أملاك فتح.. مصير مجهول

بعد وفاة عرفات تدهور وضع الحركة المالي.. لكنها كانت قد تخلصت من عبء ثقيل عبر توظيف عناصرها في السلطة

القدرات المالية لفتح تأثرت بوفاة عرفات («نيويورك تايمز»)
TT

* في إحدى الجلسات المغلقة، قبل عامين، قال القيادي الفتحاوي محمد دحلان، إن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قال له ذات مرة إن من أراد أن يعمل في السياسة في فلسطين يجب أن يملك القدرة على الإقناع والقوة على الإقناع. وأضاف دحلان: «سألته، طيب القدرة مفهومة، لكن كيف القوة على الإقناع؟، فقال لي: العصا».

لم تكن عصا عرفات بالضرورة القوة المسلحة، لكنه كان يوظف المال في أغلب الأحيان كعصا. فبالمال استمرت فتح عدة عقود وظلت تسيطر على منظمة التحرير الفلسطينية ومكاتبها في كل مكان، قبل أن تنشأ السلطة الوطنية الفلسطينية وتترأسها.

قدم عرفات دعما ماليا لمختلف شرائح الفلسطينيين، أسس وسائل إعلام مختلفة، أغدق المال على نقابات ومؤسسات وفصائل وأحزاب وتنظيمات، كان يعطي من يشاء ويحجب المال عمن يشاء، وفي مراحل معينة من تاريخ الثورة الفلسطينية ساعد مال عرفات على شق فصائل معارضة.

مسألتان لم يساوم حولهما عرفات في أثناء معركة الإصلاح التي حاولت جهات دولية فرضها عليه في أثناء حكمه للسلطة الفلسطينية: المال والسلطة. فقد ظل يمسك بمفاتيح كنوز فتح والمنظمة والسلطة، وبتبعية الأجهزة الأمنية له.

أغدق عرفات المال على كل محتاج، دفع للمرضى والجرحى والفقراء وعائلات الشهداء، أعطى المقاتلين والطلاب والمسافرين والعائدين، وأولئك الذين طلبوا منه معونة من أجل أن يتزوجوا أو يزوجوا أبناءهم.

كان عرفات «الإمبراطور» يأخذ من مال فتح ومال المنظمة ومال السلطة، يستثمر في فلسطين وفي دول أخرى، وفقط مقربون جدا منه كانوا يعرفون بالضبط ماذا يفعل الرجل، الذي كانت له قدرة فريدة على جلب مئات الملايين وقتما يشاء من ثروة ربما لم تزل غير مكشوفة تماما.

وعلى مدار 4 أيام امتنع مكتب التعبئة والتنظيم لحركة فتح في رام الله عن الإجابة على أسئلة لـ«الشرق الأوسط» حول ميزانية فتح، ومن أين تأتي، وكم تقدر أملاك الحركة إن وُجدت.

واليوم بعد 3 سنوات على رحيل عرفات فقدت فتح «العصا»، وسيطرت حماس على القطاع وأحكمت قبضتها على كل شيء هناك، السلاح والمال. وسيطر سلام فياض، المدعوم من العالم، على الضفة الغربية، وأحكم قبضته هو الآخر على الأجهزة الأمنية والمال.

لم يبقَ لفتح سوى مالها الخاص، بعدما فقدت مال السلطة ومال المنظمة ومال عرفات، وأصبحت تحصل على ميزانية محددة من الصندوق القومي لمنظمة التحرير الذي يدفع كذلك ميزانية الفصائل الأخرى.

وقال مصدر في فتح في الضفة لـ«الشرق الأوسط»: «الوضع تغير، كنا نحصل على ما نريد من عرفات مباشرة، ولم يكن المال عقبة حتى في أصعب الأوقات، والآن هناك أزمة حقيقية وموازنات بسيطة».

وأوضح أمين مقبول، القيادي في فتح وعضو المجلس الثوري لحركة فتح، أن اللجنة المالية لفتح كانت تضم أبو عمار وأبو مازن وأبو علاء، وفي مؤسسات الحركة تاريخيا لم يعرض أي تقرير مالي يوضح عن أملاك وموجودات ومصاريف وموازنة الحركة. وتابع: «طالبنا في المجلس الثوري بأن تعرض موازنة الحركة، لأننا نريد أن نعرف ما هو وضع الحركة، إذ يبلغوننا دائما بأن الحركة تمر بأزمة كبيرة».

