بارود.. في وزارة الداخلية

وزير الداخلية اللبناني هوايته جمع علب الكبريت.. ويقود أهم انتخابات في تاريخ لبنان

TT

يترقب اللبنانيون ومن خلفهم العالم يوم السابع من يونيو (حزيران) المقبل، موعد إجراء الانتخابات النيابية التي قد تكون الأهم في تاريخ لبنان الحديث نظرا لما يجري تداوله من سيناريوهات لمستقبل لبنان تعتمد كلها على هذه الانتخابات التي يمسك ملفها شاب في التاسعة والثلاثين من عمره، يبدو غريبا في موقعه الذي اعتاد اللبنانيون أن يروا فيه «بيض الشعر»، فما كادوا يصدقون أن وزير الداخلية الجديد هو زياد بارود الذي اختاره رئيس الجمهورية ميشال سليمان لدخول الحكومة الأولى في عهده وقيادة دفة أكثر الوزارات حساسية في لبنان.

ربما لم يكن مشهد الشاب الذي يقترب من سن الأربعين، وشعره المسرح كيفما اتفق بنفحة شبابية، مقنعا للوهلة الأولى لمن لم يعرف هذا «المناضل» الشبابي الذي كان خلال السنوات الماضية من أبرز الناشطين في الجمعيات الأهلية. غير أن الذين خبروا الوزير الجديد بعد أيام على وصوله إلى الوزارة أيقنوا أنه صعب الترويض ـ على غرار شعره ـ وأنه قادر على قيادة سفينة الانتخابات على الرغم من كل التجاذبات السياسية التي تحيط بهذا الملف.

منذ وصوله إلى موقعه، باشر الوزير الجديد عمله باندفاع يحسد عليه، وسرعان ما نال «توافق» القوى السياسية الأساسية على حياده ونزاهته، ما مكنه من الانطلاق باندفاعة أكبر. ولما كان الوزير الجديد، ليس جديدا على عالم الانتخابات، باشر عمله وكأنه يعيش في موقعه هذا منذ زمن طويل.

ولد الوزير بارود في بلدة جعيتا في قضاء كسروان عام 1970، لوالدين من «سلك التربية والتعليم»، فوالده سليم بارود هو أستاذ رياضيات ووالدته انطوانيت سالم أستاذة أدب عربي. وشقيقته الوحيدة مها هي أيضا مدرسة. وقد خضع بارود لتربية صارمة، كان فيها الخط الفاصل بين الصحيح والخطأ واضحا لا لبس فيه. ويقول والده: «عندنا لا مزاح، كلّو على الزّيح، والغلط ممنوع». أما الوزير بارود، فقد قال في أولى مقابلاته بعد تعيينه إن الغلط سيكون ممنوعا في الأمن، وأن بصماته الإصلاحية ستظهر لا محالة في الانتخابات المقبلة، وسيسعى إلى تحقيق ما ناضل من أجله أعواما مع رفاقه.. على قدر ما يتيح له قانون انتخابات أعد تفصيليا في الدوحة. تلقى بارود دروسه في معهد القديس يوسف (عينطورة) ثم في الجامعة اليسوعية في بيروت، حيث درس المحاماة، وهو يتابع حاليا الدكتوراه في جامعة باريس. تدرج في مكتب وزير العدل الحالي وأحد أبرز القانونيين في لبنان البروفسور إبراهيم نجار ثم استقل في مكتبه الخاص (Firm Law HBD-T شركة مدنية) عام 2003. وهو محام بالاستئناف ومقرر اللجنة التشريعية في نقابة المحامين في بيروت. وبارود من الناشطين البارزين في المجال الأكاديمي، فهو أستاذ محاضر في القانون في جامعة القديس يوسف في بيروت، كما حاضر أيضا في المعهد المالي وفي الجامعة الانطونية. وباحث ـ شريك في المركز اللبناني للدراسات، وقد حاضر في جامعة الروح القدس ـ الكسليك، وهو عضو لجنة تأليف كتاب التربية المدنية للصف الثانوي الثالث. له مؤلفات قانونية وأوراق بحثية عدة في المسائل الدستورية والانتخابية واللامركزية الإدارية وقوانين الجمعيات والأحزاب وقطاع التربية والتعليم والشباب. اختير بارود عضوا في الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب برئاسة الوزير السابق فؤاد بطرس، وكانت له اعتراضاته على بعض التقسيمات، وتحديدا تقسيم محافظة جبل لبنان، إذ خالف بقية الأعضاء محتجا بـ«عدم العدالة» في التقسيم. كما كان عضوا في لجنة تحديث القوانين في وزارة العدل التي ترأسها الوزير بهيج طبار ثم الوزير الدكتور خالد قباني. وبالإضافة إلى هذا، كان الأمين العام للجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات بين عامي 2004 و2005، وفيها كانت أبرز نشاطاته وخبراته في مجال الانتخابات وإدارتها، والتي بدت تفاصيلها في قانون الانتخاب الجديد.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، نزل المحامي الشاب زياد بارود إلى الشارع مرتديا «فانيلة» بيضاء مكتوب عليها كلمة واحدة «خلص» في سياق سلسلة من التحركات التي تنظمها قوى المجتمع المدني من أجل «إبعاد شبح الحرب الأهلية»، واعتبر بارود حينها أن عدم نجاح هذه الحملة يعود إلى أن «المشكلة تكمن في البنية الأساسية للنظام السياسي اللبناني، فقد أصبح الشارع والإعلام المؤسستين الوحيدتين اللتين يجري النقاش من خلالهما، حيث إن كل مؤسسات الدولة الأخرى تعاني من شلل تام». إلا أن حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي تعيشها البلاد أفقدت نشاطات الشارع ـ وهي عصب تحركات المجتمع المدني ـ فعاليتها. ويضيف: «ليست هناك أكثرية صامتة في لبنان.

