معركة السروال

صحافية البنطلون السودانية.. انتصرت في أول قضية حقوقية وعمرها 8 أعوام.. وأثارت ضجة بزواجها من عميد الصحافة السودانية الذي يكبرها بـ45 عاما

الصحافية السودانية لبنى حسين وسط جموع من مؤيديها أمام محكمة بالخرطوم يوم الاثنين الماضي (أ.ف.ب)
TT

أفتخر بأنني الأغلى مهرا بين بنات جيلي، فقد بلغ 15 ألف كتاب، و15 ميدالية ذهبية وفضية وغيرها، لا تقدر بثمن، لأنها هدايا وتذكارات من رؤساء وملوك سابقين.

هكذا ردت الصحافية السودانية لبنى حسين، 36 عاما، على الحملة الشعواء، التي واجهتها قبل 6 أعوام حينما تزوجت من عميد الصحافيين السودانيين، مؤسس كبرى صحف الخرطوم، صحيفة «الصحافة»، عبد الرحمن مختار، الذي كان يكبرها بنحو 45 عاما. كانت وقتها في نهاية العشرينات من عمرها، بينما تخطى هو حاجز السبعين من عمره بسنوات، وقد توفي بعد أقل من 5 أشهر من زواجهما، تاركا لها ثروة صحافية وثقافية هائلة، وجوائز وميداليات حصل عليها خلال سنوات عمره في عالم الصحافة، التي فاقت الخمسين عاما. أثار الحدث جدلا واسعا، وسلط الأضواء على تلك الصحافية الصغيرة المغمورة، التي لم يكن الكثيرون يعرفون عنها شيئا، حتى بالنسبة للعاملين في مجال الصحافة نفسها.

تلك الحملة كانت شبيهة إلى حد كبير، بالحملة التي تواجهها حاليا لبنى حسين، عندما ارتدت بنطلونا في إحدى حفلات الخرطوم الساهرة، اعتبرته شرطة أمن المجتمع (النظام العام)، عندما داهمت مقر الاحتفال بأنه مخالف لقانون «الحشمة»، المثير للجدل، الذي تم بموجبه اعتقال ومعاقبة ما يزيد على 40 ألف امرأة، حسب اعترافات مدير شرطة النظام السودانية العقيد أبو بكر أحمد الشيخ، بنفسه لـ«الشرق الأوسط»، وجلد ما لا يحصى ولا يعرف لغياب إحصائيات.

وجدت قضية لبنى منذ اعتقالها في يوليو (تموز) الماضي وحتى خروجها من السجن الثلاثاء، تعاطفا محليا وعالميا كبيرا، وفتحت الأبواب لجدل لن ينتهي قريبا حول إشكاليات قانون العقوبات السوداني، وتحديدا في مادته 152، التي تعرف بقانون «الحشمة»، وضحاياه، كما سلطت الأضواء على نوعية محاكم النظام العام، التي تثير استغراب أهل القانون.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تطرق فيها لبنى حسين، أبواب السجون السودانية، فقد اعتادت دخولها 4 مرات سابقة، كمدافعة عن الحقوق. 3 مرات في مدينة واد مدني، عاصمة ولاية الجزيرة (وسط) حيث كانت طالبة بجامعتها، وتم اعتقالها خلال تظاهرات طلابية، ودخلت ما يسمى بـ«بيوت الاشباح» التي تطلق على سجون جهاز الأمن، ومرة في الخرطوم العاصمة حيث نشأت وترعرعت.

ولم يكن غريبا إذن عندما قالت أنها لم تكن خائفة أو وجلة عندما اعتقلت في يوليو الماضي، كما قالت لأصدقائها وزملائها الصحافيين، فقد اعتادت على الأمر.. وقالت إن معنوياتها كانت عالية، وهي تواجه المحكمة الأولى والثانية، والأخيرة التي حكمت عليها فيها، فقد كانت والدتها ترافقها وتطلق الزغاريد، بل إنها قبيل الجلسة الأخيرة قامت بطباعة العشرات من كروت الدعوة للصحافيين وأصدقائها لحضور ما أسمته «حفلة الجلد»، الذي كان يمكن أن تقررها المحكمة في حقها وهي 40 جلدة.

