عائلات تنهار.. مع الاقتصاد

80% من الذين فقدوا وظائفهم في الولايات المتحدة العام الماضي من الذكور.. وزوجاتهم عاجزات عن تحمل الضغوط

كارن هورش سائقة شاحنة عاطلة عن العمل تعيش في خيمة في «مدينة الخيم» للمشردين أو الأشخاص الذين فقدوا بيوتهم نتيجة للأزمة الاقتصادية في ساكرامنتو بكاليفورنيا (أ.ف.ب)
TT

مع آخرين من ضحايا الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة، فقد سكوت باري (50 عاما)، وهو خبير في استثمارات تكنولوجيا الكومبيوتر في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك) وظيفته. كان طوال عشرين عاما، يستيقظ في الخامسة صباحا في منزل العائلة في ضاحية داريان، على مسافة ساعة ونصف الساعة من مكتبه. لم يكن يشتكي كثيرا لأنه كان يعرف أنه يضحي ليبني مستقبلا مريحا له ولزوجته تراسي ولابنتهما ترايسي (8 سنوات) وولدهما ماكس (7 سنوات). ضحى لأنه في الخامسة والنصف صباحا، كان يذهب إلى غرفتي البنت والولد ويقبلهما وهما نائمين، لأنه كان يعرف أنه عندما يعود إلى المنزل في الثامنة مساء، سيجدهما يستعدان للنوم. كان يتندر بأنه في غير عطلة نهاية الأسبوع، دائما يراهما في بيجامات النوم. وكان يضحي لأنه اتفق مع زوجته تراسي ألا تعمل خارج المنزل، رغم مؤهلاتها، حتى تشرف على المنزل وتربي ابنتهما وابنهما. كانت الزوجة تعمل في شركة «رالف لورين» للعطور والأزياء، ثم تركتها للتفرغ لعائلتها. بعد أن فقد الزوج وظيفته، قال لمراسلة صحيفة «نيويورك تايمز» بيغي تايار: «واجهنا تحديين: الأول كيف ندير ميزانية المنزل اعتمادا على توفيرات واستثمارات، والثاني كيف لا نختلف ولا نتعارك ولا نلجأ للطلاق».

قالت الصحافية إنه الوحيد، من بين الذين فقدوا وظائفهم في «وول ستريت» واتصلت بهم، ووافق على أن تنشر الصحيفة اسمه، وأسماء أفراد عائلته، وتنشر صورهم. وقالت إن السبب ربما يكون أنه متأكد من أن الاثنين، الإفلاس والطلاق، لن يحدثا. ولهذا، تكلم بصراحة. لكن كان التوتر واضحا في كلام زوجته للصحافية. قالت: «في زواجنا، هو السلبي وأنا الإيجابية. عندما فقد وظيفته، لم أعرف ماذا أفعل له. هل أضربه؟ على أي حال، سنعمل معا لمواجهة هذه المشكلة التي لم نكن نتوقعها». وأضافت في عقلانية كثيرة وعاطفة قليلة: «نعم، وفرنا لمستقبلنا عندما نتقاعد. لكن إذا استمر الوضع هكذا، ربما لن نقدر على أن نتقاعد معا».

ولكن آخرون رفضوا نشر أسمائهم لأنهم إما يواجهون الإفلاس أو الطلاق أو الاثنين معا. في غضب واضح على زوجها، قالت زوجة: «عندما تزوجنا، اتفقنا على أن يعمل هو خارج المنزل، وأعمل أنا داخله. لكنه فقد وظيفته. وأنا قلت له: أنا ما زلت ملتزمة بالاتفاقية، وأنت نقضتها». وفي أسى، قال رجل إن زوجته تركته بعد أن فقد وظيفته. وأضاف: «أنا في الأربعين، وكنت أعتقد أن ثراء وول ستريت سيظل يزيد ويزيد، وأنني سأكون أسعد إنسان على سطح الأرض. لكن، ها أنا أذهب إلى طبيب الأمراض النفسية، وأتعاطى الفاليوم بعد أن فقدت عملي وزوجتي».

