العصر التركي في الشرق الأوسط

دبلوماسية «فك الاشتباكات» التركية بين سورية والعراق وقضايا أخرى.. ما لها وما عليها

وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو (يمين) خلال لقائه الرئيس العراقي جلال طالباني في بغداد خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد (رويترز)
TT

يقول محدثي المتقاعد من السلك الدبلوماسي بعد سنوات طويلة أمضاها في الخدمة إن الأزمة الأخيرة التي تفجرت بين سورية والعراق ينطبق عليها طرفة نصر الدين خوجا «جحا تركيا» الذي ذهب يبحث عن حماته التي سقطت في النهر الجارف بالاتجاه المعاكس، فاستغرب أحدهم تصرف الخوجا هذا وسأله عما يفعل، فقال جحا: «هي سيدة معاكسة مشاكسة في كل شيء. لا بد أنها نجحت في مقاومة المياه والتوجه في عكس المجرى».

العراق وسورية يشبهان في سلوكهما حماة نصر الدين خوجا في عنادهما الدائم وطرح عكس ما يقوله الجانب الآخر حتى ولو كان يعرف أنه صحيح. وتركيا التي تطوعت من خلال وساطتها هذه لحل الخلاف العراقي السوري الأخير تدرك أنها تغامر، حيث يكفي الإصغاء إلى ما قاله الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية حول أن «نجاح الوساطة التركية مرهون بقبول سورية للمطالب العراقية» لنعرف أن التجديف في الاتجاه المعاكس هو في غاية الصعوبة لكن البعض يصر عليه بعناد.

بإيجاز، نوري المالكي نزل إلى الشارع لافتعال شجار، لكن القيادة السورية التي لم تتأخر في إعلان قبولها هذا التحدي وتأكيدها أنها لا تقل عنه حماسا واندفاعا للمواجهة. فالمالكي رغم قبوله مرغما بهذه الوساطة التركية التي قال عنها منذ البداية «إنها ينبغي أن تحقق لبغداد ما تريده»، يعرف أكثر من غيره لماذا قرر تفجير الوضع على هذا النحو وتصعيد المواجهة ونقلها إلى كواليس مجلس الأمن الدولي، ويعرف أيضا أن أنقرة لن تكون حيادية تماما في وساطتها هذه بعد إعلان شراكتها على أكثر من صعيد مع القيادة السورية، وبعدما أعلن في البلدين قبل أيام أن اللمسات الأخيرة على اتفاقية التعاون الاستراتيجي المشترك قد تم استكمالها، وذكر الرئيس السوري أن بلاده جاهزة للعفو عن 1500 مقاتل سوري في صفوف حزب العمال الكردستاني إذا ما أعلنوا التوبة دعما لمشروع الانفتاح التركي على أكراد البلاد.

ويتابع محدثي أن الدور الإقليمي الجديد لتركيا مبالغ فيه بعض الشيء، فصحيح أن أنقرة دخلت في أكثر من وساطة وطرحت نفسها كشريك في أكثر من ملف، لكنها لم تنجح حتى الساعة في تأمين أي حل جذري لقضايا إقليمية كثيرة يتقدمها النزاع العربي الإسرائيلي والصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني والجبهة السورية الإسرائيلية، وموضوع الأزمة اللبنانية والملف الإيراني الذي سارعت حكومة أردوغان مؤخرا لعرض خدماتها فيه. وكل هذا يؤكد أن مثل هذه المسائل لا يمكن لجهة واحدة بمفردها أن تقدم الكثير على طريق حلها، خصوصا أن الدرس الأميركي ماثل أمامنا ولا يحتاج إلى تعليق.

الحراك الدبلوماسي الإقليمي التركي الأخير أزعج دون شك البعض وأقلق البعض الآخر داخل تركيا وخارجها، خصوصا أنه يجري بشكل علني «وعلى عينك يا تاجر» كما يقول المثل العربي، طارحا «أن تركيا دولة إقليمية أساسية لن تسمح بتهديد الأمن والسلم في المنطقة»، مما حدا بأقلام عربية وتركية كثيرة إلى وصف تحركات وخطط وأقوال وزير خارجية تركيا داود أوغلو بأنها خيالية حالمة مبالغ فيها وبعيدة عن معرفة واقعية وتركيبة وتوازنات الشرق الأوسط الحساسة والمتشابكة، رغم الأشهر الطويلة التي أمضاها في القاهرة وعمان، وهو يعد أطروحة الدكتوراه.

