كابل في الليل

شوارع مظلمة وقطاع طرق وشبح طالبان يلاحق السكان.. وحفلات خاصة في المنازل

موسيقيون أفغان يعزفون في حفل بأحد المنازل حيث يتقاضون 100 دولار في الليلة لعزف الموسيقى الشعبية الأفغانية (أ.ف.ب)
TT

إذا كنت من زائري العاصمة الأفغانية كابل لأول مرة فعليك التخلي عن كثير من العادات التي تعودت عليها في بلادك، وإياك التفكير في السهرات والتجوال الليلي، فأقل ما يقال عن شوارع هذه المدينة، التي كانت تسمي ذات يوم «ببندقية آسيا» تشبيها بمدينة البندقية بإيطاليا لجمالها وروعة طبيعتها وطقسها المتوازن، إنها مظلمة بكل ما تعني الكلمة من معنى، فالكهرباء تكاد تكون معدومة، كما أن حركة المرور تتوقف بعد الساعة الثامنة مساء بالتوقيت المحلي، اللهم إلا أصوات سيارات الشرطة التي تتجول في شوارعها، بينما يلتزم قاطنو هذه المدينة المحاطة بالجبال بيوتهم لأسباب كثيرة أهمها أمنية، فالمدينة باتت مطمع العصابات الإجرامية وقُطّاع الطرق واللصوص قبل أن تصبح هدفا لمقاتلي طالبان، الذين يتخندقون على حدودها في كل من ولايتي وردك ولوجر جنوب العاصمة كابل.

السلطات الأمنية الأفغانية على لسان أكثر من مسؤول من وزارة الداخلية، أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن معظم حوادث السرقة وعمليات الخطف وحتى القتل تتم من خلال الليل لعدم وجود مقرات كافية للشرطة وعناصر الأمن داخل الأحياء السكنية التي بنيت بطريقة عشوائية وشكل غير منتظم، وبالتالي من الصعوبة بمكان مراقبة هذه الأحياء التي تفتقر إلى الخدمات الأساسية من الكهرباء والطرق المعبدة وحتى المياه الصالحة للشرب.

وتقول الداخلية الأفغانية إنها اعتقلت العشرات من المجموعات المسلحة التي كانت تقوم بزعزعة أمن العاصمة أثناء الليل مستفيدة من الظلام وقلة إمكانيات الشرطة، وكانت هذه المجموعات مسؤولة عن مئات القضايا المتعلقة بعمليات الخطف التي تعرض لها أبناء الأثرياء ورجال الأعمال والتجار وحتى الأجانب مقابل الحصول على فدية مالية أو ما يعرف بالربح السريع في أفغانستان الجديدة ما بعد نظام طالبان.

يقول عبد العزيز مجيدي، 34 عاما، وهو سائق سيارة أجرة، إنه يخاف على حياته عندما يخرج للعمل خاصة أثناء تنقله في الشوارع المظلمة وبين أزقة مدينة كابل، لكنه يقول إنه مضطر للخروج أثناء الليل لسد نفقات العائلة المكونة من اثني عشر فردا. فيما يقول أحمد رشيد، وهو سائق تاكسي أيضا وسط مدينة كابل، إنه يرجع إلى منزله بمجرد أن يحل الظلام خوفا على سيارته من أن تؤخذ منه عنوة من قبل المسلحين أو الركاب الذين لا يمكن التمييز بينهم وبين أعضاء العصابات الإجرامية في ظلام الليل.

ويضيف رشيد «لا يمكنك أن تعرف ماذا يخفي ذلك الراكب تحت عباءته أو تحت ردائه الأفغاني الذي يعرف باسم (بتو) ويستعمله معظم الأفغان». ويقول رشيد إن الكثيرين يحملون مسدسات أثناء الليل ولا يمكن للشرطة تفتيش الجميع، وبالتالي فإن الحيطة والحذر ضروريان في عاصمة تفتقر شوارعها إلى أعمدة الإنارة التي خاصمتها الكهرباء منذ سنوات كثيرة.

