سيدة العنب

تقاوم إغراءات المستوطنين وحيدة.. وصمدت أمام عربدتهم.. وتهديداتهم.. كي تحتفظ بأرضها كشوكة في حلق «افرات»

TT

منذ بدأت الحاجة عائشة صبيح (أم مريم) تزرع أرضها القريبة من قريتها (الخضر) في بيت لحم، قبل أكثر من 30 عاما، وهي تشاهد من بعيد، «سرطانا» مخيفا يمتد شيئا فشيئا نحو أرضها الجميلة، يبتلع الشجر والحجر، بشهية مفتوحة، ويقترب.

وأخيرا وصلت مستوطنة «افرات»، التي تقع بين بيت لحم والخليل، وتتمدد على أكثر من تلة شاهقة، إلى حدود أرضها، بل واصطدمت بها. وعلى مدار سنوات وقفت أم مريم، عاجزة، مثل شعبها وقيادته، عن وقف هذا التغول الرهيب، وراقبت بصمت جيرانها الجدد الغرباء وهم يتكاثرون، ويتطلعون إلى كل متر مربع يحيط بهم.

كبرت أم مريم (71 عاما)، وكبرت كروم العنب، التي زرعتها في أرضها، وكبرت «افرات»، حتى أصبح المستوطنون يحيطون بأرضها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا. وصار على أم مريم أن تخرج عن صمتها بعدما وصلت أطماع جيرانها إلى أرضها الصغيرة. ومنذ سنين تقاتل أم مريم وحدها هذا السرطان، هاجمها المستوطنون عدة مرات، واعتدوا عليها، وهددوها بالقتل، جربوا أن يضيقوا عليها وخربوا زرعها وسدو طرقها ومنعوا أحدا غيرها من دخول الأرض.

وعندما لم ينجحوا، عرضوا عليها مبالغ طائلة وكبيرة، وقال لها أحد جيرانها إنه سيعطيها شيكا مفتوحا، وعندما رفضت، عادوا مجددا إلى لغة العربدة والوعيد. كانت تصل أرضها قبل بداية الانتفاضة، في 10 دقائق فقط، فأصبحت تحتاج الآن ساعة كاملة، بعدما منعها المستوطنون من المرور إلى أرضها عبر بوابة المستوطنة، وعليها الآن أن تسير يوميا 4 كيلومترات في أرض وعرة وجبلية، كي تلتف حول المستوطنة، وتتجاوز البوابات المحروسة جيدا.

وقالت أم مريم، «هذه الأرض روحي، ومن دونها سأموت». أما المستوطنون فيقولون لها بعد كل اشتباك معها، بأنهم سينتصرون عليها في النهاية لأنها حتما ستموت قريبا. «تسللنا» فجرا إلى أرضها، انطلقنا بالسيارة من قريتها الصغيرة، جنوب بيت لحم، وسرنا حوالي 20 كيلومترا، من الخضر إلى بيت لحم وخلايل اللوز ثم واد رحال، وفي الحقيقة فإن أرضها لا تبعد عن منزلها سوى 3 كيلومترات، لكننا مثل غيرنا ممنوعون من عبور المستوطنة.

توقفنا في واد رحال، حيث انتهى بنا الطريق إلى صخور كبيرة، ووديان، فسرنا مشيا على الأقدام حوالي كيلومترين، قريبا من منازل المستوطنة، حتى نصل إلى أرض سيدة العنب. كان يرافقنا زوج ابنتها، أبو مرزوق، الذي كان يدعو الله طوال الطريق أن لا يمر حرس المستوطنة، وهو يقول إنه لم يدخل هذه الأرض منذ سنين بعدما منع غير مرة. في الطريق قال لنا إن أم مريم أوصته خيرا بالأرض بعد موتها، ومضى يقول «بس أنا عندي 4 شباب وين بدهم ييجوا.. والله بطخوهم وما بنعرف عنهم».

عبرنا ونحن نمشي طرقا التفافية، خصصت للمستوطنين فقط، وأخرى كانت قيد التنفيذ، وتجنبنا طرقا قد ينكشف فيها أمرنا، فحرس المستوطنة لا يحب «الزوار الغرباء» فما بالك بصحافيين. شاهدنا بوابات حديدية كبيرة لم تعمل بعد، ومشاريع بنى تحتية، تشي بأن الإسرائيليين يخططون لتوسيع «افرات» وضم أراض عربية لها، بينها أرض أم مريم، الأرض الوحيدة التي ظلت خضراء في مساحة قاحلة. مررنا من فتحة ضيقة بجانب بوابة حديدية إلى شارع صغير ترابي، ثم إلى أرض الحاجة عائشة، كانت هي سبقتنا منذ الرابعة صباحا ولم تشأ أن تنتظر، وجدناها تعمل وتسقي وتقطف مزيدا من العنب، من دون أن يساعدها أحد.

