيره، والذي يعتقد انه سيقابل المسيح في القدس.

وتهكم من مسافرين قال انهم تعالوا على شعوب البلاد التي زارتها السفينة: واحد قال للبريطانيين في قاعدة جبل طارق ان قذيفة واحدة من مدمرة اميركية ستقضي على القاعدة. وواحد قال لصاحب مطعم فرنسي ان النبيذ الأميركي أفضل من الفرنسي. وواحد حاول تنصير مسلمين عندما رست السفينة في طنجة، في المغرب.

من طبرية، كتب: «شاهدت كل امرأة تحمل مهرها على رأسها: نقودا رصتها رصا، وجعلتها جزءا من غطاء الرأس. ليست أغلبية هؤلاء ثريات، لكني شاهدت ثرية، وحسبت ثروتها على رأسها، ووجدت أنها لا تزيد على تسعة دولارات».

من بيروت، كتب: «جاء عربي بحصان يحملني إلى القدس. كان يعتقد ان الحصان اعظم حصان في العالم. لكنه لم يكن. كان حصانا هزيلا، رغم كلمات الثناء والفخر من صاحبه العربي. امامي خاطب حصانه باللغة العربية، وترجموها لي. قال لحصانه: تريد ان تهرب ايها العملاق. اذا هربت سأكسر رقبتك. لكن، كان الحصان هزيلا وصاحبه هزيلا. حتى اذا هرب الحصان، ما كان صاحبه سيقدر على ان يلحق به».

من القدس كتب: «قادنا نحو الأماكن المقدسة شبان عرب يحملون سيوفا وخناجر وبنادق عتيقة. خفنا من ان يهجم علينا هؤلاء الحراس بسيوفهم، ولم نخف من بنادقهم لأننا كنا متأكدين انهم لا يعرفون كيف يستعملونها. واذا عرفوا ربما كانت الذخيرة فاسدة او هي بنادق استعراضية دون أي ذخيرة. هؤلاء هم البدو. لا تكاد تراهم من وراء ملابسهم الكثيرة والثقيلة. ولا تكاد تعرف من الحرس ومن غير الحرس. كلهم يشبهون بعضهم. وكلهم يمكن أن يهجمون علينا. كيف يحمي هؤلاء الهمج هذه المجموعة المسيحية المخلصة التي جاءت من أقاصي الأرض؟ ثم إننا مسلحون أضعاف أسلحتهم، وبنادقنا ومسدساتنا جاهزة في أي لحظة».

من طنجة، كتب: «كشفت لي مسلمة وجهها في غياب مسلمين. وعرفت سبب عدم كشف وجهوهن: إنها قبيحة. يحملن أطفالهن في أكياس يضعنها على ظهورهن. تماما مثل البدائيات في كل العالم. رأيت سمرا وسودا. وعرفت ان السمر يملكون السود. يملك الرجل الزنجية حتى تبلغ، ثم يتزوجها. ويملك الزنجي حتى يحفظ الجزء الأول من القرآن، ثم يعتقه. اعتقد أننا في الولايات المتحدة يمكن ان نطبق هذه العادة مع زنوجنا. نعتق الذي يحفظ الإنجيل».

وعن فلسطين، كتب: «من سفينتنا المحيطية، جاء معي إلى القدس الأربعمائة رجل، بعضهم مع زوجات واطفال، لرؤية اهم هدف من هذه الرحلة المحيطية: فلسطين. لكننا وجدناها غير ما توقعناها. لم نشاهد فيها غير بضع مئات من الناس. وقالوا لنا ان سكانها كانوا، في الماضي البعيد، ستة ملايين. وجدنا فلسطين في حجم ولاية ماساشوستس، لكنها صخور وجبال وصحار».

وعن المناظر الطبيعية في فلسطين، كتب: «يمكن أن تفوز فلسطين بالجائزة الأولى في مسابقة أقبح أراضي العالم. ليست فقط صحراء قاحلة، لكنها، أيضا، صحراء قبيحة. لا هي تلال رملية ناعمة تمتد إلى الأفق. ولا هي سلاسل جبال، جبلا وراء الآخر. انها خليط قبيح، هنا جبل قزم، وهنا مغارة مظلمة، وهنا نهر جاف، وهنا مزرعة خضراوات يجب ان تخجل من نفسها. حتى البحر الميت وبحيرة طبرية هزيلان. أقبح ما رأيت في حياتي. تحتاج فلسطين إلى رسام يحمل ريشة ملونة ليلونها بألوان جميلة».

عن سكان القدس، كتب: «يتكون سكان القدس من مسلمين ويهود ويونانيين ولاتينيين وأرمن وسوريين وأقباط وإثيوبيين، وقليل من البروتستانت. يبدو لي أن كل ألوان وألسنة العالم تتمثل في سكان القدس الذين لا يزيد عددهم على أربعة عشر ألف شخص. في ظل حكم اسلامي، ينتشر الفقر واليأس والظلم والقذارة أكثر من انتشار أعلام الهلال التي ترمز إلى الحكم الاسلامي. ينتشر المصابون بالجزام والمعاقون والعمي والسخفاء. ويحيطون بك من كل اتجاه وفي كل مكان. يبدو انهم لا يعرفون غير كلمة بقشيش.. وأنا أشاهد كل هذه المناظر من المشوهين والمرضى والقباح في هذه المدينة المقدسة، اقول انها ربما مثل ما كانت ايام ما قبل المسيح. لهذا، أتوقع هبوط الملائكة وعودة المسيح. شاهدت القدس بلا سعادة وبلا حركة وبلا حياة. ولا أريد أن أعيش هنا أبدا».

