اليهود المغاربة: من اسطوانة غنائية.. إلى مطبخ السياسة

معظمهم هاجروا إلى إسرائيل لكن بعضهم شرعوا في العودة واشتروا منازل في الصويرة ومراكش

يهود المغرب.. تاريخ طويل من الانخراط السياسي والاجتماعي والثقافي بين المغرب وإسرائيل («الشرق الأوسط»)
TT

هناك أربعة مشاهد يمكن أن تساعد كثيرا في فهم «المسألة اليهودية» في المغرب. أربعة مشاهد لا رابط بينها سواء أن «يهود المغرب» كانوا في قلب الحدث، أو أنهم هم من صنعوه أو كانوا طرفا فيه.

المشهد الأول كان عام 1973، وكانت حكايته تتعلق باسطوانة غنائية.

والمشهد الثاني جرى عام 1986 في مدينة أفران التي تقع فوق جبال الأطلس المتوسط في وسط المغرب.

والمشهد الثالث كان في الدار البيضاء عام 2003.

أما المشهد الرابع فتجري وقائعه هذه الأيام بين بعض المدن المغربية.

قبل الخوض في تفاصيل المشاهد الأربعة. أو شيئا من الماضي لفهم الحاضر، نشير إلى أن هناك تضاربا الآن حول عدد اليهود المغاربة الذين بقوا في بلادهم ولم يغادروها سواء إلى إسرائيل أو فرنسا وكندا وأميركا. وفي هذا الصدد يقول أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، إن آخر إحصاء جرى لليهود المغاربة في عام 2003 يضع عددهم ما بين 4000 و5000 يهودي، يقيم معظمهم في الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للبلاد. لكن تقديرات حديثة جرت هذه السنة وضعت الرقم في حدود 10 آلاف، وتبين أن عددا كبيرا من اليهود المغاربة من كبار السن خاصة في إسرائيل وكندا قرروا العودة إلى بلدهم الأصلي للتمتع بسنوات تقاعد ويعيشون مع ذكريات الماضي وأيام الطفولة قبل هجرتهم. ويقول أندري أزولاي إن عدد اليهود المغاربة كان في حدود 300 ألف عام 1960 مشيرا إلى أنهم هاجروا إلى مختلف بقاع العالم لكنهم لم ينسوا أو يخفوا ثقافة بلدهم الأصلي حتى بين أفراد الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين. وكانت مسألة عدد اليهود المغاربة الذين لا يزالون يعيشون في المغرب من الأمور التي لا يتم التطرق إليها إلا لماماً وفي مرات نادرة، ذلك أن القوانين المغربية لا تفرق بين المواطنين على أساس ديني كما أن جميع الأوراق الرسمية لا تشير مطلقا إلى مسألة الدين. وخفت في الآونة الأخيرة إسهام اليهود المغاربة في الحياة العامة في البلاد خصوصا في المجال السياسي وكان آخر يهودي يتولى منصبا رفيعا هو سيرج بريديغو الذي شغل منصب وزير السياحة في عام 1994، ولا يوجد الآن سوى أندري أزولاي في دائرة صنع القرار. ويتوزع اليهود ما بين الدار البيضاء والرباط وهناك أعداد قليلة أخرى في مدن مراكش وفاس وأغادير وطنجة والصويرة. وفي الرباط تقلص كثيرا عدد اليهود الدين كانوا يعملون في التجارة منذ عقود.