في ضاحية دارين، التي يسكن فيها باري وعائلته، كان متوسط الدخل الشهري خمسة عشر ألف دولار في الشهر، ومتوسط قيمة المنزل مليون دولار، ومتوسط الذين عندهم منازل ريفية أو شتوية أو على البلاج، ستين في المائة. ومتوسط الذين عندهم خادمة متفرغة تسكن معهم في المنزل خمسين في المائة. بعد أن فقد باري وظيفته، اتفق مع زوجته على فصل الخادمة المتفرغة، وإبدالها بواحدة غير متفرغة ولا تسكن في منزل العائلة، وعلى عدم السفر إلى أماكن بعيدة لقضاء الإجازات، وعلى الانتقال من نادي غولف إلى آخر «أكثر تواضعا». واتفقا أيضا على عدم توقع توفير مصاريف مدرسية لولديهما ليدخلا جامعة هارفارد. وقال الزوج وكأنه يريد إقناع نفسه: «ليست هارفارد هي الجامعة الوحيدة في أميركا». ويعلق جيمس لودفيك، رئيس مؤسسة «مين ستريت» للنصائح المالية والاقتصادية في واشنطن، على الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية في الولايات المتحدة، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «نعم، أثرت الأزمة الاقتصادية على العلاقات الاجتماعية والعائلية. يأتي إلى مكتبي زوج وزوجة يريدان استشارات اقتصادية. وأول ما ألاحظه هو التوتر. ثلثهم في وضع صعب، مثل عدم القدرة على دفع أقساط المنزل الشهرية للبنك». ويضيف: «أحيانا أكون مستشارا اقتصاديا وطبيبا نفسيا. أقول لهم إن أي نقاش لحل أي مشكلة يجب أن يعتمد على ثقة طرف في الآخر. لهذا، إذا غابت الثقة بين الزوج والزوجة، لن تقدر قوة في الأرض على حل أي مشكلة بينهما».

لكنه يقول إن أكثر زبائنه من الأحسن حالا والأعلى دخلا. وإن كثيرا من النقاش عقلاني وعلمي، وذلك لأن مكتبه في قلب واشنطن، بالقرب من البنك الدولي. ويضيف: «أفهم أن الأزمة الاقتصادية تؤثر أكثر على الأقل دخلا، والذين ربما يتغلب عليهم الغضب، الذي يسبب أشياء أخرى سلبية بالطبع». بماذا ينصح؟ أولا: لا تناقشوا ميزانية العائلة عرضا أثناء الأكل أو مشاهدة التلفزيون. لكن حددوا مكانا وزمانا لذلك. ربما خارج المنزل. ثانيا: اشتروا كتبا تقدم نصائح في مثل هذه الظروف، وتبادلوا الملاحظات عما جاء في هذا الكتاب أو ذاك. ثالثا: قبل بداية النقاش، أثنوا على ميزات زوجاتكم أو أزواجكم، وعلى حرصهن أو حرصهم على الصرف الحكيم. وتحاشوا الانفراد بهذا الحرص، والادعاء بأنكم أكثر حرصا من الآخر. رابعا: استعملوا مواقع في الإنترنت تساعد على وضع ميزانية لكم، وتحدد بنود الصرف، ونسبة هذا إلى ذلك. مثل أن قسط المنزل يجب ألا يزيد عن نسبة معينة من الدخل، وأن الأكل في مطاعم خارج البيت يجب ألا يزيد عن مرات محددة. خامسا: الجأوا، إذا فشلت كل هذه النصائح، إلى مستشار اقتصادي، أو إلى طبيب أمراض نفسية، أو إلى رجل دين، يقدم لكم صلواته ويدعو لكم بالصبر وأنتم تواجهون ربما أكبر كارثة في زواجكم.

ونشرت صحيفة «يو إس آي توداي» الأرقام الآتية عن تأثير الأزمة الاقتصادية ليس فقط على ميزانيات العائلات، ولكن أيضا على العلاقات العائلية:

أولا: من بين كل عشر زيجات على أبواب الطلاق، اضطرت خمس على العيش في نفس المنزل حتى تنفرج الأزمة الاقتصادية. ثانيا: من بين كل عشر عائلات لم تكن تعمل فيها الزوجة في وظيفة خارج المنزل، اضطرت ثمان زوجات لخرق هذه العادة. ثالثا: من بين كل عشر عائلات لا يزال يعمل فيها الزوج والزوجة، توجد خمس عائلات، اضطر الزوج أو الزوجة للعمل في وظيفة ثانية. رابعا: من بين كل عشر عائلات كانت تستعين بخادمات، استغنت ست عائلات عنهن. خامسا: من بين كل عشر عائلات كانت تستأجر أناسا للإشراف على الحشائش والأعشاب والأشجار، أو لنظافة المنازل مرة في الأسبوع، استغنت خمس عائلات عن هؤلاء.

