العربية في كردستان العراق.. تحتضر

مدارس قليلة وجيل جديد يفضل الإنجليزية على لغة الضاد

صف دراسي في احدى المدارس الابتدائية في السليمانية (تصوير كامران نجم)
TT

لم تكن اللغة العربية عليلة يوما في إقليم كردستان العراق، مثلما هي الآن، فبعد تحرر هذا الإقليم من سيطرة النظام السابق في العراق، إثر ما يوصف بانتفاضة الشعب الكردي عام 1991، أخذت اللغة العربية التي كانت اللغة الرسمية الوحيدة في كل مؤسسات الإقليم تتلاشى رويدا رويدا، حتى بلغت الاضمحلال شبه التام، لتحل محلها اللغة الكردية التي باتت اللغة الأولى والرسمية في كل الدوائر والمؤسسات الإدارية لسلطات الإقليم. كما انحسرت أهميتها في جميع المراحل الدراسية بدءا من الابتدائية وانتهاء بالجامعات، خصوصا بعد بروز جيل جديد من مدرسي اللغة العربية الذين أكملوا دراساتهم الجامعية في ظل السلطة الحالية وتحت مظلة اللغة الكردية وهم يفتقرون إلى قواعد لغة الضاد السليمة، وصاروا يشرحون لتلاميذهم وطلابهم باللغة الكردية كل دروس الإعراب والنحو والصرف العربية.

والأدهى من ذلك أن الغالبية المطلقة من الخريجين الجدد تجهل العربية تماما، ولا تقوى حتى على كتابة بضع جمل إنشائية سليمة عن الربيع، بل إن مسؤولين في مناصب ومواقع رفيعة في الإقليم صاروا بحاجة إلى مترجمين في مباحثاتهم وحواراتهم مع نظرائهم العرب.

أما العوامل والأسباب الكامنة وراء هذا التراجع غير المسبوق للغة القرآن الكريم في هذا الجزء من العراق، فتكاد تكون متشابكة ومعقدة. يعزوها بعض المعنيين التربويين إلى قدم المناهج الدراسية وتخلفها عن الركب، بينما يعزوها بعض المحللين إلى قرارات وأجندات سياسية ترمي من وراء الكواليس إلى تحجيم دور اللغة والثقافة العربية وتأثيراتهما على المجتمع الكردي.

ولئن كانت المحادثة أو الحوار العماد الأساسي في تعلم وتعليم أي لغة في العالم، فإن غيابها يكاد يكون السبب الحقيقي الأول في جهل الجيل الكردي الجديد كليا بقواعد اللغة العربية، خصوصا الحوار بين الطلبة وأساتذتهم في مراحل التعليم، إضافة إلى القطيعة بين الفرد الكردي والعربي على المستوى الاجتماعي في العراق سيما خلال الفترة من 1991 إلى 2003 حيث كان الإقليم يخضع لحظر محكم من قبل النظام السابق يمنع بموجبه المواطنين العرب العراقيين من دخول الإقليم إلا بتراخيص خاصة.

وفي ضوء هذا الانحسار اللافت للغة الضاد وتداعياته وآثاره السلبية على صعيد تماس الإنسان الكردي المسلم بشرائع دينه، بادر المهتمون بشؤون الدين الإسلامي في الإقليم إلى ترجمة سور وآيات القرآن الكريم إلى اللغة الكردية ترجمة حرفية بغية تبسيط فهمها على الذين يجهلون العربية، ولحث المتدينين على تعلم القرآن ونطق آياته بلفظ صحيح وسليم.

بوجيز العبارة، يمكن الجزم بأن اللغة العربية في أغلب مناطق إقليم كردستان باتت لغة منسية أو شبه مضمحلة وقد تندثر كليا ما لم تتخذ التدابير العاجلة لإنقاذها. دلشاد عبد الرحمن وزير التربية والتعليم في حكومة الإقليم، يؤكد أن تراجع اللغة العربية مرده إلى المناهج الدراسية القديمة التي ما برحت تتبع في مدارس الإقليم والعراق على حد سواء منذ سنوات طويلة، وهي بحاجة إلى تغيير جذري لتلائم وتواكب العصر الراهن علاوة على تدريسها بأساليب حديثة تضمن وصول المعلومة إلى أذهان الطلبة بيسر وسلاسة. ويقول عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط» إن الوزارة تسعى حاليا من خلال لجان متخصصة إلى إجراء التغييرات الإيجابية المطلوبة في مناهج اللغة العربية بجميع المراحل الدراسية، وستتبنى المناهج الجديدة أساليب متقدمة في تعليم الطلبة والتلاميذ قواعد اللغة وتمكينهم من المحادثة والكتابة بها على نحو أفضل.