ومنذ سنوات والتكهنات تترى حول هجرة ما تبقى من اليهود المغاربة إما إلى إسرائيل أو في اتجاه كندا والولايات المتحدة، وأنهم لهذا الغرض شرعوا في بيع ممتلكاتهم، وأن إسرائيل ستطالب المغرب بتسليمها الممتلكات اليهودية. وفي هذا الصدد يقول أستاذ التاريخ والقيادي السابق في حزب التقدم والاشتراكية شيمعون ليفي، والذي يدير الآن في الدار البيضاء مؤسسة التراث اليهودي «طرح هذه القضية في المغرب من قبيل الخرافة، لأنه لا توجد أي إشكالات سياسية بين اليهود المغاربة وباقي المواطنين، ثم إن ممتلكات اليهود المغاربة تتمثل في دور العبادة ومدارس التلمود (المدارس الدينية) والأضرحة والمقابر والأندية، وكل هذه ملكية جماعية تشرف عليها جهات مختصة في مجلس الطوائف اليهودية، بإشراف وتمويل حكومي في بعض الأحيان» ويضيف ليفي «نحن اليهود المغاربة ومن خلال مؤسسة التراث اليهودي نقوم حاليا بترميمها، وبالتالي فإن ما يقال عن مطالبة المغرب بالممتلكات اليهودية لا يعدو أن يكون خرافة... وما هو مؤكد أن اليهود المغاربة في إسرائيل يقومون حاليا بشراء منازل لهم في مراكش والصويرة وغيرها من المدن المغربية التي كانوا يعيشون فيها قبل تهجيرهم لأن في هذه المدن توجد مقابر آبائهم وأجدادهم، ومنهم من أصبح معتادا تمضية عطلته في المغرب وهناك من يرغب في العودة والاستقرار في بلده الأصلي». نعود الآن إلى المشهد الأول الذي جرى عام 1973، مباشرة بعد حرب أكتوبر. تلك الحرب أحدثت رجة سياسية كبيرة داخل إسرائيل، وبدا وقتها أن العرب فعلا بإمكانهم حسم النزاع العربي الإسرائيلي «سلما أو حربا» هذه الفكرة قضت مضجع الإسرائيليين كما لم يحدث قط من قبل طوال سنوات الصراع.

وفي خضم تلك الحالة نشرت تقارير صحافية تشير إلى أن معظم اليهود المغاربة، وكانوا في حدود 400 ألف أيامئذٍ في إسرائيل، يعيشون في ظل ظروف اقتصادية صعبة أدت إلى أن كثيرين منهم فكر في العودة إلى المغرب، خاصة أن القانون المغربي لا يسقط الجنسية عن أي كان. وبسبب حالة «التمزق النفسي» هذه وسط اليهود المغاربة، سيطلب قادة منظمة التحرير الفلسطينية في اتصالات متكتمة أن يوجه الملك الحسن الثاني ملك المغرب نداء إلى اليهود المغاربة بالعودة إلى وطنهم، أو على الأقل تنقل عنه رسالة بهذا المعنى. لم يوجه الملك الحسن الثاني النداء المطلوب آنذاك لأن الأوضاع السياسية بالإضافة إلى المناخ السياسي الداخلي، لم تكن تسمح له بتوجيه «نداء العودة» لكنه سيفعل ذلك بعد سنوات للعودة، حيث طلب منهم في مطلع الثمانينات الابتعاد عن تكتل الليكود المتطرف، وكان من بين أشهر زعمائه وزير الخارجية الأسبق ديفيد ليفي وهو يهودي مغربي لا يزال منزله قائما في مدينة الرباط العتيقة. لكن مشهد عام 1973 لا يمكن فهمه إلا بالإشارة إلى مسألة ذات أهمية بالغة في سياقها التاريخي والتي كانت تعكس حالة اليهود المغاربة. هذه المسألة هي حصول اسطوانة يغنيها يهودي مغربي من أبناء الجيل الثاني الذي عاش في إسرائيل ونالت جائزة الاسطوانة الأولى من حيث الرواج يقول مطلعها بالعامية المغربية «أريد الباسبور.. ولبلادي نزور». ومعناها أنني أريد جواز السفر من أجل زيارة بلادي، والبلاد هنا هي بالطبع المغرب.

المشهد الثاني جرت وقائعه صيف عام 1986 عندما فاجأ الملك الحسن الثاني العالم بأول استقبال رسمي لرئيس الحكومة الإسرائيلية شيمعون بيريس في بلد عربي، بعد مصر التي كانت تصالحت مع إسرائيل بعد اتفاقيات كامب ديفيد. ذلك اللقاء يحتاج إلى الكثير من التفاصيل، إذ كانت المرة الأولى الذي يتضح فيها أن «اليهود المغاربة» في إسرائيل لم يعد يكتفون بترديد أغاني الحنين لبلادهم، بل راحوا يسعون لمد جسور سياسية بين المغرب وإسرائيل.