وقصة لبنى مع الجلد بدأت مبكرة جدا، في المرحلة الابتدائية بمدرسة «محمد سليمان» بأم درمان، التي أسسها والد الحقوقي السوداني الشهير المحامي غازي سليمان. وهي في الصف الثالث الابتدائي، رفضت أن تجلد من مدرسة الحساب الجديدة، التي أرادت معاقبتها بضربها بعصا على ظهر يديها مع مجموعة من التلميذات، لأنها لم تقم بتسليم كراسة الحساب ليتم تصحيحها، فقامت المدرسة بتحويل الأمر إلى ناظرة المدرسة التي وقفت إلى جانب لبنى، في رفضها لتلك العقوبة القاسية. تقول لبنى إنها «لم تكن وقتها وهي لم تتعد الثماني سنوات تحتج على عقوبة الجلد في حد ذاتها، بل كانت تعترض على الطريقة القاسية لتنفيذ تلك العقوبة. وتم تصعيد الأمر إلى مجلس الآباء الذي وبخ المدرسة وأمرها بالتوقف عن الجلد بتك الطريقة. وكانت اول قضية حقوقية تنصر فيها وهي طفلة يافعة. لبنى حسين التي ولدت في حي العرضة بأم درمان في الأول من مايو (أيار) 1973، هي أكبر أشقائها (طارق ورباب)، وتلقت مراحلها التعليمية بالمدينة نفسها. تقول عن نفسها إنها كانت متعلقة بالقراءة من صغرها، وكانت مواظبة على قراءة مجلة «ماجد» الظبيانية و«الصبيان» السودانية، وفي المرحلتين المتوسطة والثانوية كانت تشارك في تحرير الصحف الحائطية. ورغم ميولها العلمية، ونبوغها في مادتي الرياضيات والكيمياء، كما كانت تحب دروس المطالعة والتعبير. لذا كانت لديها مشكلة في الاختيار بين المساقين الأدبي والعلمي، فقد كانت مدرسة اللغة العربية، تريدها ضمن الفصول الأدبية، فيما تلح مدرسة الرياضيات بأن تنضم إلى الفصول العلمية.

لم يخطر ببالها يوما أن تكون صحافية، حسب ما قالت لبنى لـ«الشرق الأوسط»، رغم تعلقها بالكتابة في الصحف الحائطية بالمدارس المتوسطة والثانوية والجامعية. كان طموحها أن تصبح معلمة رياضيات أو كيمياء، لكن بداخلها كانت تمارس مهنة الصحافة. وفي عمر 16 عاما قامت بمراسلة صحيفة الدستور، التي تصدر في لندن، بجانب كتابة المقالات في الصحف السودانية المحلية.

في جامعة الجزيرة بوسط السودان اختارت لبنى دراسة العلوم الزراعية.. لكن قلبها كان ينبض بحب الصحافة فكانت تشارك بقلمها اللاذع في الصحف الحائطية التي كانت تسبب لها كثيرا من المتاعب، مع أجهزة الأمن. واشتهرب بين أفراد «الدفعة 14»، بمقالاتها وقصائدها الشعرية. ومنذ الأيام الأولى بالجامعة دخلت في مواجهات مع أجهزة الأمن، عندما شاركت في تظاهرات طلابية ضد قرار إلغاء نظام الإعاشة والسكن الذي ظل موجودا في الجامعات والمدارس السودانية لأكثر من نصف قرن، وقامت الحكومة بإلغائه. واشتبك الطلاب مع الشرطة في صدامات عنيفة ومشهودة عام 1994، امتدت خارج أسوار الجامعة، لتتعرض للاعتقال لأول مرة في حياتها مع مجموعة من الطلبة والطالبات. ودخلت بيوت الأشباح الموجودة في حي 114 بمدني. ومن حسن حظها فقد أفرج عنها في اليوم التالي، بعد أن تلقت تحذيرا أوليا. لكنها عادت إلى التظاهر، وكتابة المقالات الساخنة، وألقي عليها القبض مرة أخرى، ودخلت السجن للمرة الثانية. هذه المرة بقيت في سجن انفرادي لوحدها لمدة أسبوع. تقول عن تلك التجربة «إنها كانت أقسى فترة في حياتي»، حيث كانت تجلس في غرفة ضيقة ومظلمة لمدة أسبوع. وقد تم إطلاق جميع زميلاتها بعد يوم واحد، وبقيت هي بسبب مقالاتها اللاذعة. كان جهاز الأمن يعتبر أن ما تكتبه هو السبب المباشر في تحريض الطلاب لذا كانوا يريدون تأديبها. وعندما خرجت من السجن كانت هناك قائمة بأسماء الطلاب المشاغبين، الذين تم فصلهم من الجامعة، وقد كانت من بينهم.

عادت إلى مدينتها أم درمان مرة أخرى، جلست فترة بلا عمل، لكنها اختارت أن تعود لقاعة المحاضرات لتدرس الإعلام من جامعة السودان بالخرطوم، بعد أن تكشفت ملامح شخصيتها الصحافية. فكانت بداية عهدها بالصحافة المكتوبة.