بدت أرضها أشبه، بشوكة في حلق «افرات»، وبدا المشهد مذهلا إلى حد كبير، إذ لا يفصل بين أرضها ومنازل المستوطنين أي حدود، اللهم سوى نصف متر، وكان يستطيع أي منا أن يقفز إلى بيت أي من المستوطنين، والعكس. في هذه الأرض، تكتشف إلى أي حد يبدو الصراع منصبا على كل حجر، وهو صراع مختلف عما يدور في الحرب السياسية بين الطرفين، أو على طاولة المفاوضات. وعلى مدى ما تراه الأعين، تمتد المستوطنة التي يقول الإسرائيليون إنهم لن يغادروها، حتى في حال أي اتفاق مع الفلسطينيين.

وعادة يعرف الإسرائيليون جيدا أين يقيمون مستوطناتهم الكبيرة، إنها دوما تحتل أعلى وأجمل جبال في الضفة الغربية، ومن أجل حماية هذه المستوطنات، فإنهم يحولون محيط هذه الجبال إلى محميات يمنع الفلسطينيون من دخولها. وتبقى هذه المحميات، «تحت الطلب» بهدف توسيع المستوطنة في أي زمن، وشق شوارع وأنفاق جديدة لها.

وتحتاج هذه المستوطنات التي تحول بعضها إلى مدن أكبر من مدن الفلسطينيين أنفسهم إلى حراسة مستمرة، فيأخذ الجيش عدة مواقع له ويرفع عددا من أبراج المراقبة، ويضع البوابات الإلكترونية، هذا غير الحرس الخاص بالمستوطنة. ولم تنفع كل محاولات المستوطنين بطرد الحاجة عائشة من أرضها، واشتبكت أم مريم مع المستوطنين عدة مرات، وتتذكر، «الله يكسرهم، هجموا علي عدة مرات، وغلطوا علي وخربولي الأرض، بدهم اياني اتعب وازهق واترك». ودافعت أم مريم عن نفسها بما تملك من أدوات الأرض، وهاجمتهم مرة بالفأس، وكلما خربوا كرما أعادت زرعه، وكلما هدموا حدا أقامته من جديد، وكلما كسروا بوابة صنعت غيرها. منطقها بسيط ومدهش، تقول «أنا حابه استشهد هان بين العنبات، ومش خايفة إلا من اللي خلقني».

وموقف أم مريم صلب إلى حد لا يتزحزح، فقد فشل المستوطنون كذلك بإقناعها ببيع أرضها، وقالت «عرضوا علي شيك مفتوح، قالولي، بنعطيك شيك مفتوح بنعطيكي شو بدك، والله لو بدي مصاري لصار عندي شوالات».

تواصل قطف العنب، وتواصل الحديث معنا، «بس أنا ما ببيع ديني وراح أعيش وأموت شريفة، زي أبوي وأمي» وتسأل «أنت بترضالي أبيعهم يعني». أرسل لها المستوطنون بعد أن وصلوا معها لطريق مسدود «وسطاء»، واتصلوا بشقيقها أبو همام الذي يعمل في إحدى المستوطنات الأخرى، وعرضوا عليه مبالغ طائلة مقابل إقناعها بالبيع، دون نتيجة.

وقالت الحاجة عائشة وهي تشير إلى منازل المستوطنين القريبة، «والله لو حطوا مصاري اليهود والمسلمين والمسيحيين، ما بعتهم هذي الأرض.. هذي روحي وأنا تعبت فيها». وأضافت، «يا بني التعب عنبر». سألتها لماذا تتحمل كل هذه المشقة يوميا، فردت ببساطة الفلاحة، «هذي أرضي، قطعة مني، بدي اطمن عليها كل يوم، إذا بغيب بخربوها، وانا راح اظل شوكة في حلوقهم، وما يوخذوها وأنا عايشة». أصبحوا أخيرا يصفونها «بالمجنونة»، وقالت، «احكولي انتي مجنونة ما عندك مخ، بيعي وصيري غنية واشتري قصر وسيارة وكلي كباب وسافري»، فقلت لهم: «والله لو بوكل كل يوم من عروق الشجر ما ببيع».

وكلما شاهدها أحد المستوطنين في أرضها، قال لها، انتي قربتي تموتي وراح نوخذ منك الأرض». أما هي، فترد عليهم، بطريقة استفزازية، «أنا صرت اقرأ بالفنجان، وراح أعيش كمان 200 سنة أخرى، وراح تموتوا قبلي».