ويقر وزير التربية والتعليم بأن أداء الأساتذة والتدريسيين يشكل سببا آخر من الأسباب الكامنة وراء تراجع اللغة العربية ويمضي إلى القول: «مدرسو اللغة العربية في الإقليم من خريجي الجامعات والمعاهد العراقية والكردستانية، ولا شك أن المستويات العلمية لتلك الجامعات والمعاهد قد تدنت خلال السنوات القليلة الماضية، ولكني أجزم بأنه ليست هناك أية أسباب سياسية وراء ذلك». ويضيف: «العربية تدرس في مدارسنا كافة وبواقع خمس حصص يومية لكل مرحلة، وهي مادة دراسية أساسية لامتحانات البكالوريا وتخضع لمعايير قبول خريجي الإعداديات في الدراسة الجامعية، بمعنى أن مزاعم تجاهل الجهات المعنية في الإقليم لأهمية اللغة العربية عن قصد، باطلة وعارية عن الصحة تماما، بل على العكس، فنحن نولي اللغة العربية اهتماما كبيرا ونحرص على تعليم الجيل الجديد قواعدها التي يتحدث بها مئات الملايين من البشر في العالم بصورة سليمة، سيما أن الإقليم وشعبه جزء من العراق وعلى تماس مع محيطهما العربي».

وهناك اتهامات موجهة إلى القوى والأحزاب الكردستانية بالسعي المبرمج لتحجيم اللغة العربية، وتكريس المفاهيم القومية الكردية في المجتمع الكردستاني. لكن ملا بختيار، العضو العامل في المكتب السياسي والناطق الرسمي باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس جلال طالباني، ينفي كل تلك الاتهامات، ويقول: «تلك الاتهامات لا أساس لها من الصحة إطلاقا، فالاتحاد الوطني يحث باستمرار الجهات التربوية والمعنية في حكومة الإقليم على إبداء أقصى اهتمام ممكن باللغة العربية بعد اللغة الكردية. ونحن نأسف كثيرا عندما نلاحظ تراجعا في دور وأهمية اللغة العربية بالإقليم، كونها إحدى أهم اللغات وأكثرها فائدة بالنسبة لنا نحن الكرد، وعليه فإننا لن نؤيد إطلاقا أي مسعى أو نهج يتسبب في تراجعها».

أما الدكتور شاهو سعيد أستاذ اللغة العربية بجامعة السليمانية، فيعزو تراجع هذه اللغة إلى جملة أسباب، يقول إن أبرزها تدهور النظام التعليمي بشكل عام في العراق والإقليم خصوصا بعد فرض الحظر الاقتصادي الدولي على البلاد عام 1990. ويضيف أنه إلى جانب ذلك، فإن «اللغة العربية صعبة التعليم والتعلم من حيث التلفظ والإعراب والفهم، علاوة على انتماء اللغة العربية إلى عائلة اللغات السامية المعقدة، بخلاف الكردية التي تنتمي إلى العائلة الآرية التي يسهل تلفظها وتعلمها». ويقول إن «مناهج تعليم اللغة العربية قديمة ومتخلفة ليس في العراق وحده، بل في العالم العربي بأسره ولا تواكب العصر مطلقا، فمثلا دروس إعراب اللغة وجملها التي يتم التركيز عليها في المدارس هي من أصعب وأعقد الدروس ليس بالنسبة للطالب الكردي فحسب بل للعربي أيضا. كما أن اللغة العربية الفصحى تعتبر لغة النخبة المثقفة والخطابات الرسمية ورجال الدين ولا تعتمد في الأوساط الشعبية بخلاف اللغات الآرية التي لا تنطوي على اختلافات كبيرة بين اللهجات الفصحى والعامية منها».