حين زار الرئيس المصري أنور السادات القدس عام 1977 تردد حديث هامس عقب الزيارة عن اتصالات جرت في المغرب بين مسؤولين مصريين وإسرائيليين للتحضير للزيارة الشهيرة. إلا أن تلك الأنباء لاحقتها بيانات نفي مستمرة من قبل المغاربة والمصريين. وكان الموقف المغربي أيامئذ يرى في الزيارة «خطوة قد تسفر عن نتائج إيجابية بشأن ما اصطلح على تسميته بأزمة الشرق الأوسط».

وسيتضح لاحقا أن الكلام الهامس كان هو الحقيقة بعينها. ولم تحذ الرباط حذو بعض العواصم العربية التي سارعت إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع القاهرة بعد زيارة القدس وظل السفير المصري في مكتبه في شارع الجزائر في وسط الرباط يمارس مهامه بكيفية عادية وبنشاط ملحوظ حتى تم توقيع اتفاقيات كامب دايفيد عام 1979. وبعد محادثات كامب دايفيد التي استمرت 11 يوما، عرج الرئيس السادات على الرباط في طريق عودته إلى القاهرة. يومها لوحظ أن استقبال السادات في العاصمة المغربية كان فاترا، وكانت تلك أول إشارة حول تراجع المغرب عن الوقوف إلى جانبه. وحين عقد السادات مؤتمرا صحافيا في فندق هيلتون الرباط ليتحدث عن اتفاقيات كامب دايفيد استشاط غضبا حين سأله أحد الصحافيين المغاربة حول مدى مطابقة اتفاقيات كامب دايفيد مع قرارات قمة الرباط عام 1974 والتي نصت على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وكان جواب السادات على ذلك بقوله: «أنا هنا في الرباط لأؤكد أن اتفاقيات كامب دايفيد تتطابق مع مقررات قمة الرباط». ولم تقنع تلك الإجابة أحدا. وحين عقدت قمة بغداد عام 1979 التي اتخذت قرار عزل مصر ومقاطعتها عربيا، شارك محمد بوستة وزير خارجية المغرب في ذلك الوقت في التوقيع على مقررات القمة وكان ذلك يعني حتما أن يحزم السفير المصري في الرباط حقائبه ويعود إلى القاهرة. والمفارقة أنه لم يبق هناك طويلا، إذ تزامنت عودته مع حيرة السادات في اختيار سفير مصري إلى تل أبيب، ولم يجد سوى هذا السفير العائد من الرباط ليقوم بهذه المهمة. بعدها عاد الملك الحسن الثاني يدعو إلى ما كان قد دعا إليه عام 1958 خلال زيارته إلى لبنان وكان أيامئذ وليا للعهد، أي «الحوار والتعايش» بين العرب وإسرائيل. وفي يونيو (حزيران) 1981، وقبل انعقاد قمة فاس الأولى، تحدث الحسن الثاني بصراحة خلال ندوة صحافية داعيا إلى حوار مباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون تدخل أية جهة عربية أو أجنبية. وقال إن الدولة التي تتمكن من جمع الفريقين في غرفة مغلقة ستكون قد أسدت أكبر خدمة للعرب. وفي تلك الندوة كان على الحسن الثاني أن يعود إلى موضوع زيارة تردد أن شيمعون بيريس زعيم المعارضة العمالية آنذاك قام بها إلى مدينة مراكش، وأكد الحسن الثاني النفي الذي كانت وزارة الإعلام المغربية قد أصدرته، لكنه أضاف جملة ذات دلالة حين قال «المغرب دولة ذات سيادة وهي مستقلة ولها الحق في اتخاذ أي قرار، ولا يمكن أن يكون هذا القرار مضرا بمصلحة الآخرين». ولم تترك التطورات المتلاحقة مجالا للاجتهاد. فقد عقدت قمة فاس الثانية وتمكن العرب للمرة الأولى من الوصول إلى صيغة جماعية تحدد رؤيتهم إلى إيجاد حل سلمي لنزاع الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية. وهكذا لم يتم اللقاء بين الحسن الثاني وبيريس بمعزل عن أحداث سابقة مهدت له، بل كانت بمثابة «خطوات صغيرة» باتجاه لقاء افران، وهو منتجع صيفي يقع على قمم جبال الأطلس المتوسط على بعد 60 كيلومترا عن فاس التي تبنى فيها العرب مشروع السلام. وكانت بداية تلك «الخطوات الصغيرة» مؤتمر اليهود المغاربة الذي عقد في الرباط في 13 مايو (أيار) 1975. ورغم أن همسا كان يدور حول زيارات قامت بها شخصيات إسرائيلية إلى المغرب من أصل يهودي مغربي، فإن ذلك المؤتمر كان أول مناسبة يظهر فيها بكيفية علنية بعض المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم هارون أبو حصيرة الوزير السابق في الحكومة الإسرائيلية ورافائيل الدرعي.

