إيران.. «هاتف الليل»

أصوات التكبير تصدح في الليل والهاتفون يشعرون بالأمان والقوة.. ولن يتوقفوا قبل تحقيق غايتهم تماما كما في أيام الشاه

متظاهر يرشق رجال الشرطة الإيرانية بحجر أثناء الاشتباكات التي وقعت يوم السبت الماضي في طهران (أ.ب)
TT

شوارع طهران لم تعد تنام. فعندما تخفت هتافات الاحتجاج التي تملأ الأجواء خلال النهار، وتتوقف أصداء الرصاص عن التردد، تصدح أصوات التكبير مع هبوط الليل.. من لا مكان ومن كل مكان، وكل يوم ترتفع أكثر، وتمتد إلى أماكن أبعد خارج العاصمة الإيرانية. «الله أكبر.. الله أكبر» تردد أصوات النساء والرجال والأطفال بدءا من الساعة التاسعة من كل ليلة. يصعدون على أسطح منازلهم، أو يهتفون من شبابيك البيوت.. أشبه بجوقة غناء عظيمة تملأ أجواء طهران بترددات آيات التكبير. «تشبه الأصوات عويل الذئاب»، يقول أحد سكان طهران.

كل ليلة منذ بدء الاحتجاجات ضد نتائج الانتخابات الرئاسية، يخرج آلاف الإيرانيين الغاضبين إلى أسطح المنازل، يهتفون باسم الله كشكل من أشكال الاعتراض على السلطة. «إنها طريقة نطمئن بها أنفسنا بأننا ما زلنا هنا وأننا ما زلنا معا»، تقول نوشين لصحيفة «التايمز» البريطانية. وتضيف المرأة التي لم تجرؤ أن تتمرد من قبل: «لأنني امرأة متدينة، فإن أصوات التكبير في الأرجاء تجعلني أشعر بشكل أفضل. حتى ابنتي الصغيرة تنضم إلي.. إنها طريقتنا الفريدة لإعلان العصيان المدني، والأمر المثير للاهتمام أن الأمر يزيد.. كل مرة يفعلون شيئا يزيد من غضب الشعب». تتذكر نوشين، ربة المنزل المتوسطة السن، أن هذا ما كان يفعله الإيرانيون قبل الثورة الإسلامية وتأمل أن تنذر هذه الهتافات الليلة السلطة لما يمكن أن يحصل إذا لم تغير طريقة تصرفها. ظهر هذا الشكل من التحدي والاحتجاج بعد أيام قليلة على الانتخابات الرئاسية في 12 يونيو (حزيران)، وتذكر هذه الهتافات بالفعل كما قالت نوشين، بأيام كان آية الله روح الله الخميني يقاوم نظام الشاه.

حينها، وفي مواجهة القمع الدامي الذي كان يتعرض له المتظاهرون في شوارع العاصمة على أيدي القوات الإيرانية الموالية للشاه، دعا الخميني الشعب إلى الصعود ليلا إلى سطوحهم والتكبير بأعلى صوتهم. وكان هذا الشكل من المعارضة السياسية يضمن قدرا من الأمان للإيرانيين ويمثل تحديا لسلطة الشاه.. إلى أن أطيح بنظامه عام 1979. وبعد ثلاثين عاما، استلهم مير حسين موسوي، زعيم حركة الاحتجاج على إعادة انتخاب الرئيس محمود احمدي نجاد، هذه الحقبة من تاريخ إيران. وموسوي الذي كان هو نفسه من بين الذين قادوا الثورة الإسلامية ودعا الشعب حينها للتكبير ضد الشاه، عاد ليشجع مناصريه اليوم على التكبير من فوق سطوح منازلهم كل ليلة.. هذه المرة ضد النظام الذي أطاح بالشاه.