ووصف مقبول وضع الحركة بالمتدهور، وقال: «إن احتياجاتها في العمل التنظيمي ومصاريفها تشكل 1 على 100 مما يصرف عند حماس، والعنوان دائما أنه لا توجد أموال».

مثل هذه الأزمة في فتح استغلها فياض بحسب مصادر مقربة من أحمد قريع، مفوض التعبئة والتنظيم في فتح، إذ اتهمت هذه المصادر فياض بأنه حاول أن يشتري فتح بالمال، من خلال اجتماعاته بممثلي أقاليم الحركة، وكانت هذه «القشة» التي فجرت الخلافات عميقا بين قريع وفياض.

ورغم الأزمة المالية التي يشير إليها مسؤولو فتح، تملك فتح بحسب المصدر أراضي زراعية كبيرة في دول عربية وغير عربية، مثل السودان والصومال وسورية ولبنان، إضافة إلى أن لها أسهما كبيرة في بنوك عربية ومستشفيات وشركات طيران، ومناجم ذهب وشركات بحرية، ومؤسسات إعلامية، وهاي تك، وأخرى للتجارة، وعقارات. وأكد المصدر أن هذه الأموال أو الشركات من المفترض أنها مسجلة بأسماء أشخاص محددين ومعروفين من فتح، لكنهم يعرفون أن هذه هي أموال الحركة، وتذهب إلى حساباتهم الشخصية وفق تفاهمات خاصة. لكن ما حجم هذه الملكيات؟ وما هو مصيرها بالضبط؟ يقول لك مسؤولو فتح: «إن أبو مازن (الرئيس الفلسطيني محمود عباس) أو قريع فقط يمكن أن يجيبا عن ذلك»، أما إذا ما كانت هناك شركات أخرى وحسابات سرية لأشخاص آخرين كان يثق بهم عرفات فقط، فهذا قد دُفن مع الرجل. وقال مقبول: «كانت هناك مشاريع بالملايين، نعم، لكن بعضها دمر في لبنان في أثناء الاجتياحات، وبعض الممتلكات والمشاريع والموجودات التي كانت في سورية صادرتها وسيطرت عليها سورية».

وأكدت مصادر فتحاوية لـ«الشرق الأوسط» أن «الرئيس الفلسطيني محمود عباس شكل في وقت سابق لجنة لحصر ملكية فتح، ويأتي ذلك لسببين: الأول معرفة مصير أملاك الحركة، والثاني الكشف عن أي عمليات سرقة أو اختلاس تمت لبعض هذه الأملاك، مستغلين وفاة عرفات».

ويثير الفتحاويون دائما نقاشات حول مصير أملاك الحركة ومؤسساتها الكبيرة. وكانت صحيفة «يديعوت أحرنوت» قالت إن زير المالية الفلسطيني سلام فياض، بعد وفاة عرفات، طلب من الموساد (المخابرات الخارجية) الإسرائيلي مساعدته في البحث عن أموال عرفات وحساباته البنكية.

وقالت «يديعوت» آنذاك إنه بعد أربعة أشهر فقط من رحيل رئيس السلطة ياسر عرفات وصلت رسالة مفاجئة لمصادر الاستخبارات العسكرية، تحمل طلبا من وزير المالية سلام فياض لجهاز الموساد الإسرائيلي يقول فيها: «ساعدونا في العثور على أموال عرفات وحساباته السرّية». وورد في الرسالة عبارة مفاجئة تقول إن فياض «يعتمد على جهاز الموساد في العثور على الملايين». وورد أيضا: «لا نستطيع أن نقيم مؤسسات دولة من دونها».

وبعد هذه الرسالة وصلت رسالتان أخريان من قادة فلسطينيين كبار يقولون فيهما: «لا يضيرنا أن المخابرات الإسرائيلية تبحث معنا، والمهم هو أن نعثر على الأموال».

فياض أوضح في رسائله أن الحديث يدور عن 600 مليون دولار اختفت بعد رحيل عرفات، ولكن شخصيات أخرى وفي رسائل أخرى تحدثت عن مبلغ 900 مليون دولار وأكثر. وفي أوساط المخابرات الإسرائيلية فوجئوا من تسريب النبأ للصحافة، واضطروا بعدها إلى الاعتراف: «نعم، نحن لا نزال نبحث عن الأموال»، وهمس مصدر استخباري إسرائيلي رسمي: «ولكن الاستخبارات الأميركية وأجهزة استخبارات أوروبية أخرى وأفريقية انضموا إلى المهمة، وهناك تنسيق استخباري عالمي».

