روسيا: شرب حتى الموت

ميدفيديف يعلن الحرب على الخمور.. ويعتبرها تهديدا للأمن الروسي مع إدمان 20 مليون مواطن

إدمان 20 مليون روسي يهدد الأمن القومي الروسي بسبب الموت المبكر («الشرق الأوسط»)
TT

للخمور مع روسيا وبلاد السوفيات، أو أرض الصقالبة، موطن السلاف، تاريخ قديم يرتبط بعادات وتقاليد شعوب هذه البقاع، سبق واطلع العرب على بعضه بين دفتي رسالة أحمد بن فضلان إلى ملك الصقالبة التي أفاض فيها في وصف موقع الخمور ضمن عادات تلك الشعوب، وإن شاب ذلك الوصف قدر من القصور والمبالغة.

ونبدأ قصة الخمور في روسيا بطرفة طالما رددها الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف في الكثير من اللقاءات المشتركة. يقول غورباتشوف إن الإسلام كاد يكون الديانة الرسمية للإمبراطورية الروسية لولا تحريم الشريعة الإسلامية لتناول الخمور. ويمضي ليحكي قصة لقاء موفد الخليفة العباسي مع قيصر روسيا ونجاح الأول في إقناع القيصر بسماحة الإسلام وفضائله، ما جعل الأخير يعلن قبول الإسلام دينًا، ويقرر الاحتفال بهذه المناسبة. وحين جاء الخدم بكؤوس الخمر للاحتفال بالمناسبة اعتذر موفد الخليفة قائلا إن الإسلام يحرم تناول الخمور، ما جعل القيصر ينتفض غاضبا ليقول: «كيف لأبناء روسيا اعتناق دين يحرم الخمور؟».

والقصة في جوهرها حقيقية، وتعود إلى مطلع القرن العاشر، حين أوفد الخليفة العباسي، المقتدر بالله، وهو الثامن عشر في سلسلة قائمة الخلفاء العباسيين، سفيره أحمد بن فضلان على رأس وفد يضم عددا من المنحدرين عن الجنس السلافي ممن كانوا يعملون في صفوف جند الخليفة، يحمل رسالة إلى ملك الصقالبة، أي القيصر، يطلعه فيها على فضائل الإسلام ويدعوه إلى اعتناقه، ويكون من مهامه تعليم أبناء تلك البقاع أصول الدين، والإشراف على بناء المساجد والمدارس. لكن تلك قصة أخرى ولتفاصيلها التي سجلها أحمد بن فضلان في «رسالة الخليفة المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة» موقع آخر، وإن تظل سجلا تاريخيا لمسالك شعوب المنطقة، وإن اعتراه قصور يعود إلى المبالغة في الأوصاف الكاريكاتيرية لبعض تقاليد وعادات هذه الشعوب وموقع الخمور ضمن نسيج هذه العادات وتلك التقاليد، وهي التي صارت جزءا أساسيا في نسيج ثقافتها وعنصرا محوريا حدد معالم الكثير من سياسات حكامها ونتاج أدبائها وشعرائها، فيما تبقى مصدر دخل أساسيا للدولة، والسلوى والملاذ للمقهورين والمطحونين ممن يفرطون في الشراب أحيانا حتى الموت.

* الخمور في الأدب الروسي

* الخمور يشيرون إليها في روسيا بكلمة «ألكاجول».. هكذا ينطقونها في أحيان كثيرة. وعلى الرغم من أن الكلمة مشتقة من الكلمة العربية «الكحول» فإن أحدا في هذا البلد المترامي الأطراف، المتعدد القوميات، لم يغازلها كما فعل أبناء العاربة، وأولهم أبو نواس ممن أطلقوا عليها اسم «المشروبات الروحية». فلا أحد يعلم صلتها بالروح إلا إذا كان الأمر يتعلق بأنها هي التي تُذهِبها خصما من موقع ومكانة العقل. ولربما يكون العرب محقين في ذلك. فالمتابع للأدب الروسي يجدها تتخلل الكثير من روائعه التي قلما تخلو إحدى رواياته أو قصائده من الإشارة إليها بوصفها المبرر الذي يفسر في معظم الأحيان السلوك المعيب أو المشين، أو ما يدفع إليه، مثلما تجدها في رائعة فيدور دوستويفسكي «الإخوة كارامازوف». فهي الماكينة المحركة لسلوك الأب الماجن وسبب تعقد علاقاته مع أبنائه الثلاثة، إيفان وديمتري وألكسي، وهي أحد أسباب تعقد العلاقة بين ليف تولستوي وزوجته التي كان يحلو لها دوما الاعتداء عليه بعد معاقرة الشراب، كما أنها تبدو من أسباب سقوط الإمبراطورية العثمانية في قصيدة شاعر روسيا العظيم، ألكسندر بوشكين، الأفريقي الحبشي الأصل، حفيد إبراهيم هانيبال، أحد عبيد بطرس الأعظم، قيصر وباني روسيا الحديثة. ففي رائعته «إسطنبول» عزا بوشكين سقوط الإمبراطورية العثمانية في بعض من جوانبه إلى التخلي عن الإسلام ومعاقرة الخمور قائلا:

* «تخلت إسطنبول عن الرسول حجب عنها الغرب الماكر حقيقة الشرق الأزلية تركت إسطنبول الصلاة والسيف في سعيها إلى التسلية والترفيه ونسيت إسطنبول عرق القتال وتعودت تعاطي الخمور في أوقات الصلاة».

* وما دام الشيء بالشيء يذكر، نتذكر إحدى كلاسيكيات السينما السوفياتية التي تظل ملازمة لاحتفالات استقبال رأس السنة الجديدة في روسيا حتى اليوم، والتي كان ميخائيل غورباتشوف اضطر إلى منعها مع بدء انطلاقة حملته للحد من انتشار ظاهرة تعاطي الخمور في عام 1985. هذا الفيلم هو «من سخريات القدر أو حمام الهنا» للمخرج الكبير الدار ريازانوف، ويحكي قصة مجموعة من أصدقاء الدراسة ممن تعاهدوا بعد تخرجهم على اللقاء ليلة رأس السنة في أحد الحمامات العمومية بموسكو مع نهاية كل عام. وتبدأ أحداث القصة حين يدفع الأصدقاء الذين أغرقوا في تناول الخمور التي أطاحت بوعيهم ببافيل ابن موسكو إلى الطائرة التي تقله إلى ليننغراد، بدلا من أحد زملائهم الذي جاء خصيصا من هناك لمشاركتهم تقليدهم السنوي. وتدور أحداث القصة التي تكشف عن الكثير من عيوب المجتمع من خلال الرمز الذي كان السبيل الوحيد لتجاوز الكثير من قيود رقابة ذلك العصر.

الخمور في روسيا طالما كانت، وتظل، ركنا أساسيا من أركان حياة الكثيرين. فهي السبيل إلى النسيان عند الملمات والأتراح، والحافز إلى المزيد من السعادة لحظة النجاح والأفراح.. هي موجودة ليلة الميلاد أو في ذكرى أيامه، وهي على رأس المائدة يوم العرس والزفاف، فيما تظل المشروب المحوري الذي يودعون به الحياة. في حفلات الميلاد يشرب الوالدان وضيوفهما نخب المولود الجديد. ويهتف الأصدقاء والخلان جوقة واحدة يوم الزفاف «جوركو» أي أن الحياة مُرَة لا تطاق، وتظل هكذا في انتظار ما يجعلها حلوة المذاق، ليستغرق العروسان في قبلة طويلة يبدأ معها الحاضرون في العد واحد.. اثنان.. ثلاثة. وتظل الصيحات تواصل العد اختبارا لقدرة العروسين على البقاء طويلا في مثل هذا الوضع الجميل. وهي الرفيق والصديق للكثيرين بدرجة أو بأخرى في كل المناسبات حتى تحين لحظة الوفاة. يعود الأصدقاء والأقارب بعد مواراة المرحوم أو المرحومة الثرى ليتحلقوا المائدة التي تتصدرها كأس مملوءة عادة بـ«الفودكا»، لا يقربها أحد بوصفها كأس الراحل. وتبدأ رحلة الذكريات من خلال الأنخاب التي تتناول مناقبه ومآثره.

يعتقد الكثيرون أن الخمور في روسيا أيضا إحدى أهم أدوات مكافحة البرد القارس التي يلجأ إليها بعض سكان الشمال ممن يشربونها التماسا للدفء في الوقت الذي تصير فيه أحيانا السبيل الذي يقودهم إلى العالم الآخر في حال تجرع الكثير منها. وثمة من يقول إنها من أساسيات استمرار الحياة في المناطق شديدة البرودة، قريبا من المناطق القطبية الشمالية. لكنها تظل في نفس الوقت أهم أسباب تفاقم مشكلة الإدمان لدى ما يقرب من عشرين مليون مواطن، وفي مقدمة أسباب قصر متوسط الأعمار لدي النساء والرجال، وتفاقم مشكلة البطالة في روسيا، وازدياد مستوى الجريمة وحالات الانتحار.