ويرى أن «اللهجات العامية أضحت طاغية على اللهجة النحوية، مما يجعل الفرد الكردي يفضل تعلم اللهجة العامية المتبعة في العراق على تعلم الفصحى». ويقول إن «الأهم من ذلك كله هو أن العربية التي كانت اللغة الرسمية في الإقليم خلال العقود الماضية، صارت تخضع لمعايير المنافسة مع الإنجليزية التي يقبل عليها الجيل الكردي الجديد تجاوبا مع متطلبات عصر العولمة والمصالح الاقتصادية».

ويرى الدكتور سعيد أن الحل لمعضلة تراجع اللغة العربية يتطلب قبل كل شيء قرارا سياسيا من السلطات في الإقليم يقضي بتكثيف الاهتمام بهذه اللغة في المدارس ومراكز التعليم وتغيير المناهج الدراسية نحو الأفضل وبشكل عصري يعتمد الحوار في المقام الأول وحث الطلبة على كتابة الإنشاء بالاعتماد على قدراتهم الذاتية، مع إقامة دورات تأهيلية مستمرة لأساتذة اللغة في الإقليم أما المشرف التربوي المتخصص في اللغة العربية صادق عثمان، فيرى أن السياسات العدوانية والعنصرية التي مارسها النظام السابق ضد الشعب الكردي، ولد في السنوات الماضية نوعا من مشاعر الكراهية والتنافر عن اللغة العربية لدى كثير من الكرد، ولكن لفترة معينة من الزمن. ويشير إلى أن ذلك قد يكون أحد الأسباب التي ساهمت في عدم تعاطي الكثيرين من الكرد مع هذه اللغة، ويرى أن تلك المشاعر بدأت تتلاشى تدريجيا في ظل الحياة الجديدة التي تسود البلاد وصار الناس يدركون أهمية تعلم هذه اللغة.

ويضيف عثمان لـ«الشرق الأوسط»، أن افتقار المدارس «للأساتذة الأكفاء والمتخصصين في اللغة العربية، يتصدر العوامل التي تتسبب في تراجع هذه اللغة في الإقليم، فضلا عن المناهج الدراسية القديمة التي تتسم بالغموض وعسر الفهم بالنسبة للتلاميذ والطلبة الكرد». ويؤكد عثمان الذي هو عضو في إحدى اللجان التربوية الوزارية المكلفة حاليا بإعداد مناهج دراسية حديثة في اللغة العربية، بأن الجهات المعنية في وزارة التربية استعانت مؤخرا بخبرات عدد من الشركات المتخصصة في مجال إعداد المناهج الدراسية بغية العمل على إعداد سلسلة مناهج تركز على الحوار والتلفظ السليم والصور المعبرة التي تستقطب اهتمام التلاميذ وتحبب اللغة إلى نفوسهم، وذلك في ضوء التوصيات التي تقدمها اللجان التربوية لتلك الشركات، بموازاة العمل لتأهيل التدريسيين وفقا للمناهج الجديدة التي لا شك أنها ستسهم في الارتقاء بمستويات الطلبة والتلاميذ في تعلم العربية.

ويلاحظ بوضوح في مدن الإقليم عموما، قلة أعداد المدارس العربية على الرغم من تزايد الإقبال عليها من قبل الطلبة. ففي مدينة السليمانية، ثاني أكبر مدن الإقليم التي يقطنها أكثر من مليون ونصف المليون نسمة، توجد ثلاث مدارس عربية فقط، وهي: مدرسة الجواهري الابتدائية للبنين، وثانوية فريشته للبنات وثانوية شورش للبنين. وتعاني هذه المدارس مجتمعة من مشكلة قلة التدريسيين المتخصصين والكتب المنهجية وكثافة عدد الطلبة حيث يستوعب كل صف دراسي نحو خمسين طالبا يتزاحمون على مقاعد الدراسة، مما يجعل من الصعب على المدرسين فرض الهدوء وإيصال المعلومة.