يعرف موسوي حق المعرفة المعاني والأبعاد خلف هذه الخطوة ووطأتها في النفوس. فهو الذي عايش الخميني وكان من المقربين منه أيام الثورة. وقد لقيت دعوات موسوي تجاوبا في جميع أنحاء طهران تقريبا، فباتت الصيحات تتعالى كل ليلة على مدى ساعة، فتتردد في المدينة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى وسطها.. وحتى أنها بدأت تمتد إلى مدن كبرى أخرى خارج طهران. ويرتفع صوت عاليا فترد عليه جوقة أصوات بينها أصوات شبان ومتقدمين في السن، رجال ونساء. ولا يمكن تمييز مطلقي الهتافات من الشارع. فهؤلاء يقفون على سطوحهم وفي حدائقهم أو فناء منازلهم أو عند نوافذ شققهم. وفي الليالي الأولى من بدء الاحتجاجات، حاول مسلحون مجهولون القضاء على هذه الظاهرة منذ نشأتها، فأطلقوا النار على مطلقي الصيحات الذين كان يمكن رصدهم من الشارع. ومع اشتداد المخاطر على المتظاهرين في الشوارع، تعاظم هذا الشكل من الاحتجاجات في الأيام الأخيرة. وقال أحد سكان وسط العاصمة لوكالة الأنباء الفرنسية: «لقد ازدادت الأصوات منذ أن قتلوا كل هؤلاء الأشخاص». وقتل ما لا يقل عن 17 شخصا في طهران بحسب السلطات منذ بدء التظاهرات في 13 يونيو (حزيران). وكان السبت الماضي اليوم الأكثر دموية إذ أسفر عن سقوط عشرة قتلى على الأقل، من بينهم ندا، الفتاة البالغة من العمر 26 عاما التي لفظت أنفاسها الأخيرة أمام العالم بعد أن التقطت كاميرا هاتف جوال صورها بعد أن أطلقت عليها رصاصة قضت عليها. وعلى الرغم من أن الحرس الثوري قد حذر المتظاهرين قبل أيام من أنه سيرد عليهم بشكل «حاسم وثوري»، يبدو أنه لم يجد بعد وسيلة لإسكات الأصوات المتعالية في الليل، إذ لا تزال العاصمة تضج بها. اختلقت المعارضة أشكالا كثيرة للاعتراض ضد النظام، من بينها ارتداء الشارات الخضراء والنزول للشارع، واللجوء إلى زمامير السيارات وحتى القيادة مع إضاءة أضواء السيارات والدراجات النارية.. «إلا أن ساعة الغناء والتكبير مختلفة كليا. فهي آمنة ويبدو أن إيقافها شبه مستحيل. «من يستطيع أن يوقف شخصا بسبب تكبيره لله؟».

يقول حسنين، مهندس شاب يشارك في الغناء الليلي. ويضيف حسنين لصحيفة الـ«تايمز»: «المرة الأولى التي فعلت فيها ذلك، كان احتجاجا على سرقة صوتي (في الانتخابات)، احتجاجا على الإهانة التي ارتكبها الرئيس تجاهنا». وأضاف: «ولكن بعد أن رفض آية الله خامنئي في صلاة الجمعة مطلبنا، أصبح الأمر أكثر من ذلك بكثير. أصبح الأمر طريقة للناس لكي يقولوا إنهم لا يزالون معا وسيبقون كذلك حتى يحققوا هدفهم. لقد أصبح الأمر وسيلة للتعبير عن غضبنا عندما لا يمكننا أن نتظاهر.. أفرح عندما أسمع غيري، وتذكرني أصواتهم بأنني لست وحيدا». من نواح عديدة، احتجاجات طهران بدت حتى الآن معتمدة على التكنولوجيا العالية، مع لجوء المعارضة إلى مواقع الإنترنت مثل «تويتر» و«فيس بوك» و«يوتيوب» للتواصل مع العالم الخارجي ونقل ما يحصل داخل إيران بعد أن طردت السلطات الصحافيين الأجانب وفرضت رقابة عالية على ما تبقى من صحافة داخل البلاد. إلا أن الاحتجاجات على أسطح البيوت، هي عكس ذلك تماما، وعودة متعمدة إلى الماضي، تحمل أصداء الثورة الأخيرة. وان كانت هذه الحركة الاحتجاجية، بالتكبير من على أسطح الأبنية، خاصة بإيران، تحاكي حركات احتجاجية شبيهة في العالم. فالاحتجاج بالصلاة مارسته شعوب عديدة في الماضي، مثلا عندما خرج أربعة آلاف متظاهر إلى مناجم الفحم التي كان الآسيويون يعملون فيها في الناتال بالبرازيل، أطلقت الحكومة عليهم كتيبة من شرطة الخيالة لسحقهم وتفريقهم. وبدلا من أن يهرب المتظاهرون أو يصطدموا بالشرطة، سجدوا على الأرض في صلاة صامتة، وتلاقفت الصحافة العالمية صور المشهد وتقارير مراسليها عنه. وفي شكل آخر من أشكال الاحتجاج، خرج الأرجنتينيون في تظاهرات عام 2001 في شوارع بيونس أيريس، وهم يحملون أدوات إعداد الطعام، احتجاجا على قرار الحكومة بتجميد الحسابات في البنوك، بسبب نفاذ أرصدتها بعد هلع جعل الناس يسحبون توفيراتهم. وتنتشر المظاهرات باستعمال أدوات الطعام، التي تعرف بظاهرة «كاسيرولازو»، في الكثير من دول أميركا الجنوبية الناطقة باللغة الإسبانية. ويعود أصل الكلمة إلى «كاسيرولا» (إناء الطبخ)، و«لازو» (ضرب). وقد بدأت هذه الظاهرة قبل أكثر من ثلاثين سنة. وفي تشيلي، خلال السنوات الأخيرة للرئيس اليساري سلفادور الليندي، غضبت عليه نساء الطبقة الوسطى، واستغللن كارثة اقتصادية جعلتهن يحملن أواني الطعام ويقمن بالدق عليها أمام القصر الجمهوري. ويبدو أن إسبانيا هي التي صدرت العادة. واستعمل الإسبان مؤخرا ظاهرة «كاسيرولازو» حتى في مظاهرات لا صلة لها بالأكل والشراب. ففي عام 2003، استعمل الدق على أواني المطبخ في تظاهرات ضد الحرب على العراق. وفي السنة الماضية، عندما تفاقمت الكارثة الاقتصادية في أيسلندا، بدأت «كيتشن ريفوليوشن» (ثورة المطبخ)، وتظاهر آلاف الأيسلنديات وضربن على أواني الطعام.