وعلى الرغم من مضي ثماني سنوات على الوجود الأجنبي ووجود آلاف من القوات الدولية تحت مظلة قوات «الإيساف» لإرساء الأمن والاستقرار في البلاد، فإن هاجس الخوف وعدم الاستقرار لا يزالان يخيمان على الشارع الأفغاني، فالأمن يكاد يكون منعدما في مدينة باتت تتحول تدريجيا إلى ثكنة عسكرية بفعل وجود قواعد عسكرية تابعة للقوات الدولية وسط كابل، الأمر الذي زاد الطين بلة، حيث أغلقت معظم الشوارع الرئيسية أمام حركة المرور لدواع أمنية من قبل قوات التحالف الدولي، ناهيك عما قامت به الوزارات ومقرات حكومية من استخدام الحواجز الإسمنتية وذلك بعد أن تعرضت بعض المقرات الحكومية وحتى تلك التابعة للقوات الأطلسية لهجمات انتحارية من قبل مسلحي طالبان، على الرغم من جميع الإجراءات الأمنية المتخذة حول العاصمة كابل. إلى جانب تهديدات قطاع الطرق واللصوص، فحركة طالبان التي عادت إلى الساحة الأفغانية مجددا بعد ثماني سنوات من سقوطها عام 2001، فرضت نفسها وبكل قوة مجددا على المسرح الأفغاني المتقلب، فمسلحو الحركة باتوا يهددون العاصمة كابل بين الفينة والأخرى بعمليات انتحارية ينفذونها، أو بإطلاق صواريخ عشوائية من أماكن قريبة جدا على قلب مدينة كابل، إضافة إلى قيامهم بعمليات اغتيال منظمة في صفوف المسؤولين الحكوميين.. فعلى سبيل المثال اغتيال حاكم إقليم لوجر عبد الله وردك وسط كابل العام الماضي، وكذلك مقتل حاجي عبد القدير وزير الشؤون الاجتماعية، في وضح النهار عام 2003، من الاختراقات الأمنية الواضحة التي قامت المجموعات المسلحة بتنفيذها بسهولة في العاصمة الأفغانية.

وفي الأساس كانت العاصمة كابل تتسع إلى مليون ونصف المليون نسمة، لكن سكانها الآن في أفغانستان ما بعد طالبان وصل عددهم إلى ما يقارب خمسة ملايين ونصف المليون نسمة، وهذا التجمع السكاني في كابل جاء على خلفية تدهور الوضع الأمني في باقي المحافظات الأفغانية حيث يفضل الأفغان الانتقال إلى العاصمة التي تعد متحصنة نوعا ما مقارنة مع باقي المناطق، وذلك بسبب وجود مكثف للقوات الدولية المتمثلة في قوات «الإيساف» لإرساء الأمن والاستقرار. وهناك أسباب أخرى للكثافة السكانية لمدينة كابل تتمثل في وجود فرص عمل وتوافر الخدمات الأولية للحياة فيها، فيما تفتقر باقي المدن الأفغانية لهذه المواصفات. ومدينة كابل لها أربعة أبواب جميعها تقع تحت مرمى مسلحي طالبان باعتبار أن الحركة موجودة على جنبات الطرق الرئيسية والمؤدية إلى العاصمة الأفغانية، فمن الناحية الجنوبية تقع ولاية لوجر ذات الأغلبية الباشتونية، حيث تنشط فيها طالبان بحرية تامة، وإلى الجنوب الغربي تقع محافظة ورداك وهي الأخرى تخضع لتهديدات طالبان، أما إلى شرق العاصمة فبلدة سروبي التابعة لولاية كابل، وهي التي شهدت مقتل عشرة جنود فرنسيين في يوم واحد على يد مسلحي طالبان العام الماضي.

