أزمة الولاية الذهبية

كاليفورنيا خامس أكبر اقتصاد في العالم.. بين الحرائق والإفلاس

شوارتزنيغار يوقع على أحد ممتلكات الولاية قبل بيعها في المزاد
TT

ذهب أرنولد شوارتزنيغار، حاكم ولاية كاليفورنيا، الأسبوع الماضي إلى وادي بيرناديت شمال شرقي لوس أنجليس، حيث تشتعل حرائق تأكل الأخضر واليابس، ويرتفع دخانها إلى السماء، وتشاهد في سفينة الفضاء الدولية، وقال لعمال الإطفاء: «أنا أمرت بوضع كل إمكانيات الولاية لمساعدتكم. لا تصدقوا الذين يقولون بأن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الولاية جعلتها عاجزة عن حماية الناس، ولا تصدقوا الذين يقولون بأن القانون الجديد لمواجهة الأزمة الاقتصادية نص على تخفيض ميزانية عمال الإطفاء. الحقيقة هي أننا وضعنا في الميزانية بند طوارئ، نصرف منه الآن على عمليات الإطفاء».

وعلق مراسل تلفزيون «اي بي سي» وهو ينقل حديث الحاكم، وخلفه ألسنة النيران ترتفع عالية، مازحا: «نحمد الله أن عمال المطافئ لا يشملهم قانون إجازة يوم كل أسبوع إجباريا». وهذه إشارة إلى قانون أصدره الحاكم في بداية السنة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، بمنح موظفي وعمال الولاية إجازة يوم إجبارية كل أسبوع، وذلك لتخفيض الصرف. لكنه استثنى المطافئ والشرطة والمستشفيات.

وقبل أربعة أيام من زيارته لمنطقة الحرائق زار حاكم الولاية ميدان المزادات في ساكرمنتو، عاصمة الولاية، لتفقد «أغرب مزاد في تاريخ المزادات»، كما قالت جريدة «ساكرمنتو بي». كان الحاكم أمر ببيع فائض ممتلكات الولاية لمواجهة المشكلة الاقتصادية، وخاطب الحاضرين في المزاد وكرر كلمتي «وين، وين» (نصر، نصر)، وأضاف: «أنتم تكسبون ونحن نكسب».

وصف مراسل الجريدة المزاد بأنه كان ناجحا، وأن آلاف الناس ذهبوا إليه واشتركوا فيه، وأن بعضهم وقف في صف طويل من قبل شروق الشمس، وأنه لحسن حظ الحاكم، وبسبب الأزمة الاقتصادية: أولا زاد عدد العاطلين، وثانيا: يبحث كل واحد عن أشياء رخيصة.

واستغل الحاكم، وهو النجم السينمائي، شهرته وشجع المزاد بالتوقيع على موتورسايكلات وأجهزة كومبيوتر معروضة للبيع.

في نهاية اليوم قالت إيرين شو، متحدثة باسم الولاية: «فاق المزاد توقعاتنا، وتخلصنا من أشياء لا نريدها، وساعدنا على تخفيض صرف الولاية». وقالت إن المزاد در أكثر من مليون دولار بعد بيع أشياء مثل:

أولا: خمسمائة ألف قطعة ملابس سجن. من بين الذين اشتروا بعضها مسؤول في حكومة ولاية نيفادا، وقال: «بسبب الأزمة الاقتصادية التي نواجهها في نيفادا وجدنا ملابس سجن رخيصة هنا».

ثانيا: ستمائة سيارة، منها ناقلات أوساخ من النوع الذي يجوب شوارع المدن، ويشحن أوساخ المنازل. من بين الذين اشتروا بعضا منها مسؤول في شركة لجمع الأوساخ في ولاية نيو مكسيكو. قال: «جئت إلى هنا بعد أن راجعت قائمة سيارات الأوساخ المعروضة هنا، ووجدت أنها في حالة جيدة، وأنها أفضل لنا من أن نشتري سيارات جديدة».

ثالثا: أجهزة كومبيوتر، اشترت بعضها مندوبة من مجلس التعليم في مقاطعة براوارد في ولاية فلوريدا. قالت: «نريد تعميم الكومبيوترات في مدارسنا، وهذه أسعار مغرية، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار تخفيض ميزانيتنا بسبب الأزمة الاقتصادية».

لم يكن كل الشارين من حكومات ولايات مجاورة يحملون شيكات حكومية يوقعون عليها. كان هناك هنري واتسون، من ساكرمنتو نفسها، قال: «اشتريت موتورسايكل بنصف سعره في السوق، وعليه توقيع شوارتزنيغار. ربما أقدر على بيعه بسعر أعلى بسبب التوقيع».