لكن الإعلامي جنكيز تشاندار يلخص الخيارات التي تتحكم في التوجهات والميول الجديدة في السياسة الخارجية، قائلا إن الموقع الجغرافي الذي تحتله البلاد يلعب الدور الأساسي هنا. فتركيا هي أوروبية في علاقاتها مع أوروبا، وشرق أوسطية في علاقاتها مع بلدان الشرق الأوسط، وقوقازية في علاقاتها مع دول القوقاز، هذه هي العوامل التي تتحكم في الهوية والانتماء والخيارات الاستراتيجية التي تتبناها، ولا يمكنها التخلي عنها أو إهمالها.

تركيا قد تمضي في مشروع تقديم خدماتها على طريق إنهاء مثل هذه النزاعات، لكنها مطالبة كما يرى بعض المتابعين أيضا أن تجيب عن سؤالين أساسيين: لماذا هذا التوسط تحديدا؟ وهل ترى نفسها قادرة على الدمج بين خياراتها الإسلامية العلمانية الشرق أوسطية والأوروبية المتداخلة؟

الخبير التركي في الشؤون الخارجية ورئيس مركز «تساف» للأبحاث والدراسات، جان تساف، يقول محاولا الإجابة والتوضيح أن تركيا كانت حتى الأمس القريب تكتفي بحماية مواقعها والتحصن في التعامل مع الأحداث المؤثرة في سياستها الخارجية، أما اليوم فهي شريك فاعل ولاعب أساسي في تحديد السياسات والاستراتيجيات لا بد من أخذ رأيها حتى في أبسط المسائل. تركيا حقا تعيش عصرها الذهبي في هذه الآونة بالمقارنة مع سنوات مطلع التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومراهنة الكثيرين على تراجع موقعها ودورها ونفوذها الإقليمي، ورفض إعطائها أي مكان على طاولات الحوار الإقليمية والدولية التي كانت تركب في واشنطن وبروكسل ومدريد وقتها.

وضمن هذا التوجه ينبغي تذكر أقوال الرئيس التركي عبد الله غل الذي عرف منذ البداية أبعاد وأهداف كل هذا الحراك: «نحن لسنا مثل البلدان الاسكندينافية التي حلت كل مشكلاتها الداخلية وهي تساهم اليوم في معالجة هموم الآخرين، ولسنا وراء الشهرة أو المنافسة على الموقع والمكانة، ما نقوم به من تحركات وجهود يعنينا مباشرة ولا يمكننا إدارة الظهر له». وهذا ما يكرره رجب طيب أردوغان أيضا منذ عامين: «إن تركيا لم تعد تلك الدولة التي تكتفي باستنفاد طاقاتها وجهودها في الداخل وحسب، بل هي أخذت مكانها في قلب لعبة التوازنات حيث لا يمكن إعداد الخطط والاستراتيجيات دون الأخذ بعين الاعتبار بالدور والمكانة التركية». دون أن نهمل ما يردده طبعا رأس الدبلوماسية التركية داود أوغلو منذ 5 سنوات وهو يشرح لنا خطط تركيا لإعادة اكتشاف جغرافيتها وتاريخها: «أن تحمل تركيا هموم المنطقة ومشكلاتها، وألا تكون بعيدة عنها، هي ضرورة حتما لكنها احتياج بالدرجة الأولى» لتكتمل الصورة حول أسباب وأهداف الحراك الدبلوماسي والسياسي التركي هذا.

