آخر ترزي في العراق

أبو جلال رجل الصبر.. بين بغداد وذكريات شارع الرشيد

TT

على امتداد شارع الرشيد الذي يبلغ طوله حوالي أربعة كيلومترات، في جانب الرصافة، بمحاذاة نهر دجلة، لا أحد من أصحاب المحال وخصوصا كبار السن، لا يعرف من هو (أبو جلال) على الرغم من أن أبو جلال يملك محلا صغيرا جدا قياسا لمحلات ذلك الشارع التاريخي، الذي بني عام 1910.

عندما جلسنا بالقرب من (أبو جلال) وسط شارع الرشيد، ليحدثنا عن مهنته (الريافة) ، وجدنا أن كل أصحاب المحال الذين مروا بنا ونحن نجلس في الشارع قبالة محله، قد بادروه بالسلام الذي اعتادوا عليه كل صباح، قبل التوجه إلى محالهم للبدء بعمليات البيع والشراء وتحصيل أرزاقهم في ذلك اليوم، وكأنهم يتفاءلون برؤية أبو جلال، الذي اعتاد هو الآخر أن يكون أول من يفتح محله في صباح كل يوم وبوقت مبكر جدا، بعد أن تجهز زوجته طعام إفطاره اليومي، ليأخذه معه إلى المحل، الذي لا يتعدى حجمه الستة أمتار طولا وعرضا. في الشارع الذي كان شاهدا تاريخيا لبغداد على كل الأحداث السياسية التي مرت بها، وكانت أعمدته تحكي قصصا كثيرة، هو الشارع ذاته الذي يحمل ذاكرة خمسين عاما من عمر أبو جلال، (جاسم محمد) ، الذي يبلغ الرابعة والستين من العمر، وهو يحاول أن يعيد الحياة لملابس الفقراء والأغنياء على حد»سواء، عندما تتعرض بعض قطعهم الثمينة إلى التلف، فيلجأون إلى أبو جلال، ليعيدها للاستخدام مرة أخرى وبمهارة عالية قد لا يكتشفها إلا من يعرف أين مكامن التلف في تلك القطع.

من خلال مهنته (الريافة) ، تعلم (أبو جلال) الصبر والتركيز والفن الرفيع، وتلك أهم صفات هذه المهنة، التي بدأت بالانقراض، ولم يبق من أمثال أبو جلال سوى أربعين روافا في بغداد كلها، والمهنة التي يجيدها أبو جلال وتعلمها من والده، علمها بدوره لأولاده الثلاثة، بينما رفض رابعهم تعلمها لأنه لا يصبر على إتمام العمل في القطعة الواحدة، فما أن يمسك (أبو جلال) الخيط الذي يستخرجه من قطعة القماش التالفة نفسها، وما أن يمسك بتلك الإبرة دقيقة الصنع، التي يطلق عليها (إبرة نمنم) حتى ينسى همومه ويركز في عمله، الذي قد يتطلب منه قضاء ساعتين في القطعة الواحدة، إذا كانت تتطلب ذلك أو نصف ساعة إذا كان العمل بسيطا، وعندما يصل الرواف المحترف إلى نهاية عمله يبدأ بطي تلك القطعة من الملابس بطريقة فنية، قد لا تتقنها أفضل ربات البيوت في بغداد.

كان محل (أبو جلال) في خمسينيات القرن الماضي مقابل محله الجديد، وكانت عمارة هاشم البهبهاني الشهيرة في ذلك الشارع قد شهدت تعلم أفضل الروافين في بغداد، ومنهم أبو جلال، لكن العمارة هدت وتحولت إلى عمارة حديثة، اضطر بعدها أبو جلال إلى تحويل محله في الجهة المقابلة للعمارة.

زبائن أبو جلال، جميعهم من عائلات بغداد القديمة، وهم زبائن دائمون لديه، بعضهم من الفقراء وأكثرهم من المتقاعدين، الذين لا يقوون على شراء ملابس جديدة، لأن مرتباتهم قليلة، ويؤكد أحد زبائن أبو جلال أنه تعلم على أن يأتي إلى محل أبو جلال لريافة ملابسه، ويشير فوزي عبد الرحمن، وهو في السبعينيات من عمره، أنه متقاعد من سلك الشرطة العراقية، وقد اشترى (دشداشة) قبل فترة وجيزة، ولم يرتدها سوى مرة واحدة، وتعرضت للقطع من أحد جوانبها بمسمار، وكان عليه أن يحضرها إلى أبو جلال، الذي اعتاد عليه منذ عشرات السنين لخياطتها وإعادة ترتيبها، وعندما تسلمها عبد الرحمن، أمامنا لم نستطع أن نعرف أين المكان الذي تم ترقيعه، للمهارة التي عمل بها أبو جلال، وعندما سأله عن المبلغ الذي يريده مقابل هذا العمل البالع، قال ألفا ونصف دينار عراقي، وهو أقل من دولار واحد، هذا الثمن البخس الذي يتقاضاه أبو جلال من زبائنه سعيد جدا به، ويرى أنه مناسب لأنه مقتنع بأن من يأتي إليه بالملابس ليرفها هو إنسان لا يقوى على شراء الجديد منها، لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن بعض زبائنه من الأثرياء، عندما تتلف لديهم قطعة ثمينة يحاولون إعادة صياغتها بحيث لا يظهر العيب فيها، ولكن مبلغ التصليح للفقراء والأغنياء عند أبو جلال واحد، وقد يصل أحيانا إلى عشرة آلاف دينار، حوالي 9 دولارات حسب حجم التلف، وهذا يحدث بشكل نادر جدا.