كان ذلك المؤتمر ظاهريا مخصصا لإحياء ذكرى الطبيب اليهودي المغربي ابن ميمون، إلا أن وقائعه التي صبت مباشرة في قناة الموضوع الأكثر حساسية، وهو موضوع العلاقات العربية الإسرائيلية، تركت جانباً ابن ميمون وطبه واتخذت مسارا آخر. وخلال ذلك المؤتمر وجه أربعة من النواب الإسرائيليين في الكنيست، وهم من أصل مغربي، دعوة إلى الحسن الثاني لزيارة إسرائيل، والتزمت الدوائر الرسمية الإسرائيلية الصمت تجاه تلك الدعوة. وبعد الضجة التي أثارها مؤتمر اليهود في الرباط، خاصة بعد تأزم علاقات المغرب مع بعض الدول العربية، دعا الحسن الثاني في خطاب له إلى إغلاق ملف المؤتمر. وعبرت بعض الأوساط الرسمية المغربية عن استيائها لأن البعض كان يؤيد انعقاد المؤتمر في السر، لكنه تنصل علنا عن هذا التأييد. وفي إطار التمهيد لذلك المؤتمر تم الحديث علنا للمرة الأولى عن الزيارة التي قام بها دافيد بن عمار وهو يومها رئيس مجلس الطوائف اليهودية في المغرب إلى القدس المحتلة للإعداد للمؤتمر، ودهش كثيرون حين قال بن عمار «إن إسرائيل تعتبر وطنا لجميع اليهود» وهي جملة يمكن أن تؤول كثيرا. وعلى الرغم من أن ملف ذلك المؤتمر طواه النسيان، فإن الحديث لم ينقطع عن دور يلعبه اليهود المغاربة، سواء كانوا في إسرائيل أو في المغرب، في إطار البحث عن «سلام ضائع» لأزمة الشرق الأوسط.