وتعزو سركول محمد مديرة مدرسة الجواهري العربية التي يدرس فيها التلاميذ على مرحلتين صباحية ومسائية ويتلقون خمس حصص يومية مدة كل منها عشرين دقيقة فقط، تراجع اللغة العربية إلى جملة من الأسباب. وتقول: «غياب المحادثة باللغة العربية في السليمانية تحديدا هو أبرز تلك الأسباب، لأن اللغة الكردية هي السائدة في جميع مناحي الحياة، إلى جانب الاختلاف الكبير في المناهج الدراسية بين الإقليم والمناطق الوسطى والجنوبية من العراق». وتضيف: «المناهج هنا تتناول فقط القواعد الأولية للغة العربية كالتمييز بين المذكر والمؤنث وما إلى ذلك، في حين المناهج في بقية مناطق البلاد هي أكثر شمولية وتدرس بتركيز شديد وتتناول الكثير من قواعد اللغة».

وتؤكد سركول أن تلاميذ مدرستها وعلى الرغم من كثافة أعدادهم في الصفوف الدراسية يستوعبون الدروس على نحو جيد جدا لكونهم من أبناء العوائل العربية المقيمة في السليمانية باستثناء التلاميذ الكرد الذين يخضعون لتأثيرات لغة الأم التي تتحدث بها أسرهم باستمرار.

ولا يقتصر التراجع في اللغة العربية على المدارس والمؤسسات الرسمية وحسب، بل يشمل العديد من أئمة وخطباء المساجد في معظم مدن وقصبات الإقليم. إذ تطغى اللكنة الكردية على لفظهم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية أثناء خطب الجمعة، بل إن البعض منهم يعمد إلى شرح مضامين ومعاني الآيات والأحاديث باللغة الكردية، ويتفادى تلاوتها بالعربية. ويرى الشيخ ماجد الحفيد إمام وخطيب المسجد الكبير في السليمانية، أن هذا «الأمر عادي جدا، لأن الغاية من خطب صلاة الجمعة هي إيصال المعلومة الدينية بأمانة إلى المصلين، لذلك يضطر الإمام أو الخطيب إلى شرح مضمون الخطبة والآيات والأحاديث باللغة الكردية، نظرا لكون معظم المصلين من الكرد وجلهم يجهل اللغة العربية». ويؤكد أن خطباء مساجد السليمانية «ضالعون وملمون بقواعد اللغة العربية وعلى نحو جيد جدا، على الرغم من صعوبة هذه اللغة وقواعدها التي جل من لا يخطأ فيها».

وفي تعليقه على الترجمة الحرفية لسور وآيات القرآن الكريم يقول الشيخ الحفيد لـ«الشرق الأوسط»، إن «الترجمة إلى الكردية أو إلى اللغات الأخرى أمر جائز شرعا إذا كانت الغاية منها إفهام القارئ معاني الآيات». ولكنه يضيف: «إذا جرت ترجمة كل السور ترجمة حرفية إلى لغة أخرى فإن النسخة المترجمة ليست من القرآن في شيء، بمعنى أن القرآن ينبغي أن يقرأ باللغة العربية وحسب ولا ضير من ترجمة مضامين آياته، ولا يجوز شرعا قراءة نسخة مترجمة من القرآن عوضا عن النسخة العربية. فلو جاز ذلك لكانت كل الأمم قد ترجمت القرآن إلى لغتها الأم».

وفي ضوء المساعي التي تبذلها وزارة التربية لتحسين مستوى مناهج اللغة العربية في جميع المراحل الدراسية، نستشف أن الجهات المعنية في هذا الإقليم صارت تستشعر تراجع اللغة العربية وتدني مستوياتها عند الطلبة والتلاميذ وتدرك خطورة ذلك، لذا تعمل على تأهيل الجيل الجديد لغويا بدءا من المراحل الابتدائية، وإلى أن يصبح التلميذ مدرسا متسلحا بالعلم وفقا للأساليب الجديدة التي ستعتمدها الوزارة في تعليم اللغة العربية، أي بعد 16 عاما من الآن ستعاني لغة الضاد في إقليم كردستان من علة شديدة، إن لم تلفظ أنفاسها الأخيرة جراء ذلك.