وفي شهر مارس (آذار) الماضي، ويوم عيد المرأة، وفي بعض المدن الروسية، تظاهرت روسيات وضربن على أواني الطبخ.

وأشكال الغناء أيضا من الأشكال المتعارف عليها في الاحتجاجات في أنحاء العالم، وتتحول أحيانا إلى شعار يصاحب حركة معينة. ففي 14 يوليو (تموز) 1789، عندما هجم متظاهرون على سجن «باستيل» في فرنسا، كانوا يهتفون «فيف لا ناسيون» (تعيش الأمة). وفي اليوم التالي، عندما قطعوا رأس برنارد دي لوناي، عمدة باريس، ووضعوه على دراجة وطافوا به شوارع باريس، كرروا الهتاف نفسه. وقبل نهاية الشهر، عندما سيرت سبعة آلاف امرأة فرنسية مظاهرة من باريس إلى قصر الملك لويس السادس عشر في فرساي، كرروا الهتاف نفسه أيضا. وفي 21 يناير (كانون الثاني) 1793، عندما هرع الرجال والنساء نحو المقصلة التي أعدمت الملك ولطخوا ملابسهم بدم الملك، كرروا الهتاف نفسه. وحتى اليوم، تشبه «فيف لا ناسيون» دعاء الوطن الفرنسي.

كتب تشارلز تندلي، قس أسود في فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا)، عام 1930، نشيدا دينيا هو «وي شال اوفركام» (سوف ننتصر). كان والده عبدا، وأمه حرة، وهو اعتبر حرا، لكنه تربى وسط عبيد. ثم علم نفسه، وصار قسيسا. يقول النشيد: «سننتصر يوما ما. في أعماق قلبي، أؤمن بأننا سننتصر يوما ما. سنمشي يدا في يد. سنكون أحرارا. لسنا خائفين. لسنا وحيدين. حول كل العالم».

لم تكن «وي شال اوفركام» فقط شعار حركة السود في أميركا. كانت شعار المحاربين الكاثوليك في شمال أيرلندا (ضد حكومة بريطانيا). وشعار حركة السود في جنوب أفريقيا (ضد حكومة الأقلية البيضاء). وأنشدها الشيخ مجيب الرحمن، رئيس بنغلاديش عندما تأسست الدولة عام 1971. وأنشدها شيكولوفاكيون خلال «الثورة البنفسجية» عام 1989. وغنى الأميركي بروس سبرنغستون، جامعا بين الوطنية والحب: «دارلنغ، وي شال اوفركام» (يا حبيبتي، سوف ننتصر). لهذا، لم يكن غريبا أنه في بداية هذه السنة، عندما نصب الرئيس الأميركي باراك أوباما، كأول رئيس أسود، أنشد سود: «وي هاف اوفركام» (انتصرنا).

ومنذ سنوات حرب فيتنام، قبل ثلاثين سنة تقريبا، بدأ متظاهرون أميركيون عادة جديدة لإثارة الاهتمام، وهي ادعاء الموت. وفي كثير من الأحيان، كانوا يرتدون ملابس عسكرية ويرقدون أمام البيت الأبيض أو البنتاغون، وكأنهم موتى، في إشارة إلى زيادة عدد القتلى الأميركيين في حرب فيتنام. وخلال السنوات التي تلت، تطور الرمز وبات يستعمل دما صناعيا ويرش على شخص، أو يوضع شخص داخل كفن.. ثم ظهرت الأكفان الرمزية، يحملها المتظاهرون وكأنهم ذاهبون لدفنها. بالإضافة إلى الرموز والشعارات، هناك الأناشيد أيضا التي تستعمل كرمز للاحتجاجات. والهدف منها ليس فقط إثارة الانتباه، ولكن أيضا، زيادة حماس المتظاهرين. وطوال مئات السنين، وسط الغربيين في أوروبا وأميركا، صارت أهم قصيدة هي «اود تو جوي» (قصيدة للفرح) التي كتبها الشاعر الألماني شيلر (توفي سنة 1825). وعزفها الموسيقار الألماني بيتهوفن (توفي سنة 1827)، ووضعها في «السيمفونية التاسعة». تركز القصيدة على أهمية العلاقات الإنسانية. وتقول بعض كلماتها: «أيها الفرح. شعلة الآلهة. نثمل بالنار، وندخل معبدك المقدس. أيتها الروح السماوية. في محرابك، نلتف ونلتصق، ويصير كل الناس إخوانا. أيتها الملايين، افرحوا. هذه قبلة لكل العالم. أيها الإخوان، لا بد أن يكون هناك أب يرعانا».