وعمليا فشلت هذه المحاولات في كشف شيء ما، ولم تثمر، وفي أوساط الاستخبارات الإسرائيلية هناك من يقول إن مئات الملايين لن ينجح أحد في الكشف عنها إلى يوم الدين. وحتى عندما أثارت الشرطة الإسرائيلية في عام 2002 شبهات حول أحد مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، من أنه أشرف على استثمار أموال للسلطة الفلسطينية لصالح عرفات، لم تصل إلى نتيجة.

وقالت صحيفة «معاريف» آنذاك إن يوسي غينوسار، وهو موظف كبير سابق في المخابرات الإسرائيلية، وضابط آخر سابق في شعبة الاستخبارات العسكرية، أدار استثمارات بقيمة 300 مليون دولار في أحد بنوك سويسرا باسم الرئيس ياسر عرفات. وتقرر فتح التحقيق بعد أن اختفى مبلغ 65 مليون دولار منها، زعمت إسرائيل أنها ذهبت إلى عناصر فلسطينية تعمل في النشاط العسكري المعادي لها.

وقد نفى غينوسار ذلك، وقال إن نشاطاته الاقتصادية مع الفلسطينيين وغيرهم من العرب مكشوفة ومعروفة للمخابرات، وكلها شرعية، وكل ما في الأمر أن «إسرائيل مصابة بالعمى ضد كل ما هو فلسطيني».

استثمرت فتح جيدا في كل شيء، وأقامت مؤسسات عملاقة، وحتى مصانع للأسلحة في دول مثل اليمن، لكن كل ذلك كان يتبخر سريعا، وتوقف كثير من المشاريع حتى داخل أراضي السلطة الفلسطينية.

ومع تأسيس السلطة كان أبرز ما استثمرته فتح أنها تخلصت من عبء كبير بتوظيف معظم أفرادها في المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، ويتم اليوم انتداب موظفين في السلطة يتلقون راتبا من الحكومة التي تعاديها فتح، ليديروا مكاتب فتح الحركية.

لكن فتح كأي تنظيم، لديها قاعدتها وشبيبتها ومؤسساتها ونقاباتها وإعلامها، ومعاركها الانتخابية وعلاقاتها، ونشاطات أخرى جماهيرية ورسمية كثيرة.

ويسجل أبناء فتح لعرفات أنه كان يمول حتى نشاطات الحركة عسكريا، وقال أحد عناصر كتائب الأقصى التابعة لفتح، لـ«الشرق الأوسط»: «عرفات كان يرسل إلينا أموالا بطريقته ويدفع كل ما نريد، وبعد وفاته توقف كل شيء». وتابع: «حتى ثمن قطع السلاح كان يدفعها عرفات». باختصار، كان عرفات يوظف كل سلطاته كيفما يشاء، بما يخدم مصالح فتح، ويقول مناصروه: «إنه كان يقوي فتح وقتما يشاء على حساب السلطة والمنظمة، ويقوي السلطة وقتما يشاء على حساب فتح، وعندما يريد، يعيد إلى المنظمة قوتها، وهكذا».

لكن بعد وفاته لم يعد هناك من يمسك بالخيوط معا، فأخذت حماس جزءا من السلطة، وأخذ فياض جزءا آخر، وكان على فتح أن تعود من سلطة إلى حركة.

ومنذ تأسيس السلطة الفلسطينية تطارد الاتهامات حركة فتح في مسألة «الخلط» بين حقها وحق الآخرين. وكان صندوق النقد الدولي قال إن نحو 900 مليون دولار عائدة إلى السلطة الوطنية الفلسطينية من مشاريع تجارية عدة، «اختفت ولم يعد لها أثر» خلال الفترة الممتدة من 1995 إلى 2000.

وكان رجال في السلطة احتكروا، فعلا، أعمالا اقتصادية بعينها، واليوم تفتح السلطة ملفات قديمة ويحقق النائب العام أحمد المغني في ملفات وصفها بالكبيرة، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «نحقق في ملفات فساد كبيرة لأسماء كبيرة». لكن المغني رفض الكشف عن تفاصيل محددة، لأن ذلك يتعارض ويؤثر على مسار التحقيق، إلا أنه أكد أنه سيتم نشر التفاصيل.

ولدى لـ«الشرق الأوسط» معلومات عن أن التحقيق يطال أصحاب مواقع رفيعة سابقة، بالإضافة إلى مسؤولي شركات ومؤسسات تجارية كانت تعمل في الأراضي الفلسطينية.

