بوتين يعلن الطلاق.. بين الثروة والسلطة

رئيس الوزراء الروسي أطلق حملة ضد المتهربين من دفع الضرائب.. مشبوهة بتوقيتها

TT

بضع لقطات تلفزيونية من الحفل الأسطوري لافتتاح فندق «ماردان بالاس» في تركيا، كانت بمثابة طلقة البداية لمسلسل حافل بمشاهد الإثارة والتشويق. المقدمة توالت مشاهدها سريعة تخلب الأبصار، موسيقاها التصويرية وقع خطوات عدد من نجوم السينما العالمية ومنهم ريتشارد غير وشارون ستون وباريس هيلتون، تدفقوا على المكان مع أبرز نجوم المجتمع الروسي بكل أطيافه الفنية والسياسية، وفي مقدمتهم عمدة موسكو يوري لوجكوف الذي جاء إلى الفندق متأبطا ذراع قرينته يلينا باتورينا صاحبة المليارات وأكبر شركات البناء والعقارات. ولم تكن قبل زواجها سوى سكرتيرة مغمورة في بلدية العاصمة. ثمة من قال من شهود العيان إن صاحب الفندق الملياردير تيلمان اسماعيلوف تراقص في هذا الحفل تحت وقع تساقط أوراق البنكنوت من فئة المائة دولار التي بلغت قيمتها ما يقدر بـ61 مليون دولار حسب ما نشرته صحيفة الـ«صنداي تايمز». هذه المشاهد سرعان ما تحولت إلى أفلام تسجيلية وتحقيقات تلفزيونية عرضتها القنوات المركزية الروسية، تحكي تاريخ نشأة تيلمان اسماعيلوف اليهودي الأذربيجاني الأصل وتسرد قصة الصعود المفاجئ والثراء الفاحش بكل تفاصيلها الأسطورية. كانت الحملة ولا تزال كاملة العدد في أعقاب إطلاق رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين لإشارة البدء من خلال تصريحاته التي انتقد فيها تقاعس أجهزة النيابة العامة في التعامل مع أصحاب ملفات التهرب الضريبي، مع تأكيد ضرورة فتح هذه الملفات على نحو يعيد إلى الأذهان في بعض جوانبه، احتمالات تكرار ما سبق ولحق بالمليارديرين اليهوديين فلاديمير جوسينسكي رئيس المؤتمر اليهودي الروسي وصاحب أكبر إمبراطورية إعلامية في تسعينات القرن الماضي والهارب إلى إسرائيل، وميخائيل خودروكوفسكي صاحب مؤسسة «يوكوس» النفطية القابع اليوم في سجون سيبيريا.

قال بوتين إن هناك في إحدى أسواق موسكو بضائع مهربة تبلغ قيمتها ما يقترب من ملياري دولار. تساءل رئيس الحكومة والرئيس الأسبق لجهاز الأمن والمخابرات حول نتائج التحريات التي لا بد أن تنذر بالسجون.. فأين هي هذه السجون؟ سؤال حرصت القنوات التلفزيونية على إعادته في صدر نشراتها الإخبارية إلى أن أعلنت لجنة التحقيقات التابعة للنيابة العامة عن فتح ملف التحقيق في قضية شركة «AST» وهي الشركة الأم لمجموعة شركات تيلمان اسماعيلوف. أشارت التحقيقات المبدئية إلى العثور في مخازن الشركة بأسواق «تشيركيزوفو» بموسكو على بضائع غير مناسبة للاستهلاك الآدمي وملابس أطفال غير مطابقة للمواصفات الصحية. وما ان تناقلت وسائل الإعلام الروسية هذه التصريحات الصادرة عن النيابة العامة وصدور قرار إغلاق «سوق تشيركيزوف»، حتى راحت الأجهزة الإعلامية المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع إسرائيل والدوائر اليهودية تدق نواقيس الخطر، تحذر من احتمالات تكرار ما سبق وتعرض له أقطاب هذه الدوائر من رجال المال والأعمال، وتنذر ببداية حملة مضادة لعمدة موسكو لوجكوف الذي كان أيضا وراء صعود نجم جوسينسكي إمبراطور الإعلام ورئيس المؤتمر اليهودي الروسي الأسبق، وسبق وارتبط بعلاقات وثيقة، ثمة من أشار إلى بعض جوانبها المشبوهة إبان حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين.

وتدفقت الأرباح على اسماعيلوف من خلال شركاته التي فاحت منها روائح التهريب, ومن يقف وراء نشاطه في أروقة السلطة المحلية على نحو مشروع وغير مشروع. وسرعان ما استطاع اسماعيلوف افتتاح الكثير من شركاته ومؤسساته التي بلغت ما يزيد عن 30 شركة ومؤسسة تخصصت في مجالات التجارة والزراعة والنقل والمواصلات، إلى جانب افتتاح العديد من الفنادق الفاخرة إلى جانب سلسلة فنادق الثلاث نجوم، فضلا عن تحوله مؤخرا إلى الاستثمار عبر الشركات والمؤسسات النفطية. وقد اعترف اسماعيلوف صراحة أنه لم يكن ليستطيع أن يحقق شيئا دون «الأصدقاء»، لكنه لم يكشف النقاب عن هوية هؤلاء الأصدقاء.