وأعلن مارك بيري، أستاذ اقتصاد اجتماعي في جامعة ميشيغان تعريفا جديدا لكلمة «ركود»، وهو «ركود ذكوري». وقال إن الإحصائيات أثبتت أن ثمانين في المائة من الذين فقدوا وظائفهم خلال السنة الماضية من الرجال. وقبل ثلاث سنوات وخلال سنة واحدة (2006)، فقد 5% من الرجال ومثلها من النساء وظائفهم ووظائفهن. لكن في السنة الماضية (2008)، فقد 8% من النساء وظائفهن بينما فقد 11% من الرجال وظائفهم.

وتضيف كرستينا سومرز، خبيرة في مركز «أميركان إنتربرايز» في واشنطن، عاملا جديدا، ومثيرا، إذ قالت إن الأزمة الاقتصادية لم تؤثر فقط على وظائف الرجال أكثر من وظائف النساء، ولكن أيضا، أثرت على رجولة الرجال. وسألت: «هل أصبح الرجال هم الجنس الثاني الآن؟» وقالت إنه قريبا، ستمر الذكرى المائة والخمسون على إصدار سوزان أنتوني، من قائدات حركة تحرير المرأة الأميركية، جريدة «ريفوليوشن» (الثورة) التي طالبت بمنح المرأة حق التصويت والترشيح. وكانت تلك هي «الثورة النسائية الأولى». وقريبا ستمر ذكرى خمسين سنة على كتاب «فيمينين ميستيك» (لغز الأنوثة) الذي كتبته بيتي فريدان، أيضا من قائدات حركة تحرير المرأة الأميركية. وكانت تلك «الثورة النسائية الثانية». ولهذا، سألت على ضوء الأزمة الاقتصادية، وزيادة نسبة العطالة وسط الرجال، والتأثيرات النفسية على الرجال بسبب ذلك: «هل أصبح الرجال هم الجنس الثاني الآن؟ هل جاء وقت الثورة النسائية الثالثة، والأخيرة؟» وتقصد ليس فقط المساواة بين الرجال والنساء، ولكن تفوق النساء على الرجال. وأشارت إلى الإحصائيات الآتية:

أولا: زادت نسبة البنات على نسبة الأولاد في الجامعات الأميركية.

ثانيا: يفشل الأولاد أكثر من البنات في إكمال المدرسة الثانوية (يفشل نصف السود واللاتينيين).

ثالثا: وصلت نسبة العائلات من دون زوج إلى 50% (90% في أحياء الزنوج في المدن الكبيرة).

وربما للتخفيف من نتائج الأزمة الاقتصادية، زادت نكات الأميركيين عنها. مثل إعلان عن عطر «اوبسيشن» (غرام) الذي تنتجه شركة «كالفين كلاين»: تحول اسمه إلى «ريسيشن» (ركود). ومثل براندون هاورد الذي اتفق مع صديق على فتح ناد ليلي بالقرب من البيت الأبيض اسمه «ريسيشن» (ركود). لكن ليست هذه نكتة فقط، لأن الرجل (29 سنة) كان محاميا، وفصل من مكتب «سلفان آند كورنويل» في واشنطن، أيضا بالقرب من البيت الأبيض. وقال صديقه، ويملك ناديا ليليا في مكان آخر في واشنطن، الحقيقة هي أن الأندية الليلية والبارات والمقاهي وجدت زبائن أكثر بسبب الكارثة الاقتصادية. وقال: «يريد الناس، وخاصة الذين فقدوا وظائفهم، الترفيه عن أنفسهم. يريدون الخروج من منازلهم وشققهم التي تزيد شقاء العاطلين شقاء لأنهم لا يفعلون شيئا غير مشاهدة التلفزيون ليلا ونهارا». وأضاف: «طبعا، نريد زبائن غير العاطلين. سنكون قريبين من البيت الأبيض، وسنستهدف الشباب والشابات الذين يعملون في إدارة الرئيس أوباما. ربما سيساعدهم اسم النادي الليلي (الركود) على حل المشكلة». وليست نكتة أن جمعيات خيرية في ولاية كاليفورنيا وضعت لافتات «سمايل» (ابتسامة) على الطرق البرية لترفع الروح المعنوية للذين فقدوا وظائفهم وللذين لم يفقدوها. وليست نكتة أن مركز «هاريس» للاستفتاءات قال إن 70% من الأميركيين متأكدون من زيادة الجريمة وحوادث العنف بسبب الأزمة الاقتصادية. ويوجد أكثر من سبب يؤكد ذلك، فقد زاد عدد العاطلين، وانخفضت الدخول. كما زاد القلق والتوتر، وقلت الخدمات الحكومية لمساعدة ومراقبة الشباب والشابات. وخلال فصل الصيف، أغلقت أحواض سباحة كانت تشرف عليها البلديات والمقاطعات. لكن في الاستفتاء قالت نسبة كبيرة إن تفكك العلاقات العائلية، وانخفاض الرقابة الحكومية، وكثرة الفقر والجهل، أسباب رئيسية ودائمة لانتشار الجريمة.