لقد اختارت غالبية اللبنانيين الاصطفاف إلى جانب هذه المجموعة السياسية أو تلك، وباتت الروابط المذهبية أقوى من السابق ومن الصعب تجاهل تأثيرها.

ولما كانت التقسيمات الانتخابية أمرا غير قابل للنقاش في قانون الانتخاب الجديد، كونها وصلته جاهزة نتيجة اتفاق القيادات السياسية في الدوحة، إلا أن الوزير بارود استطاع إدخال كثير من «الألغام الإيجابية» التي ساعدته في إدارة عملية الانتخاب، وبجهوده تضمن القانون الجديد العديد من الإصلاحات، أبرزها إجراء الانتخابات في يوم واحد وتحديد النفقات الانتخابية ومعايير لضبط الإعلام والإعلان الانتخابي.

وخلال النقاشات التي كانت تجري في الدوحة، كان بارود في بيروت يناقش ويحلل صعوبة التوصل إلى اتفاق. وقد أبدى بارود حينها أسفه لأن كل الأطراف السياسية لا ترى في موضوع الانتخاب حالة إصلاحية للنظام الانتخابي، معتبرا أن قانون فؤاد بطرس وضع «على قياس الوطن ولم يركب على قياس أحد»، معتبرا أنه «ليس المطلوب من قانون الانتخاب أن يحسم نتائج الانتخابات قبل الانتخاب وأن يحسم عدد المقاعد التي ينالها كل فريق مسبقا بمجرد صدور القانون».

مشيرا إلى أن «المطلوب من قانون الانتخاب أن يؤمن صحة تمثيل لكل الفئات، وكي نحصل على ذلك، نحن بحاجة إلى قانون لا يشبه أي قانون اعتمد في لبنان في السابق، ولا يشبه بوجه الخصوص قانون الـ2000 الذي يتميز بإقصاء مجموعات في لبنان بمجرد النظر إلى القانون ومن دون الحاجة إلى الذهاب إلى انتخابات». ويخلص بارود إلى أن كل المجموعات الكبيرة التي اعتادت أن تأخذ مقاعد أكثر مما يحق لها، متضررة من هذا القانون.