وبعد مضي عامين على مؤتمر اليهود المغاربة في الرباط، فجر الحسن الثاني قنبلة جديدة حين أدلى بحديث إلى مجلة (لاريفيودوموند) الفرنسية أعلن فيه تحبيذه فكرة عقد لقاء مباشر بين العرب وإسرائيل. وقال «لا أحد يريد القيام بالخطوة الأولى، فانا أتحدث إليكم بوصفي رئيسا لدولة عربية تلتزم بالتضامن العربي الذي أقره ميثاق الجامعة العربية.. ألا ترون أنه من غير المقبول أن يظل العرب والإسرائيليون يتفاوضون حتى الآن عن طريق الوسطاء؟ أنا لا أشك في حسن نوايا ونزاهة الوسطاء، إنني أؤكد لكم أن القادة مقتنعون جميعا بأن الأمر لا يتعلق أبدا في الوقت الراهن بإلقاء الإسرائيليين في البحر، فذلك عهد قد ولّى. لماذا لا يتم انتداب واحد من القادة العرب يرى فيه الجميع الشخص الأكثر نزاهة وجدية ويقولون له: اذهب إلى شيمعون بيريس ومعك خطة فاس واسمع منه شخصيا رفضه لجميع النقاط وأطلعنا على الأمر؟ فإذا قال رئيس دولة عربية محترم ونزيه لنظرائه العرب إنني قوبلت من طرف بيريس بالرفض، إذ ذاك فإن إسرائيل ستكون في موقف حرج، بينما نجد اليوم الإسرائيليين هم الذين يطالبون بالمناقشة ولو على مستوى رئيس دولة. فلا بد في يوم ما أن تكون لنا الشجاعة الكافية للقيام بهذه الخطوة. وبالطبع فإن المناقشة لن تكون في فراغ وبأي ثمن كان». بعد هذا الحديث نظم احتفال ديني لليهود المغاربة شارك فيه «قادمون» من إسرائيل، وكان احتفالا «هيلولة» الحاخام يحيى الخضر في قرية بني أحمد (90 كيلومترا جنوب الدار البيضاء) وهناك لوحظ حضور رافائيل الدرعي، وتجدد الحديث عن دور يقوم به لعقد لقاء بين الملك الحسن الثاني وشيمعون بيريس. ولم يكشف وقتها النقاب عن تفاصيل دور الدرعي لكنه بلا شك كان دورا نشطا في كل الأحوال. وفي 21 يوليو (تموز) عام 1986 كان يفترض أن يكون الحسن الثاني في واشنطن، إلا أن تلك الزيارة تأجلت بعد نصيحة أطبائه له بالخلود إلى الراحة، وعوض أن يكون في واشنطن كان العاهل المغربي غادر قصره في الصخيرات باتجاه قصره في افران، وهناك تم اللقاء المفاجأة. وتوقف المحللون طويلا حول جملة وردت على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض الذي كان يحكمه آنذاك الرئيس الأسبق رونالد ريغان يقول فيها: «كانت واشنطن على علم بزيارة شيمعون بيريس للمغرب قبل إلغاء زيارة الحسن الثاني لواشنطن». تلك بعض وقائع المشهد الثاني.

أما المشهد الثالث فقد جرت وقائعه بعد سنوات طويلة، وعلى وجه التحديد بعد 17 سنة من لقاء الحسن الثاني وبيريس في افران. هذا المشهد وقع في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2003، في ذلك اليوم الذي كان يخلد الذكرى الثانية لهجمات سبتمبر الشهيرة، والتي أدت إلى تدمير برجي التجارة في نيويورك، ستخترق خمس رصاصات جسد اليهودي المغربي «البير ربيبو» وهو تاجر خشم معروف في الدار البيضاء، لتقول السلطات المغربية بعد خمسة أيام من مصرعه إن الجهة التي اغتالته هي «تنظيم السلفية الجهادية» التي تعد أحد تفرعات تنظيم القاعدة. ولعل من التفاصيل التي عرفت عن ربيبو أنه من اليهود المغاربة الذين تمسكوا بأرضهم ورفضوا الهجرة على الرغم من أن جميع أفراد أسرته هاجروا إلى فرنسا. في ذلك اليوم الذي اغتيل فيه ربيبو وقف كدأبه كل يوم يراقب العمال الأربعة الذين يعملون معه في المتجر وهم يحكمون إغلاق باب المحل، ثم اتجه إلى سيارته ووضع بداخلها محفظته الجلدية، وسرعان ما قفز شابان باتجاهه أطلق أحدهما النار في الهواء من مسدس ليرعب المارة، في حين أفرغ الثاني خمس رصاصات في جسده وهو داخل سيارته، وسادت حالة ذعر وسط اليهود المغاربة بعد عملية الاغتيال، وكاد أن يتحول «الحنين» الذي جاء في اسطوانة عام 1973 إلى حالة هروب جماعي.

المشهد الرابع والذي تجري وقائعه هذه الأيام يكمن في زيارة يقوم بها وفد من «اليهود المغاربة» إلى المغرب، وهي تشير إلى أن حالة الذعر التي سادت عام 2003، قد تم تجاوزها. وفي التفاصيل أن 30 يهوديا مغربيا، ينتمون إلى عالم الأعمال والمهن الحرة والمجتمع المدني «من مختلف الدول» ذكر في الرباط أنهم يقومون بزيارة إلى المغرب تلبية لدعوة من مؤسسة «ذاكرة من أجل المستقبل» وستستمر الزيارة حتى يوم الأحد المقبل. والتقى الوفد عددا من المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال ومديري مؤسسات حكومية. وتندرج الزيارة في إطار تطبيق توصيات ندوة «اليهودية المغربية المعاصرة ومغرب الغد» التي نظمت العام الماضي بالدار البيضاء.