إذا لم تقع مفاجأة آخر لحظة فإن تركيا ستكون قد نجحت بالأمس في ترتيب طاولة حوار رباعية جديدة تأتي تكملة للقاء القاهرة الأخير بين العراق وسورية ومشاركتها، إلى جانب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، في إطلاق خطة عمل على مراحل تعيد العلاقات بين دمشق وبغداد إلى ما كانت عليه في منتصف الشهر المنصرم على الأقل، فهي تعرف جيدا أن نزع الفتيل في ملف قديم ومتداخل من هذا النوع لن يكون بمثل هذه السهولة. و«العدالة والتنمية» يلعب مرة ثانية ورقة مآدب الإفطار، كما فعل مع رئيسة الوزراء الألمانية لتكون فرصة تجمع فرقاء النزاع العراقي السوري بمشاركة الجامعة العربية وبدعمها لتخفيف الاحتقان والعودة إلى طاولة الحوار لتكون الحسم في إزالة الخلافات.

الكثير من الإعلاميين اوالمحللين السياسيين الأتراك ـ ورغم مسارعة الكثير من وسائل الإعلام العربية إلى نشر أوراق نعي المبادرة التركية وإعلان فشلها ووصولها إلى الطريق المسدود حتى قبل أن تنطلق ـ يتوقفون عند فكرة أن أنقرة ومن خلال تحركها هذا يهمها أيضا حماية بغداد المركز كقوة الثقل السياسي والأمني الأول في العراق، فتراجعها أو إضعافها يعني تقدم القوى السياسية والعرقية الأخرى، خصوصا في شمال العراق، الملف الذي تتابعه تركيا عن قرب منذ سنوات طويلة. وهم يشيرون أيضا إلى أن تراجع الوساطة الإيرانية رغم محاولة طهران طرح نفسها كوسيط جاهز لتقديم الخدمات منذ اللحظة الأولى لانفجار هذه الأزمة سببه الرئيسي الدعم العربي الواسع الذي لقيته أنقرة، وخصوصا دعوتها للمشاركة في قمة وزراء الخارجية العرب في القاهرة وإعلان الأمين العام للجامعة أن المبادرة التركية بمضمونها تلتقي في الشكل والمضمون مع التوجهات العربية بهذا الشأن، وأن التنسيق سيستمر، وما كل ذلك سوى رسائل باتجاه طهران التي تحاول التلميح ومنذ سنوات أنها تمسك بخيوط اللعبة في القرارات السياسية لكل من سورية والعراق، وأنها الخيار الوحيد الواجب الرجوع إليه في أثناء مناقشة ملفات إقليمية تتعلق بسورية أو بالعراق.

مراد يتكين من جريدة «راديكال» يرى أن الوساطة التركية بين العراق وسورية لها علاقة مباشرة بالموضوع الكردي وقضية حزب العمال الكردستاني وضرورة التنسيق الإقليمي المشترك لحل هذه المسألة، وهي من هذا المنطلق لا تريد وقوع أي أزمات جديدة بين دول الجوار التركي قد تطيح بخطة الانفتاح التي تضع حكومة «العدالة والتنمية» هذه الأيام اللمسات الأخيرة عليها. وفي هذا المجال التقت الكثير من الأقلام التركية في الآونة الأخيرة وهي تتعامل مع الموضوع عند التحرك التركي هذا الذي يهدف إلى إطفاء الحرائق المشتعلة أو الحؤول دون إشعال حرائق جديدة يغامر بافتعالها بعض المتضررين، الذين يرون في النشاط الإقليمي التركي تهديدا مباشرا لمصالحهم، وخطوة تقطع الطريق على حساباتهم ونفوذهم، مذكرين أن الأزمة العراقية السورية لا يمكن أن تكون تفجرت على هذا النحو البسيط، بل هي على العكس عملية مفتعلة ومدروسة بعناية أعد لها بدقة لتحمل أكثر من بُعد ورسالة، تترك الكثيرين في قفص الاتهام إلى أن تثبت براءتهم.