لكنها في حقيقة الأمر تبدي قلقا كبيرا على أرضها بعد وفاتها، وقالت «راح تروح.. أنا بعرف ما حد راح يصلها من الخوف». وبسبب الإجراءات والمنغصات الإسرائيلية الكثيرة، فإن أم مريم، تحول عنبها إلى «زبيب»، إذ لا تستطيع، بسبب عمرها أن تنقل كميات من العنب مشيا على الأقدام لمسافة كيلومترين، ولذلك فهي تفضل أن تحول العنب إلى زبيب. وقالت «إنهم يمنعون أي سيارة من الوصول إلى المكان، وأنا كبيرة ما بقدر». وتمتد أرض الحاجة عائشة على مساحة 15 دونما، وبسبب نقص المياه ماتت بعض الأشجار التي تعتمد على السقاية الدائمة. شاهدنا مساحات من أرضها فيها أشجار مخلوعة، وقالت ابنتها آمنة «هذه خلعها المستوطنون، أما هذه فخلعتها أمي بعد أن زرعها المستوطنون، فهم جربوا كذلك أن يزرعوا شجرا في أرضها، حتى يضعوا يدهم عليها».

بعد ساعة من الحديث، أي حوالي في السابعة صباحا، وصل «أبو منذر» ومعه حماره، وعرفنا أن أم مريم تنقل العنب بواسطة هذا الحمار، من أرضها إلى واد رحال، ومن ثم تنقل حمولتها إلى سيارات ومن ثم إلى بيتها في الخضر. والحمار هو الوسيلة الوحيدة الممكنة كل 3 أيام، ويأتي أبو منذر الذي يسكن على بعد 3 كيلومترات من المنطقة، لمساعدة أم مريم، لكنه لا يستطيع ذلك يوميا بسبب مشاغله، وتجنبا لمشاكل المستوطنين.

وقال أبو منذر، «طردوني أكثر من مرة، ولا يسمحوا لنا بالوصول إلى هنا إلا عند وجود الحاجة عايشة، وعليها أن تطلب إذنا من الإسرائيليين من أجل مجيئنا». سألها أبو منذر إذا ما كانت انتهت، لأنه يريد أن يعود سريعا، فقالت له «بدي نص ساعة كمان.. روح لقط عنب لولادك»، وكلما أمسكت قطفا كبيرا، أصرت على أن نتذوق، ما ألذ هذا العنب، الذي يتحول إلى زبيب بدل أن يباع.

وقال زوج ابنتها أبو مرزوق، لو نستطيع لاشترينا لها «تركتور» باسمها، لكن ما باليد حيلة. وتابع ساخرا، «يعني لم يقدم لها أي مسؤول أو أي جهة أي دعم، ألا تستحق دعما لها وهي تواجه وحدها مستوطنة كاملة».

ولا تأمل أم مريم من المسؤولين أن يقدموا لها الدعم اللازم، والتزمت الصمت عندما تحدث أبو مرزوق حول ذلك، وكأنها تعتقد أن حديثه بلا طائل. لكنها أشارت إلى أنها لا تجني أرباحا من عملية زرع وبيع العنب، ولا تسعى لذلك، وإنما فقط تريد أن ترى، الأرض كما هي «خضراء»، وهذا جل همها.

فجأة، شعر أبو منذر وأبو مرزوق بقلق شديد، ونهضت الحاجة عائشة التي كانت تقلم قطوف العنب، مع سماع صوت سيارة قادمة من بعيد، إنهم «البيتاحون» كما يطلق عليهم بالعبرية، أي الحرس الخاص بالمستوطنة. وصل أحدهم فعلا، وتوقف بسيارته البيضاء «الونيت» أمام الأرض، وعلا صوته وهو يسأل عن سبب هذا التجمع، أخبرناه أننا نريد مساعدة الحاجة عائشة، وتجنبنا القول بأننا صحافيون، حتى لا نثير إشكالية محتمله أخرى، مع امرأة «مثيرة للمشاكل».

لم يقتنع تماما بما قلناه، وطلب منا أن نغادر سريعا، على أن تبقى هي، فقلنا له إننا سنفعل بعد قليل، وذهب، وأخبرنا أنه سيعود. وقال أبو منذر «لولا وجود الحاجة عايشة الآن لطردنا فورا، بس هم بخافوا منها». وبسبب الرحلة الشاقة من منزلها إلى أرضها، تضطر أم مريم للمبيت أحيانا عند عائلة أبو منذر، وقال «بتنام عندنا حتى تظل قريبة من أرضها وتصل إليها في وقت مبكر».

وقالت أم مريم، «في الثلج والبرد والمطر كنت اجي اطمن على الأرض»، وتابعت، «والله كنت اجي انام فيها مرات، واصلي الفجر هان». تبتسم، عندما نقول لها انها إذن «شيّبت» المستوطنين، وتفاخر بأنها الوحيدة التي لم تترك أرضها من بين بعض أصحاب الأراضي القريبة، وأشارت إلى بعض مساحات الأراضي البور، وقالت «انظر، تركها أصحابها بسبب المستوطنين».