لعل أهم ما يرتبط بموضوع اليهود المغاربة، هو أن سياسيين بارزين سواء في المغرب أو إسرائيل لعبوا دورا ملموسا في الحياة السياسية «هنا» في المغرب و«هناك» في إسرائيل. كان أول يهودي يتولى الوزارة في مغرب بعد الاستقلال هو ليون بنزاكين الذي أصبح وزيرا للبريد، وكان آخر وزير يهودي هو سيرج برديغو الذي تولى وزارة السياحة عام 1994، وحاليا هناك اندري ازولاي مستشار الملك محمد السادس والذي تولى هذا المنصب في عهد الملك الحسن الثاني.

وفي إسرائيل هناك عدة شخصيات من أصول مغربية أبرزهم: إيلي يشاي: مغربي يهودي ولد بالمغرب عام 1962 وبالضبط في مدينة فاس، شغل منصب وزير الصناعة الإسرائيلي وزعيم حزب شاس الديني المتطرف. عمير بيرتس: من مواليد مدينة أبي الجعد في وسط المغرب، هاجر رفقة أسرته وهو ابن أربع سنوات. تقلد أول منصب في شبابه رئيس بلدية سديروت وهو في سن الواحدة والثلاثين، عين زعيما لحزب العمل عام 2005 وبعدها عين وزيرا للدفاع.

شلومو بن عامي: ابن مدينة طنجة في شمال المغرب، تقلد منصب وزير الخارجية وسفير إسرائيل في إسبانيا لإتقانه للغة الإسبانية لكونه من شمال المغرب.

ديفيد ليفي: ابن مدينة الرباط العاصمة وبالضبط الملاح أو المدينة القديمة، هاجر إلى إسرائيل وهو ابن سبع سنوات شارك في حرب 1967 و1973. تقلد منصب وزير الخارجية ويعد من أبرز السياسيين الإسرائيليين وشغل منصب أستاذ في جامعة بن غوريون وهو أحد أبرز قادة حزب الليكود. موردخاي فعنونو: من مدينة صفرو، عالم الذرة الإسرائيلي المغربي الأصل، سجن لمدة عشرين سنة لمواقفه وأسراره التي أراد أن يفشيها عن المنشآت النووية الإسرائيلية وما زال يقبع في سجن بصحراء النقب. شلومو عمار: من أبرز حاخامات إسرائيل من مواليد مدينة الصويرة المغربية. شغل موقع الحاخام الأكبر لمدينة نتانيا في فلسطين المحتلة. اشتهر يهود المغرب بإتقانهم لبعض المهن مثل الصياغة وصناعة الخيوط المذهبة التي تستعمل في ملابس النساء الفاخرة. وأبدع فقراء اليهود المغاربة في صناعة الأواني الفخارية والدباغة والصناعات الجلدية. وبعد تطور التجارة في المغرب برع اليهود في مجال البنوك ومجالات الاستيراد والتصدير. كما اشتهروا في مجال الطبخ خاصة في طهي بعض الأكلات والأسماك.

في صيف عام 1986 عندما أخفق لقاء الحسن الثاني وشيمعون بيريس في تحقيق أي تقدم على صعيد «حل سلمي» بين العرب وإسرائيل، قال الوزير المغربي الراحل أحمد العلوي الذي اشتهر بتعابيره القاسية عندما سألوه ماذا حققت زيارة بيريس من نتائج «يكفي أنه تذوق أكلة السخينة». وهي أكلة يهودية مغربية لذيذة المذاق. اليهود المغاربة يوجدون دائما في مطبخ السياسة المغربية، لكن مثل فرن لا يشتعل موقده إلا من وقت لآخر.