ومع أن سميح اديز كاتب الشؤون الدولية في صحيفة «ميليت» يرى أن طروحات ومواقف داود أوغلو تعكس فكرة أن تركيا تعد نفسها لطرح مشروع العثمانية الجديدة وبحلة جديدة معولمة، لكن هذا الطرح يقلق الكثيرين في المنطقة ببعده «الإمبريالي» المجهول المسار والحدود. مقولة أن تركيا أقوى دول المنطقة تشعل الغيرة والقلق والغبن عند الكثيرين، وأنه من يرفض النظام العالمي الأميركي الجديد قادر أيضا على رفض النظام الإقليمي التركي. وأنقرة مطالبة أن تكون أكثر واقعية، فساحة الشهداء في قلب دمشق ما زالت في مكانها، وأنقرة تعرف بمن تذكر وما الذي ترمز إليه جيدا. فإن فهمي قورو الكاتب الإسلامي المعروف لمّح إلى أن التحركات التركية الإقليمية الأخيرة، وتحديدا الوساطة بين سورية والعراق، تهدف إلى قطع الطريق على أزمة إقليمية أكبر قد تفجر ملفات لبنان وفلسطين وإيران، فالجميع يعرف أنها ملفات شائكة متداخلة، وسقوط أحدها يهدد المسائل الأخرى بالانفجار ويقود إلى إشعال المنطقة في مواجهات لا يعرف أحد كيف تنتهي. أنقرة مطالبة أيضا أن تعرف أن الناطق الرسمي باسم الخارجية المصرية حسام زكي سيظل لها بالمرصاد رغم طاولة الحوار الرباعية التي رتبت في القاهرة، فعبارة «الفرصة متاحة لاحتواء هذا الخلاف داخل البيت العربي» لا بد من قراءتها وتحليلها بتمعن من قبل خبراء الاستراتجيات في الخارجية التركية الذين يحيطون بداود أوغلو من كل صوب.

المعارضة التركية التي تطارد «العدالة والتنمية» وتتهمها بأنها لم تقدم الكثير على طريق حل نزاعات إقليمية لتركيا مع جيرانها، بل هي تكتفي بوضع الغطاء فوق مثل هذه الأزمات ومحاولة طمسها، داعية للتأمل في الأساليب المتبعة حيال الموضوع القبرصي وسياسة حل الأزمة الأرمنية على حساب العلاقات التاريخية مع أذربيجان وإهمال الخلافات مع اليونان التي ما زالت تنتظر الحلول الجذرية، هذا إلى جانب الوضع الغامض في شمال العراق ومسار التطورات هناك الذي يحتاج إلى متابعة دقيقة وشاملة لنكتشف أن استراتيجية «صفر مشكلات» مع الجيران والتطوع لحل خلافتهم ينبغي أن يسبقها حل مشكلات تركيا مع جيرانها أولا، كما قال الدبلوماسي التان اويمان أكثر من مرة.

المعارضة اليسارية تذكر أيضا أن لا أحد يعترض على وساطات تجري لحل مشكلات الجيران إذا ما كان بالمقدور فعل ذلك وكانت الأطراف تريد من تركيا مثل هذه الخدمات، لكننا مطالبون أن نعرف أن خياراتنا وتوجهاتنا لا يمكن لها أن تخولنا الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، فمن المستحيل التوفيق بين خيارات ومعايير وشروط حلف شمال الأطلسي والمشروع الأوروبي وتعارض سياسات هذين التكتلين مع سياسات تتبعها بعض الدول الإقليمية وفي مقدمتها إيران تحديدا.

أنقرة انتقلت بسرعة البرق من الوساطة السورية ـ الإسرائيلية، إلى الوساطة السورية ـ العراقية، فعلاقاتها بدمشق التي شهدت تحسنا ملحوظا منذ 9 سنوات تفرض عليها مثل هذه البادرة، خصوصا أنها تقف في طليعة المساهمين في إضعاف وتفكيك العزلة الدولية المفروضة على سورية بسبب سياساتها ومواقفها من المسألة اللبنانية وتحالفها الاستراتيجي مع إيران. لكن داود أوغلو يدرك أيضا أن حسابات الحقل قد لا تنطبق على حسابات البيدر في بعض الأحيان، وأن النظرية لا تتفق مع التطبيق والممارسة في منطقة تحمل لنا دائما الكثير من المفاجآت وما هو ليس في الحسبان.