أغلب الروافين في بغداد يتمركزون في شارع النهر، الذي يمكن الدخول إليه من شارع الرشيد، وهناك شارع خاص بهم يدعى شارع (الروافين)، قرب شارع (الساعجية)، وهو متخصص بتصليح الساعات الثمينة والقديمة، يقوم بتصليحها محترفون من أصحاب المهنة القدماء، الذين لم يبق منهم سوى عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد، وفي شارع الروافين أصبح عدد من يقوم بترقيع الملابس أو ريافتها قليلا جدا، وتحول العديد منهم إلى خياطة الملابس أو خياطة العباءات الرجالية والنسائية، التي قد يتطلب العمل بها صفات الصبر والدقة والحرفية نفسها، لكنها تخاط للناس ممن يطلبون الجديد ولا يضطرون لإعادة صياغتها، لتبدو جديدة، بناء على الظروف المعيشية الصعبة، التي يعيشونها، وهناك روافون آخرون في مدينة الكاظمية أيضا، لكنهم قلة، وجميعهم في المنطقتين يعرفون أبو جلال، كما يعرفون روافين آخرين تتلمذ على أيديهم مهرة في هذه المهنة، التي تعد من المهن النادرة في بغداد تحديدا.

ساعات العمل للحرفي أبو جلال، تمتد بين السابعة صباحا والثالثة مساء، اعتاد خلالها أن يذهب إلى إحدى المطاعم المجاورة له ليتناول طعام فترة الغذاء، وهو لا يغلق محله عندما يذهب لهذه الوجبة، لأن الجميع يعرفه، كما أن الملابس الموجودة في محله لا تفتح شهية السارق إن وجد، في هذا الشارع اشتهرت محال لبيع الأطعمة البغدادية، مثل مطعم شمس ومطعم تاج ران، كما اشتهرت مقاهي الزهاوي ومقهى البرلمان، الذي اعتاد السياسيون والوزراء العراقيون الذهاب إليه بعد تقاعدهم في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لكن أبو جلال يؤكد أن أغلب تلك المقاهي والمطاعم أغلقت، أو أن بعضها ما زال شاخصا، وهو قد اعتاد على الذهاب إلى مطعم شمس القريب منه، وأحيانا يأتي ببعض الكعك من حلويات السيد الشهيرة في الشارع، والقريبة منه أيضا.

وبعد أن يؤدي فريضة الصلاة أمام محله يتذكر أيامه وأيام شبابه عندما كان يأتي سيرا على الأقدام عبر ساحة حافظ القاضي، ويشاهد المداخل الممتدة على طول الشارع، الذي يعشقه، التي تؤدي إلى إلتواءات، وشوارع أخرى وكأنها تتلقف مساقط الشمس وتزرعها عند كل خطوة من خطوات أبو جلال، عندها يتوقف عند عمرة الدامرجي، التي شيدت عام 1948، التي أصبحت مثلا يردده أهالي بغداد كلما بنى أحدهم دارا عالية، قال عنها عمارة الدامرجي، باعتبار أن هذه العمارة ذات طوابق سبعة، في زمن كان الطابق الثاني يعد من الترف البغدادي الكبير.

يتذكر في امتداد الشارع، كيف أنه في أحد الأيام كان يرتدي بدلة جديدة، وعندما صعد إلى إحدى سيارات النقل الشعبية في الخمسينيات علق مسمار في بدلته، ومزق منطقة الكتف، فقال له أحد الركاب: «اذهب بها إلى الرواف فلان (ويقصد والد أبو جلال) ليخيطها لك» وهنا ضحك أبو جلال، وهو ما زال في صباه من كلام الشخص، ولم يكن يعلم أنه صانع ماهر لدى هذا الرواف، وعلم حينها أن مهنته مهمة جدا لأي شخص.