لم يستطع بارود تأمين إصلاحات أخرى في القانون، وأبرزها النسبية، التي يرى فيها الحل لمشكلة التمثيل، بالإضافة إلى مكننة عملية الاقتراع وتنظيم عملية اقتراع المغتربين، وهذه موضوعات يمكن إدراجها في خانة «المشروعات المستقبلية» للوزير بارود.

منذ وصوله إلى وزارة الداخلية، يلاحظ زوار الوزارة «ملامح مدنية» قد بدأت تظهر في أجواء الوزارة، وتقول عنه الإعلامية رلى معوض، وهي صديقة قديمة لبارود، إنه لأول مرة في تاريخ لبنان هناك «مواطن في وزارة الداخلية» مشيرة إلى أن بارود يعرف ماذا يحتاجه المواطن حقيقة، لأن الوزراء لا يعرفون. مؤكدة أنه لا يزال كما هو قبل تعيينه وزيرا فلم «يقبض نفسه» وزيرا بالمفهوم الذي اعتدنا أن نراه، واختار أن يعمل على الأرض. وتقول معوض إن بارود لا يزال يعمل «كأنه في جمعية أهلية»، وتصفه بأنه «غير بيروقراطي، اعتاد العمل على الأرض ونقل معه تجربته في الجمعيات الأهلية إلى الوزارة، ما جعله قادرا على التنسيق، بالإضافة إلى رفضه العمل من وراء المكتب».

ومنذ وصوله إلى الوزارة لا يتوقف بارود عن العمل الميداني، فتارة تورد الصحف رواية عن وجوده على أحد الحواجز التابعة لقوى الأمن الداخلي يقوم بالتأكد من مطابقة الإجراءات التي يقوم بها العسكريون للمعايير، ويساعدهم في إرشاد العابرين إلى أهمية تطبيق قانون السير بحذافيره واستعمال حزام الأمان، وتارة يقف عند مشهد شرطي سير كاد أن يتراجع عن تنظيم محضر ضبط بحق مخالف بعد «وساطة تلقاها» وكيف أنه أصر على البقاء إلى جانب الشرطي حتى تسليمه المحضر، ومرة ثالثة يفاجأ به المسافرون في مطار بيروت عند الواحدة والنصف فجرا يتأكد من حسن سير الأمور فيه.

يصفه أصدقاؤه بأنه «شخص طريف وخدوم إلى أبعد الحدود»، يضحك من أعماقه، ويستعمل فكاهته لتوصيل الرسائل بطريقة لبقة لا تحرج. وهو شخص لا ييأس ولا يتعب سعيا إلى غايته، كما فعل أخيرا لتأمين حصول لبنان على طوافات لمكافحة الحرائق على الرغم من العجز في موازنة الدولة. ولم ييأس على الرغم من اصطدامه بالروتين والعقبات البيروقراطية وسط قوانين عمر بعضها يعود إلى أيام السلطنة العثمانية.

وبارود متأهل من ليندا كرم ولهم ولدان تيو رفايل واليسا كارول، هوايته جمع علب الكبريت، التي يقوم بإحضار كل موديلاتها الحديثة والقديمة من جميع أنحاء العالم. كما أنه لا يزال متمردا على الروتين الإداري، فيهرب من حراسه إلى السوبر ماركت يجر العربة ويشتري حاجياته بنفسه.

أقدم بارود على عمل، شكل تحديا بارزا للطبقة السياسية والطائفية في لبنان، بسماحه للبنانيين بشطب الطائفة عن سجلات القيد لأول مرة في تاريخ لبنان، واللافت أن هذا الإجراء لم يأخذ الكثير من ردود الفعل في بلد متخم بالطائفية، وربما يعود السبب إلى هذه الثقة التي تكونت لدى القيادات بدوافعه، التي أكد بارود أنها «غير سياسية ولا ترتبط بموضوع إلغاء الطائفية السياسية».