وقال أبو منذر، وهو يشير إلى أرض محددة، «هذه أعطاني إياها صاحبها وقال لي احرثها إذا استطعت ولا أريد منها شيئا، لأنه لم يتحمل مشقة الوصول إلى هنا ومواجهة المستوطنين». وفي عام 1975، بدأ العمل في مستوطنة «افرات» وهي تقع إلى الجنوب من القدس، بين بيت لحم والخليل، جنوب الضفة الغربية وعلى طول الطريق الطويل من بيت لحم إلى الخليل يمكن مشاهد سلسلة متعانقة من البيوت تجثم فوق جبال المنطقة.

وعلى الرغم من أنها تقع ضمن تجمع مستوطنات، «غوش عتصيون» فإنها مستقلة بذاتها عن هذا المجلس الاستيطاني.

وقبل 6 شهور أعلن في إسرائيل عن خطة لتوسيع المستوطنة الأكبر في تجمع «غوش عتصيون»، والتي يعيش فيها 9 آلاف مستوطن. ويريد مجلس «افرات» الحصول على التصاريح اللازمة لبناء 2500 وحدة سكنية أخرى على تلة «عيتام» وهي تلة من بين سبع تلال تجثم فوقها المستوطنة. ومنذ عام، نظم مستوطنون من «افرات» والقدس والخليل، حجيجا متكررا إلى الأراضي القريبة بهدف أن تضم أيضا إلى داخل مسار جدار الفصل، الذي لم يبن بعد في هذه المنطقة. ومن بين التلال التي تجثم فوقها «افرات»، ريمون (الرمان)، غيفن (العنب)، ديكل (النخيل)، زايت (زيت الزيتون)، وداغان، (الحبوب).

وأشار أبو مرزوق وأبو منذر إلى خط مفترض للجدار، وإذا ما بني فعلا كما يقولون، فهذا يعني أن أرض الحاجة عائشة ستصبح جزءا من المستوطنة، أي داخل الجدار من جهة إسرائيل. وتثير المستوطنات خلافا كبيرا بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وكان الرئيس الفلسطيني قال إنه لن يستأنف المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية دون وقف بناء المستوطنات.

ويعيش نحو 300 ألف إسرائيلي في أكثر من مائة مستوطنة في الضفة الغربية، كما يقيم 200 ألف آخرون في القدس الشرقية العربية وهي أراض يقطنها نحو 2.5 مليون فلسطيني. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه لن يبني مستوطنات جديدة ولكنه يريد توسيع بعض المستوطنات القائمة بالفعل لاستيعاب ما يصفه «بالنمو الطبيعي» للسكان، وهذا أمر لن يناقش فيه. وترى محكمة العدل الدولية إنه تماشيا مع القانون الدولي بما في ذلك اتفاقات جنيف فإن المستوطنات غير مشروعة، وهو حكم ترفضه إسرائيل. وعلى مدار عشرات السنين، لم تُقم الحاجة عائشة أي علاقات جيدة مع أحد من جيرانها اليهود، بل إن تعاطف زوجين مسنين معها كانا يمدانها بالماء لم يدم طويلا، وتقرر لاحقا منع تزويدها بأي شيء من المستوطنة. ولا غرابة في ذلك، إذا ما عرفنا أن معظم سكان المستوطنات في الضفة هم من المتشددين الذين يسكنون فيها تأكيدا على حق إسرائيل في هذه الأرض التي يسمونها (يهودا والسامرة). وتلجأ أم مريم إلى نقل الماء والرشوش التي تحتاجها في سقاية أو رش المزروعات، عبر الوسيلة الوحيدة المتاحة لها في النقل، الحمير. وعندما تطلب تنسيقا كي تستطيع أن تدخل المواد اللازمة إلى أرضها بالسيارة، يمنعها الإسرائيليون، فتضطر لاستخدام أكثر من حمار لنقل الكميات اللازمة من الرشوش والماء.

لم تطلب أثناء وجودنا مساعدة من أحد وكأنها تعودت أن تعمل وحيدة، منذ توفي زوجها دهسا بسيارة أحد المستوطنين على الطريق السريع بين بيت لحم والخليل في 2002. ولم تنجب الحاجة عائشة غير 3 بنات، واحدة توفيت، وواحدة في عمان، والثالثة تعيش قريبا منها في الخضر. ولا ترغب الحاجة عائشة في ميتة مشابهة لزوجها، أو عادية، بل هنا بين زرعها الأخضر، كي تبقى، حتى بعد موتها، «شوكة في حلق افرات».