يقول زميلها في صحيفة «الرأي الآخر» خالد عبد العزيز، وهو نائب رئيس تحرير صحيفة «السوداني»، حاليا، إن لبنى حسين، كانت ناشطة، ولديها حماس سياسي معارض للحكومة أكثر من عملها الصحافي، لكنه أشار إلى أن زاويتها التي كانت تكتبها في الصحيفة تحت عنوان «كلام رجال»، إلى جانب الحوارات الصحافية الجريئة، أعطتها شهرة واسعة، بسبب انتقاداتها الجريئة للحكومة.

ورغم تأكيده أن لبنى لم يسبق لها أن تناولت قضية النظام العام، في مقالاتها، فإنه قال إنها استطاعت بخبرتها الصحافية أن تجند الإعلام المحلي والدولي في تسليط الضوء على قضيتها الحالية، التي باتت تعرف بقضية البنطلون. وأشار إلى أن حملة التعبئة التي قادتها ضد إلغاء «قانون الحشمة» ستستمر» وإن كانت ليست بذات الزخم الذي كان حادثا خلال الفترة الماضية، مشيرا إلى وجود خلافات فقهية في مسائل «جلد المرأة» ومعايير تحديد الملابس، وما إذا كانت «حشمة أم فاضحة». وتابع «القضية التي أثارتها لبنى حركت المياه الراكدة وهي الآن مسنودة بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق المرأة، وأصبحت رمزا في مواجهة قانون النظام العام».

ويقول منتقدو لبنى إنها كانت تبحث من وراء إثارة قضيتها، عن شهرة، لكن عبد العزيز، دافع عنها وقال «من الصعب البحث في نوايا الناس والحكم عليهم، ثم إن البحث عن الشهرة لدى الصحافي ليس أمرا معيبا، فهو موجود في تركيبتنا جميعا، لكن ذلك لا يعني أن نحكم على لبنى بأنها كانت تبحث عن الشهرة في هذه القضية لأنها كانت تواجه الجلد، بل واختارت السجن وتعرضت للتهديد بحياتها من قبل متطرفين».

الدكتور مرتضى الغالي، رئيس تحرير صحيفة «أجراس الحرية»، والخبير الإعلامي والناشط في حقوق الإنسان، اعتبر أن ما قامت به لبنى حسين، في مواجهتها لمحكمة النظام العام، هو «معركة في مكانها» مشيرا إلى أن «معظم السودانيين شعروا أن وجود واستمرار مثل هذا القانون سيزيد من عدد ضحاياه من الفتيات، لامتهانه كرامة ومكانة المرأة، وسيدخل أسرهن في محن اجتماعية بسبب تعسف ذلك القانون». ويقول الغالي، الذي تعرضت صحيفته مرارا إلى الإيقاف، «هناك تناقض كبير في تطبيق قانون الحشمة، وأحكامه، إذ إن التلفزيون السوداني يعرض يوميا نساء الشرطة والمجاهدات في قوات الدفاع الشعبي وهن يرتدين البنطلون، كما يعرض المسلسلات العربية التي ترتدي فيها الممثلات أنواعا من الملابس التي يعتبر فيها البنطلون زيا محتشما للغاية مقارنة مع الأنواع الأخرى، ولا تنطق الشرطة بكلمة واحدة». وشدد الغالي على ضرورة مواجهة هذا القانون ومواصلة الحملة ضده لإلغائه فورا، وأن على البرلمان والصحافيين والعاملين في مجال حقوق الإنسان والقانونيين أن يصعدوا من حملتهم، مشيرا إلى أن الحملة التي انتظمت مع محاكمة لبنى زادت من حماس الكثير من المؤسسات المناهضة لقانون النظام العام، وأن الكثير من الاجتماعات تعقد وأكثر من محفل باعتبار أن القانون لا علاقة له بالدين الإسلامي وتشريعاته، ولا بتقاليد الشعب السوداني الاجتماعية. وقال إن المجال ما زال مفتوحا لاستمرار معركة إسقاط القانون عبر المذكرات للبرلمان والمسيرات ورفع الدعاوى أمام المحكمة الدستورية.