وقالت بتولا كلامانو، وقد جاءت بسيارة من لوس أنجليس: «دخلت ابنتي الجامعة هذه السنة، وتريد سيارة، وزوجي فقد وظيفته بسبب الأزمة الاقتصادية، ولا نقدر على شراء سيارة جديدة. وجدت هنا سيارة مستعلمة لكنها في حالة جيدة».

لكن، لم يشترِ أي شخص كرسي عيادة أسنان (قالت عيادة أسنان تابعة للولاية إنها لم تعد تحتاج إليه).

وكان المزاد آخر خطوة اتخذها الحاكم لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها اقتصاد كاليفورنيا الذي يعتبر خامس أكبر اقتصاد على مستوى العالم. وأمر حاكم كاليفورنيا بذلك بعد أن تلقى اقتراحات في بريده في موقع «تويتر» في الإنترنت. كان قد طلب اقتراحات لمعالجة المشكلة الاقتصادية، فكتب واحد: «أنا أعمل في مخازن الولاية، وأعرف أشياء لا تحتاج إليها الولاية. لماذا لا تبيعونها في مزاد علني؟»، وهذا ما فعل الحاكم. وأيضا عرض أشياء في «اي بيي» (موقع الإنترنت للمزادات)، منها جاكتة عليها رمز الولاية ووقع عليها اسمه، اشتراها واحد بألف دولار.

لكن قال إيريك غازين، مدير وكالة مزادات في كاليفورنيا: «هذه طريقة طفولية. صبي عمره اثنتا عشرة سنة يقدر على أن يفعل أحسن من هذا». وكتبت جريدة «لوس أنجليس تايمز»: «أوه كاليفورنيا. هل وصل بك الحال إلى هذه الدرجة؟» هذه إشارة إلى مسرحية وأغنية باسم «أوه كاليفورنيا». تقول كلمات الأغنية التي غناها لامبيرت ميراندا: «أوه كاليفورنيا. عودي إلي. أنت التي أريد أن أكون. عودي واسكني في قلبي. أعرف أنك في مكان ما. تعيش ذكراك في أعماقي. ولن أدعها تتركني. أوه كاليفورنيا». هذه إشارة من الجريدة إلى تحسر على حاضر كاليفورنيا، وإلى شوق إلى ماضي كاليفورنيا. وغير «أوه كاليفورنيا» هناك أغنيات كثيرة تتحدث عن جمال البنات وجمال الطبيعة وجمال الحياة. غنت فرقة «بتش بويز» (أولاد البلاج) أغنية «كاليفورنيا غيرلز» (بنات كاليفورنيا)، ومنها: «بنات الساحل الشرقي ظريفات. بنات الجنوب يمشين في تبختر. بنات الغرب الأوسط يجملن حقولهن. بنات الشمال يُجدن القبلات. أتمنى لو أنهن كلهن صرن مثل بنات كاليفورنيا. بنات كاليفورنيا يرقدن على البلاج الذهبي. تحت أشعة الشمس الذهبية. ويتحول بياضهن إلى لون الذهب».

يرتبط اسم كاليفورنيا بكلمة «ذهب» لثلاثة أسباب:

أولا: لون رمال بلاجاتها، وخصوصا بلاج سانتا مونيكا، وما يقال عن لون بناتها.

ثانيا: «كاليفورنيا» كلمة إسبانية لقصة خرافية عن بنات سوداوات يحكمن نهر الأمازون، ويهزمن أعداءهن بسيوف من ذهب.

ثالثا: أساس ثروة كاليفورنيا هو اكتشاف الذهب.

في سنة 1542 اكتشفها الإسبان، ولاحظوا قلادات ذهب معلقة على أعناق نساء الهنود الحمر. كانوا يريدون أن يبيعوا لهن خرزا، مثلما فعلوا مع نساء البحر الكاريبي عندما وصلها كولومبس. في كاليفورنيا بنوا كنائس لتنصير الهنود الحمر، وحفروا مناجم لاستخراج الذهب ونقله إلى إسبانيا. في الحقيقة ما كانوا يحتاجون إلى حفر لأنهم وجدوا حبيبات ذهبية صغيرة مرمية على أطراف الأنهار التي حملتها من قمم الجبال.