وليس سرا أن النائب العام فكر العام الماضي في التحقيق مع أحد مستشاري الرئيس عرفات, وكان التحقيق سينصب حول مشروع استثماري ضخم بقيمة 600 مليون دولار.

وقال المغني إن الإجراءات القانونية التي يتم دراستها تهدف إلى معرفة مصادر هذه الأموال، وما إذا كانت من أموال السلطة الفلسطينية أم من عدمها. وأكد أحمد قريع، مفوض التعبئة والتنظيم في فتح، أن للحركة إدارة خاصة تتابع أموالها ضمن سجلات وقيود، وهي أموال منفصلة تماما عن أي أموال أخرى. وفي وقت سابق نفى فياض وجود أموال للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أماكن متفرقة لم يعلن عنها إلا بعد رحيله. وقال فياض إن ما ينشر من تقارير صحافية حول وجود أموال للرئيس الراحل ياسر عرفات مبعثرة هنا وهناك غير صحيح، خصوصا بعد أن تم تجميع استثمارات السلطة الفلسطينية وعملياتها التجارية من خلال صندوق الاستثمار الفلسطيني بعد البدء بعملية الإصلاح المالي في عام 2002.

وقال فياض إن صندوق الاستثمار الفلسطيني كان قد تأسس بمرسوم رئاسي من عرفات في أغسطس (آب) 2002 ضمن خطة الإصلاح التي بدأت وانتهت في حياة عرفات. وأضاف: «ومنذ ذلك اليوم لم يأتِ أي شخص بأي معلومات لها مصداقية حول وجود أموال غير معروفة هنا أو هناك، ومن لديه أي معلومة أخرى فليأتِ ويقُل لنا».

وتابع أن إيحاء بعض الأطراف الفلسطينية بالكشف عن أموال هنا وهناك بعد رحيل عرفات غير صحيح، ويضر بالمصالح الفلسطينية والفئات الأكثر فقرا، «لأنه يؤثر سلبا على تدفق المساعدات الدولية».

وعلى أي حال فإن الأزمة المالية التي تمر بها فتح لا تعني فقرا، ولن يأتي أحد من فتح ليقول لفياض، «عدو الحركة اللدود»: إن هناك أمولا لفتح أو عرفات عليك أن تطلع عليها. ويكفي مطالعة توضيح أصدره قريع العام الماضي، بعد اتهامات له من أشخاص في فتح، بأنه حوّل ملايين الدولارات من حساب فتح إلى حسابه الخاص، ليتضح أن الحركة ما زالت فعلا تملك الكثير.

وقال قريع: «أود أن أوضح بكل مسؤولية وشفافية وأمانة أن هذا المبلغ هو جزء من خمسة ملايين دولار لصالح كل من حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأن الحساب رقم 111444/713 الذي أشير إليه هو حساب الصندوق القومي الفلسطيني لدى البنك العربي ـ عمان، وأن الحساب رقم 21250/510 الذي أشير إليه كذلك هو حساب لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) لدى البنك العربي ـ عمان، وهو حساب مفتوح بأسماء أشخاص معروفين لدى الحركة، وبقرار من قيادتها منذ أواسط الثمانينات، علما أن حسابات حركة فتح منذ البدء تسجل بأسماء أشخاص من قيادتها وتخضع لكافة أشكال الرقابة والتدقيق الحركي».

وأضاف: «أما عن طبيعة هذا المبلغ فهو عبارة عن حصيلة بيع حصة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح في بنك بيروت للتجارة / لبنان، هذا البنك الذي أسسه المرحوم رفعت النمر، وكانت هذه الحصة قد بيعت بمعرفة السيد صبيح المصري بمبلغ خمسة ملايين دولار، أودعت باسم الشهيد الخالد ياسر عرفات في حينه تحت مسمى (أمانات لمنظمة التحرير الفلسطينية ولحركة فتح)، حصة فتح فيها مبلغ ثلاثة ملايين دولار».

وقال: «بالفعل قد حوّلت حصة فتح البالغة ثلاثة ملايين دولار بعد وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من حساب أمانات المسجل باسمه، إلى حساب حركة فتح رقم 21250/512، بينما ظل المبلغ المتبقي وقدره مليونا دولار حصة منظمة التحرير الفلسطينية في حساب الصندوق القومي الفلسطيني رقم 111444/713 المذكور آنفا».