لم تأت من فراغ فكرة نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، بأن يهدي كتاب مارك توين هذا للرئيس أوباما. فمنذ اكثر من خمسين سنة، وبعد تأسيس إسرائيل، وبعد النقد بأنها تأسست على حساب الفلسطينيين، بدأ يهود يكتبون كتبا عن شعار: «شعب دون ارض إلى ارض دون شعب». ووجد بعضهم ان كتاب مارك توين يمكن ان يخدم شعارهم.

حتى نتنياهو نفسه، في كتابه قبل عشرين سنة، «ديورابل بيس» (سلام مستمر: إسرائيل وموقعها وسط الأمم)، أشار إلى كتاب مارك توين. وكتب: «لم تكن القدس مزدحمة بالسكان. ويعرف كل متحضر ومتعلم ان تلك الأرض، مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت خالية من السكان».

وأشار نتنياهو إلى جمل من الكتاب لإثبات ذلك: «شاهدت ارض فلسطين الضائعة» و«يوجد في القدس عدد قليل من المسلمين»، و«لا يستفيدون من الأراضي التي تحيط بهم»، و«لم أشاهد قرية وانا انظر لثلاثين ميلا نحو الشمال، ولثلاثين ميلا نحو الجنوب»، و«سافرت لعشرة أميال ولم أقابل غير عشرة أشخاص»، و«تعيش أريحا في حطام بعد ثلاثة آلاف سنة منذ ان تركها النبي جوشوا»، و«لا شيء في بيت لحم سوى رعاة يرعون أغنامهم، رغم ان الملائكة غنت فيها: على الأرض السلام، وحسن النوايا للناس».

صار واضحا في كتاب نتنياهو انه اختار عبارات معينة من كتاب مارك توين. وايضا، عندما كتب عن آراء مارك توين في اليهود، اختار عبارات ايجابية، وحذف عبارات سلبية. الحقيقة هي ان مارك توين هاجم اليهود أحيانا، وأشاد بهم أحيانا. في سنة 1898، في مجلة «هاربر»، كتب: «نجح اليهود رغم معوقات أمامهم وحولهم. ذهب الفراعنة، والبابليون، واليونانيون والرومان. عاصرهم اليهود كلهم، لكنهم لم يذهبوا مثلهم... يعمل اليهودي في جد يحسد عليه. ويعتمد على إخوانه عندما يمرض. لم أشاهد شحاذا يهوديا. لا اعتقد اننا، نحن المسيحيين، نكره اليهود بسبب دينهم، ولكن حسدا، لأنهم يتألفون أكثر منا، ويجمعون المال أحسن منا».

بعد ضجة هدية نتنياهو إلى أوباما، ناقش أميركيون، يهودا وغير يهود، الموضوع. فقبل أسبوعين، كتب جوناثان توبين في مجلة «كومنتاري» اليهودية: «هدية او لا هدية، يجب ان يقرأ أوباما كتاب مارك توين لان أوباما يريد دولة فلسطينية، ومارك توين قال ان عدد الفلسطينيين كان قليلا جدا. وما كانوا يعرفون معنى الوطنية. وما كان عندهم وطن»، وأضاف: «لم يصبح الفلسطينيون وطنيين إلا بعد تأسيس إسرائيل».

وصار واضحا ان يهودا يستغلون كتاب مارك توين (أو أجزاء فيه) لإثبات ان فلسطين هي وطنهم. ففي سنة 1984، كتبت واحدة منهم، جون بيترز، كتاب «فروم تايم اموموريال» (منذ وقت سحيق). وأيضا، أوردت فقرات من كتاب مارك توين. وظهرت مشكلتان:

أولا: تجاهل كثير من الذين يكتبون آراء مارك توين السلبية عن اليهود.

ثانيا: نقلوا عن بعضهم بعضا حتى دون قراءة الكتاب.

اثبت النقطة الثانية فرانك مينتريز، مؤلف كتاب (ما بعد الجرأة). وهو رد على كتاب (الجرأة) الذي كتبه، قبل عشر سنوات الان ديرشوفتز، استاذ جامعي، ومن قادة المثقفين اليهود في اميركا. دافع الكتاب الثاني عن إسرائيل، واعترف بأن تأسيسها جرأة لا يقدر عليها غير اليهود. وقال الكتاب الأول إن ذلك ليس إلا دليلا على تعالي اليهود. وقال إن اليهود «يستغلون العداء للسامية، ويزورن التاريخ».

في الاسبوع الماضي، اشترك مينتريز في النقاش عن هدية نتنياهو إلى أوباما. وانتقد الاعتماد على كتاب مارك توين لإثبات حق اليهود في فلسطين. وكتب: «كان مارك توين سائحا وصحافيا. ولم يكن مساحا أو موظف إحصاء». وأضاف: «يمكن أن نستعل نفس المنطق، ونقول ان الذي يزور إسرائيل في الوقت الحاضر سيرى صحاري كثيرة ومناطق لا يعيش فيها أي يهودي. هل يعني ذلك أن إسرائيل تحتاج إلى هجرة شعوب غريبة»؟

وأخيرا، عندما كبر مارك توين، كتب كتاب: «مبشرون في السياسة العالمية» وهو عن تزايد قوة الولايات المتحدة (في القرن التاسع عشر، ناهيك عن القرن الحادي والعشرين). هل يعني هذا ان الرجل لم يكن وطنيا؟ هل خان وطنه؟ كيف يخون وطنه ويعتمد عليه بعض الناس لإثبات أوطان أخرى لشعوب أخرى؟