لهذا، ولثلاثمائة سنة، كانت كاليفورنيا إسبانية. وبعد حرب الاستقلال المكسيكية وهزيمة إسبانيا، وفي سنة 1821، صارت المكسيك مستقلة، وصارت كاليفورنيا جزءا منها. لكن كانت الولايات المتحدة قد نالت استقلالها من بريطانيا قبل ذلك بخمسين سنة، وكانت تطمع في كاليفورنيا، بسبب الذهب، وبسبب البحث عن مواني الساحل الغربي، وبسبب صراع تاريخي ديني بين الأميركيين البروتستانت والمكسيك الكاثوليك.

بموافقة المكسيك ودون موافقتهم، انتشرت مستوطنات أميركية في كاليفورنيا، وبجنود مرتزقة وغير مرتزقة بدأت حرب لفصل كاليفورنيا عن المكسيك. وباعتماد على قوانين ودون اعتماد عليها، تدخلت الولايات المتحدة إلى جانب المستوطنين والانفصاليين (لفترة قصيرة كانت كاليفورنيا دولة مستقلة)، ثم بدأت الحرب الأميركية المكسيكية التي انتهت بهزيمة المكسيك. وسنة 1850 صارت كاليفورنيا ولاية أميركية.

في تلك السنة بدأ «غولد رش» (الزحف نحو الذهب)، وتحول شعار «شوارع نيويورك مفروشة بالذهب» إلى شعار «أنهار كاليفورنيا تصب الذهب». وكان الناس يحملون غرابيل على ضفاف الأنهار ويُصفّون حبيبات الذهب.

في وقت لاحق بدأ «لاند راش» (الزحف من أجل الأرض الخصبة)، وخصوصا وادي سنترال فالي، ربما أكثر منطقة خصبة في العالم. بين جبال سيرا نيفادا في الشرق والهضبة الساحلية في الغرب. وينتج اليوم ثلث الطعام الذي يستهلكه الأميركيون.

في وقت لاحق، مع بداية القرن العشرين، بدأ «موفي رش» (الزحف نحو صناعة السينما). في سنة 1893 أنتج توماس أديسون، مكتشف الكهرباء، أول فيلم في نيويورك. لكن عرقل الجليد إنتاج الفيلم، وسمع أن طقس كاليفورنيا معتدل كل السنة، فانتقل إلى هوليوود، التي كانت ضاحية نائية بعيدة عن لوس أنجليس، التي هي نفسها كانت مدينة صغيرة. وفي سنة 1911 أنتج استوديو «نستور»، من موقعه في شارع «صن سيت» في هوليوود، أول فيلم كارتون «مات أند جيف»، وبعده زحف المخرجون والمنتجون والممثلون والممثلات إلى هوليوود.

وفي وقت لاحق، مع نهاية القرن العشرين، بدأ «سيليكون رش» (الزحف نحو مراكز الكومبيوتر). واليوم توجد في كاليفورنيا رئاسات أكبر شركات إلكترونية، مثل: «أدوب» و«أبل» و«غوغل» و«انتيل» و«صن» و«ياهو» و«هوليت باكارد». توجد معظمها في «سيلكون فالي» (وادي السيلكون، في منطقة سان هوزي، وجامعة ستانفورد. قبل خمسين سنة، في هذه الجامعة، وحسب اتفاقية مع البنتاغون، تطورت أبحاث الكومبيوتر). وهكذا اشتهرت كاليفورنيا بالثروة والطبيعة والجمال والتكنولوجيا.

إذا كانت دولة مستقلة، ستكون العاشرة في العالم، وتتساوى مع إيطاليا في جملة الدخل الوطني. وأيضا اشتهرت لأنها نموذج لمستقبل أميركا. «البيكيني» انتشر هناك، ثم انتقل إلى بلاجات الساحل الشرقي، ورقصة «هولاهوب»، وساندوتش «تاكو»، ومنازل الطاقة الشمسية، وجماعات «هيبيز»، والثورة النسائية، والاختلاط في الجامعات، ثم في داخليات الجامعات، والمظاهرات ضد حرب فيتنام، وضد حرب العراق، وضد اضطهاد المثليين الجنسيين. حتى اليوم، عندما يتظاهر طلاب جامعة كاليفورنيا في بيركلي بسبب قضية معينة، تستعد جامعات أميركا الأخرى لتنتقل العدوى إليها.

ويبلغ عدد سكان كاليفورنيا خمسة وثلاثين مليون شخص، أربعون في المائة بيض، وأربعون في المائة هسبانيك سمر، وعشرة في المائة آسيويون، وخمسة في المائة سود.

هاجر نصف الهسبانيك من المكسيك ودول أخرى في أميركا الوسطي والجنوبية، وظل نصف يعيش هناك منذ أن كانت كاليفورنيا جزءا من المكسيك. يتكلم نصف الهسبانيك الإسبانية في منازلهم، لكن يتكلم الجيل الجديد الإنجليزية أو اللغتين.