في سبعينيات القرن الماضي، قرر (جاسم محمد) أبو جلال، وهو في عنفوان شبابه أن يكون موظفا في الدولة، بعدما بدأت مهنة الريافة لا تؤهل عائلته للحياة، مع البدء بالعد التنازلي لهذه المهنة، لكن أبو جلال لم يدرس سوى المرحلة الابتدائية، وكان عليه أن يجد مهنة لا تتطلب شهادة عليا، واختار ترتيب الحروف الطباعية في مطبعة البلديات، التابعة لأمانة بغداد، في الوقت نفسه الذي لم تدعه أصابعه الحريرية من ترك مهنته، التي اعتاد عليها، فكان في الصباح يرتب الحروف، ويعود مساء فيرتب الملابس ويرقعها بخيوطه وإبرته دقيقة الصنع، وعندما أحيل إلى التقاعد، عاد متفرغا لمهنته التي عشقها، واعتادت أنامله عليها.

(الريافة) جعلت من أولاد أبو جلال أسطوات، لكن خوفهم على نظرهم وصحتهم وفقرات العمود الفقري، التي يؤكد أبو جلال لا بد لها أن تتضرر، اضطرتهم لترك هذه المهنة، التي يعودون لها كلما شعر أبو جلال بالتعب، أو أن عملا مهما اضطره لترك العمل يوما أو يومين، أبناء أبو جلال أحدهم أصبح موظفا في المطبعة نفسها، التي كان يعمل بها أبو جلال قبل تقاعده، والآخر افتتح مطعما في الشارع نفسه والآخر يعمل على سيارة أجرة.

أبو جلال الذي لم نشاهده يرتدي نظارة طبية، بدت خطوط وجهه متعبة جدا، وكانت عيناه الخضراوتان تؤكدان لنا أنه لا يستطيع ترك عمله في ريافة الملابس، وعندما كان يسحب الخيط بكل دقة من نسيج الملابس نفسه، تراءى لنا أنه يسحب خيطا من روحه هو ليعمل بها قطعة جديدة، قد يأخذ مقابلها أجرا زهيدا، لكنه كما يقول أنا أعيد الحياة لشيء ميت، لكن أبو جلال لا يقوم بترقيع أو ريافة ملابسه الشخصية، ويؤكد أن (باب النجار مخلع) كما يقول المثل المصري، وأن ريافة ملابسه يقوم بها أحد أبنائه وليس هو.

«إلي ركع ما عاز « مثل شعبي عراقي قديم ويقصد به أن الذي تدبر أمره بالقديم مما لديه لا يحتاج للشيء الجديد، ولن يحتاج إلى نقود ليشتري بها الجديد، سواء كان ملابس أو أغراض منزله»، وهذا المثل جعل (أبو جلال) متفانيا في عمله، ويكون جزءا منه، لأنه لا يقوى على مشاهدة أحد الأشخاص بأمس الحاجة إلى ثياب، وهو لديه ما يستطيع به تدبر أمره، لو عمل على تصليح بعض ما أصابها من ضرر بفعل تقادم السنوات أو الاستخدام السيئ للمكواة، أو الاستخدام المستمر لها وبشكل يومي.

حوالي المائة قطعة ملابس موجودة داخل محل (أبو جلال) وجميعها شارف العمل بها على الانتهاء، في الوقت نفسه الذي يرن فيه هاتفه الجوال، ليتأكد أحد زبائنه الدائمين، أنه موجود وأن القطعة التي سلمها له قبل يومين قد اكتملت، وعندما جاءه هذا الشخص تبين أنه قد أحضر له ملابس لزوجته وبناته الطالبات الجامعيات، وهو يريد إصلاح بعضها وتقريم الكبير منها ليصبح صالحا للبنت الصغرى، فبجانب الريافة يقوم أبو جلال بتقريم بعض الملابس لتصبح مناسبة للأشخاص، الذين قد تبدو بدون تدخل يد أبو جلال كبيرة وواسعة دون مبرر.

ريافة الملابس تبدو فعلا مهنة للصبرتقريم لكنها في يد أبو جلال بدت أكثر من ذلكتقريم فهي تعاون بين الناس ليكون مظهرهم أكثر مناسباتقريم وبسعر بسيط جداتقريم كما يبدو أن أبو جلال حاله كحال الروافين المتبقين من هذه المهنة، لا يهمهم المردود المادي، على الرغم من حاجتهم له بقدر اهتمامهم بوجه فرح عند تسلمه قطعته من الملابس، وقد عادت وكأنها جديدة لا يعيبها شيء، فقد لمسنا أن أبو جلال، وهذا حال روافي بغداد، أنهم رجال الصبر، والخيط وإبرة (النمنم) معجونة بروح تعاون قل مثيلها في هذا الزمن الصعب.