لم يفاجأ كثيرون باختيار بارود، الذي وصف هذه الخطوة بأنها «ثقة عزيزة جدا» واعدا بالقيام بالمستحيل ليكون بمستواها. ويقول «اعتدت على العمل المضني مهنيا وفي المجتمع المدني وكل المواقع التي جهدت فيها، ولا أخشى بالتالي من التحديات، خصوصا تلك التي تعنيني». ويضيف «يقيني بأن فخامة الرئيس سيكون مواكبا لكل ما سأقوم به، وهذا أمر يجعلني أطمئن معنويا. على المستوى العملي، لا شك في أن هذه الوزارة تحوي كما هائلا من المهام في الأيام القادمة، فكم بالحري في فترة انتخابية؟». مشيرا إلى أنه يتطلع منذ الآن إلى يوم مغادرة الوزارة «وقد أنجزت ما يتوافق مع ما أطرحه ورفاق لي منذ أعوام»، ويرى أن «التحدي هو على مستويين، أولا: تأمين أداء حيادي متطور وعصري للعملية الانتخابية، والثاني أن تكون وزارة الداخلية في الوقت ذاته حازمة في الموضوع الأمني، وتكون أيضا وزارة حقوق الإنسان، لأنني لا أرى تعارضا بين التوجهين»، رافضا معادلة الأمن مقابل حقوق الإنسان والحريات. مؤكدا أنه سيتابع «يوميات المواطنين من شؤون السير إلى معاملاتهم مع إدارات الدولة التابعة لوزارة الداخلية، وأنا سأقاربها بعين المواطن الذي لا أزاله».

اصطدم بارود بالكثير من العقبات لدى دخوله عالم الوزراء، وهو استشهد بمثل فرنسي يقول Chassez l"intrus أي «اطردوا الدخيل! خارج السرب!». لكنه يعرب عن اعتقاده بأنه لا يرى تناقضا في وصوله، كشاب، إلى هذا المجال، بل شراكة بين قديم أو متمرس أو ذي شأن وموقع على المستوى الشعبي والتمثيلي. ويقول «التجديد رأى فيه رئيس الجمهورية ترجمة فعلية لما ورد في خطاب القسم بموضوع الشباب وأنا أرى تكاملا في الصورة ولا أرى تناقضا ولا أرى نفسي في موقع المواجهة بل في موقع التواصل» وعن الهدف من بقائه في الوزارة بعد عرقلة الإصلاحات التي كان يتطلع إليها، خصوصا أنه سبق وخرج من مجلس الوزراء حتى لا يكون شاهد زور على قرار تمديد المهل للكسارات؟ يوضح بارود أن موقفه في موضوع الكسارات كان مبدئيا، لقناعته أن المجلس الوطني للمقالع الذي يفترض به الترخيص للكسارات، هو المرجع الصالح لتحديد المهل الإدارية لاستمرار عمل هؤلاء أو عدمه. أما موضوع الإصلاحات فليست نزهة سهلة في «مجتمع سياسي يكاد يكون عصيا على الإصلاح». موضحا أن الإصلاح الانتخابي عملية مستمرة منذ عقود، تعززت عام 1996 عند إطلاق الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي، التي شارك فيها عشرات الأشخاص المؤثرين، الذين راكموا التجارب ودفعوا باتجاه الإصلاحات. مع العلم بأن اتفاق الدوحة قطع الطريق على إصلاح مادتين أساسيتين في أي قانون انتخابي هما تقسيم الدوائر وطبيعة النظام الانتخابي (أكثري أو نسبي أو غيره). وقد أقام الوزير الجديد صفحة له على موقع «فيس بوك»، يجري فيها محادثات مع أعضاء آخرين، ويتبادل معهم الرسائل والتعليقات. ويأمل بارود في رسالته على هذه الصفحة «أن يكون عند حسن ظن أصدقائه في الموقع، الذين يعرفهم أو لا يعرفهم»، ويرد عليه هؤلاء بإرسال التعليقات إليه، سرورا بصداقته، وتعبيرا عن إعجابهم به وبنهجه.