لهذا، إذا كانت كاليفورنيا هي أميركا المستقبل، يمكن التنبؤ بما ستكون عليه أميركا في سنة 2050. سيكون أربعون في المائة من سكانها هسبانيك سمر، لكن ستكون أغلبيتهم من الأجيال الجديدة التي ستكون أميركية مائة في المائة. (وقد يعيد التاريخ نفسه ويسود السمر بعد أن كان هزمهم البيض قبل مائتي سنة).

ماذا حدث للولاية الذهبية؟ لأميركا المستقبل؟

ربما ما حدث لأميركا الحاضر بسبب الرأسمالية المتطرفة والحزبية المتطرفة. قال كتاب «بيترايال» (خيانة) الذي صدر مؤخرا، وهو عن بيرنارد مادوف، ملياردير الاستثمارات في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك) الذي أعلن إفلاس شركته التي كان رأسمالها سبعين مليار دولار: «لم تكن مشكلة مادوف غير مشكلة وول ستريت، ولم تكن هذه غير مشكلة أميركا: طمع الرأسماليين وتواطؤ السياسيين». ويبدو أن ما حدث لأميركا حدث لكاليفورنيا.

في سنة 1978 تجمع سياسيون جمهوريون معارضون لما يرونه ضرائب كثيرة، ومولوا استفتاء شعبيا (الاقتراح رقم 13) وافق على تخفيض الضرائب على المنازل إلى واحد في المائة من قيمة المنزل. وأثر ذلك كثيرا على ميزانية الولاية، ولا يزال يؤثر حتى اليوم، ولا يملك السياسيون الجمهوريون والديمقراطيون الشجاعة لبدء حملة لإلغاء ذلك، خوفا من أن يسقط في الانتخابات كل من يريد زيادة ضرائب.

وفي سنة 1991 أفلست الولاية بسبب انخفاض عائد الضرائب، واضطر الحاكم ويلسون والسياسيون إلى فرض ضرائب غير ضريبة المنازل. وتحسن الوضع. وفي سنة 1999 أفلست الولاية مرة أخرى، بسبب «إلكترونيك ببل» (انفجار الفقاعة الإلكترونية) عندما انهارت شركات راهنت على تطورات هائلة في عالم الكومبيوتر. وفي سنة 2003 أجرى معارضو زيادة الضرائب استفتاء عزل الحاكم ديفز، وصار شوارتزنيغار حاكما. في البداية زاد هذا الضرائب. وتحسن الوضع. وفي سنة 2008 مع بداية الأزمة الاقتصادية في كل أميركا بدأت كاليفورنيا تواجه الإفلاس، وبلغ العجز في ميزانيتها 28 مليار دولار.

وفي يوليو (تموز) من هذه السنة، وبعد مناورات استمرت شهورا، وافق السياسيون على اتخاذ خطوات صعبة لتحسين وضع ما سمته مجلة «تايم» «ميزانية خربة». وما قال عنه الحاكم (والممثل السابق) إنه «فيلم رعب طويل ومعقد».

أمر القانون الجديد بإجراءات صارمة، منها:

أولا: إجازة إجبارية ليوم واحد في الأسبوع في حكومة الولاية لتخفيض النفقات. ثانيا: إغلاق مستشفيات ومراكز للعجزة وعيادات للفقراء.

ثالثا: إغلاق ألف مدرسة وفصل عشرة آلاف مدرس.

رابعا: تخفيض ميزانية الجامعات بنسبة عشرين في المائة.

ويوم السبت والأحد الماضيين، بعد اقتراح في «تويتر» في الإنترنت في بريد حاكم الولاية، أمر الحاكم بإجراء مزاد علني لبيع ممتلكات لا تحتاج إليها الولاية، في محاولة غريبة، وربما يائسة، لتحسين الميزانية. (دخل المزاد: مليون دولار. عجز الميزانية: 28 مليار دولار).

في الأسبوع الماضي أرسل اتحاد أساتذة جامعات كاليفورنيا خطابا إلى الحاكم والسياسيين في كونغرس الولاية، وجاء في الخطاب: «عادت ميزانية جامعات كاليفورنيا إلى ما كانت عليه قبل عشر سنوات، لكن خلال هذه السنوات العشر تضاعفت ميزانية السجون. صارت ميزانية السجون عشرة مليارات دولار كل سنة». «أوه كاليفورنيا»، «أوه أميركا».