وتلفت الصحافية هنادي عثمان، الصديقة المقربة من لبنى لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن صديقتها لبنى وقعت ضحية كما الآلاف غيرها من النساء ضحية قانون فضفاض غير واضح المعالم، ويعتمد على اجتهادات عناصر الشرطة، في تفسيرهم لـ«الزي الفاضح»، ولكنها رأت شيئا إيجابيا، مما حدث لصديقتها لبنى، باعتبار أن لبنى التي وصفتها بـ«العنيدة»، استثمرت قضيتها في كشف أسرار وخفايا ما يحدث لآلاف النساء. وتقول هنادي، إن تفسير القانون هو في حد ذاته أحد أهم المشكلات وتروي أنها استفسرت ضابط الشرطة، الذي اعتقل صديقتها لبنى عن سبب القبض عليها، فقال لها إنها «وجدت في محل ديسكو، مع أنها كانت في صالة مطعم كوكب الشرق بالخرطوم، الذي يدير أغاني سيدة الغناء العربي أم كلثوم لمحبيها السودانيين والأجانب». وتقول إن «صالة ومطعم كوكب الشرق يقع في مدينة الرياض الفاخرة بالخرطوم ومعروف لدى الأوساط الاجتماعية».

صارت قضية لبنى مادة إعلامية دسمة للصحف السودانية، وفيما ذكرته أن الرئيس المصري حسني مبارك عاتب الرئيس عمر البشير، في لقاء بشرم الشيخ، قبل أن تأخذ القضية بعدها الدولي، وطلب منه لملمة الموضوع، حسب الصحف السودانية، قال له «ايه اللي بتعملوه ده.. تلبس بنطلون أو غيره» وتقول الصحف إن البشير وعده بعفو رئاسي، وتقول لبنى لـ«الشرق الأوسط»، إنها لم ترحب بهذا العفو الرئاسي لأنه لا يعالج المشكلة وهي مشكلة قانونية، وليست قضية شخصية تهم لبنى أو غيرها. الرئيس الفرنسي دعاها للإقامة في باريس، وهاجمت الصحافة السودانية ساركوزي واتهموه بأنه نفسه يمنع ارتداء الحجاب. وردت لبنى، إن فرنسا دولة قانون، والقرار فيها للمؤسسة وليس للرئيس. ولا يفرض الرئيس رأيه فيها. اتصلت بها وزير الشؤون الأسرة الفرنسية نادين موارنو، وأبدت تعاطفها معها واهتمامها بقضية المرأة السودانية. تقول لبنى: «حاولت أن أشرح لها إيه يعني محاكم إيجازية، قاض وشرطي، ومتهم، المتهم عبارة عن جثة يقوم القاضي والشرطي بتشريحها، ولم يبدو أنها فهمت شيئا وربما لم تصدقني، إلا بعدما أن حضر القنصل الفرنسي لمحاكمتي مع دبلوماسيين غربيين ورأوا القاضي وبجانبه هيئة الاتهام، والدفاع، تجاهلهما تماما وأصدر حكمه قبل أن ينطق الدفاع بكلمة واحدة». تقول لبنى، إن القاضي أعطاها فرصة تاريخية لشرح قضيتها للغرب بعدما أن عجزت عن عرضها لوزيرة شؤون الأسرة الفرنسية. تقول لبنى عن بداية تعارفها مع عميد الصحافة السودانية عبد الرحمن مختار، الذي كان أحد المساهمين في الصحيفة بعد بيعها، إن البداية كانت مقالا كتبته عن الصحافة السودانية، أعجب به عبد الرحمن مختار، الذي كان يحضر إلى مقر الصحيفة من وقت لأخر. طلب مقابلتها. وبعد 5 سنوات طلب يدها للزواج. كان يكبرها عندما تزوجا عام 2003، بـ42 عاما، كان عمرها 30 وهو في منتصف السبعينات. أثار زواجهما ضجة كبيرة وانتقادات اتهموا بأنها سعت من أجل الورثة، وأن مهرها كان بآلاف الدولارات. لكنها واجهت تلك العاصفة بجلد وردت على منتقديها، بأن مهرها كان 15 ألف كتاب كان في مكتبة زوجها، و15 ميدالية ذهبية وفضية حصل عليها من رؤساء وملوك عرب وأفارقة حين التقاهم خلال سنوات عمره التي امتدت في عالم الصحافة لأكثر من 50 عاما. القضية لم تنته، تقول صحافية البنطلون ولكنها ابتدأت الآن، طالما هناك محاكم ايجازية بقاض وشرطي ومتهم. وقوانيين تنتهك حقوق الناس.. وتطبق على الضعفاء. تقول لبنى، «كنت أتمنى أن أظل في السجن، هناك مئات الحالات التي رايتها في السجن، مئات القصص ولكن رأت السلطات إبعادي، عجلوا بطردي بعدما بدأت أتهيأ للاستماع لمن حولي في سجن النساء ومعظمهن ضحايا لقانون النظام العام.