وقدمت مجلة «كوزموبوليتان» النسائية نصائح للزوجات والصديقات عن أحسن طرق لمعاملة أزواجهن وأصدقائهن في زمن الركود الاقتصادي. وقالت: «عندما تلاحظين أنه متوتر، يجب أن تحاولي مساعدته، رغم أنك ربما لا تكونين طبيبة أمراض نفسيه. يجب ألا تتركيه ضحية التلفزيون، ليلا ونهارا. احذري، لا تلوميه لأنه بلا عمل. سيزيد هذا من مشكلاته. لكن احكي له أن جاركم وجد عملا بعد أن كان فصل، وأن قريبه فقد وظيفته، ثم أعادوه لها». وبينما ظل أغلبية الأميركيين، منذ عشرين عاما تقريبا، يبحثون عن طرق لتخفيض أوزانهم، يبدو أن الأزمة الاقتصادية تعرقل هذه المشاريع. ولهذا قدمت مجلة «كوزموبوليتان» النصيحة التالية: «ليس سرا أن الفصل من العمل يسبب اكتئابا، وليس سرا أن الاكتئاب يسبب زيادة في الوزن لأن المكتئب يكثر من الأكل ظانا أن ذلك سيحل مشكلاته، أو أنه وقد انهزم أمام شركته، يقدر على الانتصار أمام الثلاجة وما فيها من أكل وشرب». لكن ربما للأزمة الاقتصادية نتيجة إيجابية لأنه، أحيانا، يقوي العلاقات العائلية وبين الأصدقاء والصديقات. وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرا عنوانه: «هل الركود الاقتصادي رومانسي أيضا؟». وقالت إن من محاسن الركود ليس فقط تأجيل الطلاق، وتأجيل تقسيم الأطفال بين الآباء والأمهات، ولكن أيضا، زيادة نسبة الحب والخطوبة والزواج. وقال موقع «ماتش دوت كوم» لترتيب مقابلات الرجال والنساء إنه سجل في الربع الأول من هذا العام، رقما قياسيا في عدد الزوار (سبعة أضعاف ما كان عليه خلال نفس الفترة في السنة الماضية). وفسر ذلك بيبر شوارتز، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ولاية واشنطن، وقال: «توضح زيادة الإقبال على أماكن اللقاء والزواج شيئا آخر، وهو أن الرجال والنساء، في الأوقات العادية لا يملكون وقتا كافيا للحب والغرام. ولم يقدر بعضهم على أن يفعل ذلك إلا بعد أن فصلوا من أعمالهم». وأضاف: «عندما لا يعرف الشخص العقلاني ماذا سيحمل له المستقبل، يخاف، ويلجا إلى العلاقات الإنسانية».

وقد أثارت الأزمة الاقتصادية نقاشا وسط الأميركيين حول قدرة العقلانية (التي هي من أركان المجتمع الأميركي) على مواجهة الأزمات والكوارث. وفي هذا الشهر، زاد النقاش بعد صدور كتاب «ميث أوف راشونال ماركيت» (خرافة السوق العقلاني). ويقول الكتاب إن السوق ليست فقط عن الربح والخسارة، وليست فقط عن العرض والطلب، ولكن، أيضا، عن الخوف والشجاعة. وصار هذا واضحا، ليس فقط في الهلع الذي أصاب «وول ستريت» في السنة الماضية، ولكن أيضا، الهلع الذي أصاب العاملين فيه، وخاصة الذين فقدوا وظائفهم، ووجدوا أن عقلانيتهم لم تقدر على حل مشكلاتهم. وهرع الكثيرون نحو عيادات الأمراض النفسية. وأيضا نحو المكتبات لشراء كتب «سلف هيلب» (مساعدة النفس). وأخيرا صدر واحد من هذه الكتب، وقدم النصائح الآتية للذين يفصلون من أعمالهم:

أولا: زيادة الاتصالات مع أفراد العائلة والأصدقاء (رغم ما سبق عن قلة العلاقات العائلية). ثانيا: التعبير عن العاطفة، وحتى البكاء، وحتى بالنسبة للرجال (رغم ما سبق عن العقلانية). ثالثا: ممارسة الرياضة، ليس فقط للترويح عن النفس، ولكن أيضا، ربما لمقابلة من هو في نفس الوضع. رابعا: شراء كتب فيها نصائح عن طرق مواجهة الفصل من العمل (مثل الكتاب نفسه).