إلا أن الحفل الأسطوري لافتتاح فندق «ماردان» في تركيا، كشف عن هويات بعضهم. ويذكر المراقبون أنه كان من الطبيعي أن يلج اسماعيلوف عالم الشهرة من خلال اتصالاته إبان تسعينات القرن الماضي برجال الكرملين والرشاوى التي تدفقت على الكثيرين من ممثلي الأوساط السياسية والثقافية إلى جانب هباته وتبرعاته لبناء المعابد والمراكز الثقافية اليهودية، لكن دون اقتحام عالم السياسة التي جرت المتاعب على كثير من أقرانه ممن يجنون اليوم ثمار ما فعلوه في غياهب السجون وغربة الديار. وقد اعترف اسماعيلوف بأنه لم يلجأ إلى آخرين لتوفير الحماية الأمنية لنفسه ومؤسساته واستطاع إنشاء المؤسسات والأجهزة الأمنية الخاصة التي وفرت له وللآخرين مثل هذه الحماية. لم يشر اسماعيلوف إلى حقيقة علاقته مع لوجكوف عمدة العاصمة.

ويذكر المراقبون أن ما سبق وكشف عنه يفجيني بريماكوف رئيس الحكومة الروسية الأسبق من ملفات العلاقة بين الثروة والسلطة إبان تسعينات القرن الماضي، ينسحب صوتا وصورة على ما يجري اليوم من أحداث. وكان بريماكوف أشار إلى أن أقطاب الأوليغاركيا فرغوا عام 2000 حين تولى فلاديمير بوتين الرئاسة في روسيا، ليس فقط من تشكيل هيئاتهم وأنساق نفوذهم، بل وانتهوا عمليا من تشكيل الظروف المناسبة لتأمين ثرائهم الفاحش أو الأسطوري. واعترف الرجل الذي سبق وتولى شؤون المخابرات قبل تحوله لقيادة دفة السياسة الخارجية ثم رئاسة الحكومة الروسية عام 1998، بأن بوتين هادن رجال الأعمال ممن عاد ليلاحقهم استنادا إلى الشرعية والقانون مما أسفر عمليا عن هروب البعض مثل بوريس بيريزوفسكي الذي منحته بريطانيا منذ بضع سنوات حق اللجوء السياسي، وفلاديمير جوسينسكي (الرئيس الأسبق للمؤتمر اليهودي الروسي) وليونيد نيفزلين (النائب السابق لرئيس المؤتمر اليهودي الروسي) اللذين لاذا بالفرار إلى إسرائيل، واعتقال آخرين مثل بلاتون ليبيديف وميخائيل خودوركوفسكي. ولعله من الغريب والطريف معا أن يكون كل هؤلاء من ممثلي الطائفة اليهودية ممن تزعموا مع الرئيس السابق بوريس يلتسين انتفاضته الكومبرادورية التي تئن روسيا تحت وطأة تبعاتها حتى اليوم. وقال إن بوتين لم يكن آنذاك ليستطيع التراجع بشكل جذري عما وصفه بـ«الاتجاه الأوليغاركي للتطور الرأسمالي لروسيا دون إعادة بناء الاقتصاد وتغيير الأوضاع السياسية في البلاد». وعلى الرغم من المواقف البالغة المرونة من جانب بوتين في أولى سنوات حكمه وعدم تعجله اللجوء إلى القانون لمحاسبة من أثرى في غفلة من الزمن وبعيدا عن القانون، وعزوفه عن طرد رئيس ديوان الكرملين الكسندر فولوشين الذي ارتبط مع كل هؤلاء بعلاقات وثيقة منذ عهد رئيسه السابق بوريس يلتسين، فقد استمر الجميع بمواصلة ما بدأوه إبان سنوات «رأسمالية قطاع الطرق واللصوص» حسب وصف بوريس نيمتسوف اليهودي الأصل أيضا الذي كان قريبا منهم بحكم موقعه كرئيس مناوب لتحالف القوى اليمينية والنائب السابق لرئيس الحكومة الروسية في منتصف التسعينات. ولعل ذلك ما قصده بريماكوف حين قال: «إنهم ومع احتفاظهم باحتكارات الثروات الطبيعية (النفط والغاز والمعادن …إلخ) لم يأخذوا على عاتقهم الالتزامات التي كانت تستطيع تغيير الطابع الأوليغاركي للتطور الرأسمالي في روسيا مثل الانتظام في سداد الضرائب ورفع الأجور والاهتمام اجتماعيا بالعاملين واستثمار الأموال اللازمة لرفع مستوى احتياطي الثروات الطبيعية للدولة». ولم يتوقف بريماكوف عند هذا الحد ليشير إلى المسألة الأهم التي تتمثل فيما سبق وأشار إليه كثيرون حول حرص هؤلاء على التسلل إلى هيئات السلطتين التنفيذية والتشريعية، أو بقول آخر تحقيق التزاوج غير الشرعي بين الثروة والسلطة فيما تواصل تجاهل ما حولها ربما يقينا من جانبها أنها فوق أي حساب. وتبقى التساؤلات تتناثر على الشفاه بحثا عن إجابة حول الأسباب الحقيقية لطرح رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين مثل هذه القضية اليوم، بعد أن طال صمته عنها لما يزيد على عشر سنوات أي منذ تعيينه رئيسا للجنة المخابرات والأمن القومي عام 1998. وثمة من يتساءل أيضا حول مدى ارتباط فتح هذه الملفات بإعلان الرئيس ميدفيديف عن حملته حول مكافحة الفساد وضرورة القضاء على شبكات الجريمة المنظمة وغير المنظمة.