ويقول سكان وشهود عيان من بلدة باغمان الواقعة باتجاه شمال غربي كابل إنهم يشاهدون مقاتلي طالبان وهم مدججون بأسلحة ثقيلة وخفيفة يعبرون حدود ولاية وردك ليلا ثم يتجولون بكل حرية في شوارع العاصمة كابل، وفي النهار يختفون ثم يعودون في الليل مرة أخرى يفرضون سطوتهم على شوارع العاصمة الدامسة الظلام.. إنهم حكام كابل بالليل. وهذه الأخبار وغيرها من الحوادث الإجرامية التي تكررت في كابل جعلت من سكان هذه المدينة يقلقون على حياتهم ومستقبل أطفالهم، وهم يطالبون الحكومة الأفغانية والقوات الدولية المنتشرة في مدينتهم بجهود مبذولة لإعادة الأمن إليها وعلى الأقل إذا كان ذلك مستحيلا لولاية هلمند المتوترة مثلما، يقول أحمد شاه أحد سكان كابل. وثمة مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن تهديدات العصابات الإجرامية التي تخصصت في خطف الأجانب وميسوري الحال من التجار أو الإعلاميين أو سلب سياراتهم ليلا عند تقاطع الطرق بالإضافة إلى تهديدات مقاتلي طالبان الذين يستبيحون العاصمة بالليل، حيث إن الشرطة الأفغانية هي الأخرى توضع في خانة الاتهام من قبل سكان مدينة كابل الذين يقولون إن العصابات المشبوهة لا يمكنها القيام بأي عمل مخل بالأمن والقانون، لو لم يكن هناك تواطؤ، أو حتى تنسيق، بين هذه العصابات وعناصر الشرطة الأفغانية، على الرغم من نفي هذه الاتهامات من قبل الداخلية الأفغانية التي اعترفت بوجود مشاكل في جهاز الشرطة الذي لم ينضج مقارنة مع الجيش الأفغاني الذي لقي اهتماما دوليا كبيرا من قبل التدريب والتجنيد وتخريج الكفاءات المؤهلة من الأكاديمية العسكرية القريبة من بول شارجي على أطراف كابل.

خلاصة القول إن ظلام شوارع العاصمة الأفغانية كابل الناتج عن عدم وجود الكهرباء، بعد مضي ثماني سنوات من الوعود الدولية وتدفق عشرات المليارات من الدولارات من الدول المانحة، إضافة إلى وجود مجموعات مسلحة وعصابات مجرمة من الخاطفين، مع استمرار التهديد المباشر من قبل مسلحي طالبان والمجموعات المناوئة للحكومة الأفغانية والقوات الدولية، مما جعل من العاصمة الأفغانية كابل من الأماكن الخطرة في أفغانستان، وجعل الأجانب والإعلاميين يأخذون أكثر من غيرهم حذرهم كلما هموا بالخرج من الفنادق أو المضايف للقاء مسؤول، أو إجراء تحقيق صحافي عن الحياة في عاصمة الأفغان، وهذه الأمور أيضا حرمت على سكان كابل حياة سعيدة طالما حلموا بها وتمنوها، وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة للوضع الأمني والخدمات الأساسية للعاصمة الأفغانية كابل فإن النشاط يدب فيها أثناء النهار وتعج شوارعها بالمارة وأسواقها الضيقة وغير المنتظمة بالمتسوقين الآن، وفي العاصمة كابل على الرغم شوارعها الضيقة ووجود مطبات وحفر فيها، فإنك إن زرتها ستجد فيها آخر موديلات السيارات الفخمة تصول وتجول فيها بشكل غير منظم، وجميع أنواع السيارات وموديلاتها الحديثة الموجودة في كابل الآن بعد رحيل طالبان هي إما للقوات الأجنبية المنتشرة في هذه المدينة، أو تابعة للمؤسسات الأممية التي جاءت لمساعدة الشعب الأفغاني، أو تابعة لمكاتب ممثلية الأمم المتحدة في كابل.

ولرجال الأعمال والتجار الأفغان وقدامى المجاهدين نصيب في السيارات الفخمة، غير أن لوردات الحرب لهم النصيب الأوفر والأكبر في حيازة مثل هذه السيارات في عاصمة تفتقر إلى شوارع حديثة. يقول عبد الخالق، 40 عاما، وهو موظف حكومي في وزارة الزراعة الأفغانية الواقعة غربي العاصمة كابل، إنه منذ خمسة عشر عاما يعمل في هذه الوزارة، حيث يستخدم دراجته الهوائية للوصول إلى مكان عمله كل يوم، لكنه منذ خمس سنوات لا يستطيع الخروج بدراجته بسبب الخوف على حياته من الدهس من قبل أصحاب السيارات الفخمة، حسب قوله. كما يشتكي المارة من مشاكل جمة يواجهونها أثناء عبورهم للشوارع بسبب السيارات الفخمة التي لا يحترم سائقوها حق المارة في العبور واستخدم الشوارع.