* الخمور في حياة الرؤساء

* المناسبة التي تدعونا إلى الخوض في تفاصيل هذه القضية هو عودة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف إلى دعوة عدد من أسلافه من سادة الكرملين السابقين إلى تقليص تعاطي الخمور أو الحد من ظاهرة إدمانها. كان ميدفيديف أصدر تعليماته بفرض القيود على بيع الخمور، سبيلا للحد من تناولها وإدمانها، مشيرا إلى أنها باتت «كارثة قومية» تهدد مستقبل الوطن وتنال من صحة المواطن وتقوض اقتصاد البلاد. وما أن أصدر الرئيس ميدفيديف هذه التعليمات مطالبا بتشديد العقوبة وجعلها جنائية بدلا من الغرامات الهزيلة بغية فرض النظام وردع المخالفين حتى تذكر المسؤولون خطورة القضية وأهمية مواجهتها وراحت أجهزة الإعلام تفتش في أضابير سجلاتها عن مختلف الأرقام التي تقول إن المواطن الروسي يصب في جوفه سنويا 18 لترا من الكحوليات، فيما يلقى حتفه كل عام ما يقرب من 600 ـ 700 ألف مواطن بسبب إدمان الخمور، ما يؤدي إلى انخفاض عدد السكان وتدهور القدرات الإنتاجية للمواطن، بل وينسحب ذلك على القدرات الدفاعية للدولة، إلى جانب تفاقم المشكلات الصحية والاجتماعية والأخلاقية والأمنية للمجتمع.

ميدفيديف لم يكن الأول في قائمة زعماء روسيا الذين انبروا للتصدي لخطر إدمان الخمور أو ظاهرة انتشارها في المجتمع، حيث سبقه في ذلك القيصر نيكولاي الأول قبيل سنوات الحرب العالمية الأولى. وسار على نفس الدرب مؤسس الدولة السوفياتية وزعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية، فلاديمير لينين، الذي أصدر تعليماته في عام 1922 بضرورة مواجهة الظاهرة واتخاذ الإجراءات التي تكفل الحد من انتشارها، لكن الزمن لم يمهله طويلا حيث وافته المنية في عام 1924، التي وافت أيضا الكثير من مبادراته التي كان يريد بها إصلاح المجتمع وتعديل مسار التحولات، بما في ذلك ما سمي «السياسة الاقتصادية الجديدة» (نيب). ويذكر التاريخ أن خلفه، يوسف ستالين، وجد في الخمور مصدرا مناسبا لتعزيز ميزانية الدولة التي قرر أن تحتكر إنتاجها ضمن خططها الخمسية كسبيل إلى تجاوز الكثير من العثرات والمصاعب المالية. ومن الماضي القريب نذكر صحوة «البيريسترويكا» وثورة الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف وقراراته حول تقنين بيع الخمور وحظر بيعها قبل الثانية بعد الظهر، ما كان مقدمة لظاهرة صناعتها السرية عبر تقطيرها من القمح والأرز والسكر في المنازل وتدمير مزارع العنب في مناطق الجنوب وانتشار حالات الوفاة بين الكثيرين المدمنين الذين اضطروا إلى تناول كل ما يتضمن أي نسبة من الكحوليات مثل المطهرات والمنظفات والكولونيا، بل وأصباغ الأحذية! وثمة من يقول إن ميزانية الدولة خسرت ما يقرب من 15 مليار دولار نتيجة الحد من صناعة وبيع الخمور عبر المصانع والمتاجر الرسمية خلال تلك الفترة ما دفع السلطة السوفياتية، آنذاك، إلى التراجع عن قراراتها التي تحولت إلى مادة للفكاهة والسخرية العلنية.

ولعله من اللافت في هذا الشأن أن نشير إلى أن الصعوبات التي واجهت غورباتشوف إبان منتصف ثمانينات القرن الماضي وأسفرت عن فشل حملته وتراجعه بعد تكبد البلاد الكثير من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية تظل في غير موضع مقارنة بما يمكن أن تلقاه حملة الرئيس ميدفيديف اليوم بسبب المساحة الهائلة من الحريات التي يتمتع بها الشباب، وانحسار دور آليات الدولة وتأثيرها على سلوك المواطن، مقارنة بمثيلاتها إبان سنوات العصر الشمولي. ففضلا عن تخفف قبضة الدولة، وتضاؤل نفوذ سلطاتها وعجزها عن تقييد حريات وحقوق الإنسان، يتمتع المواطن بمساحة هائلة من فرص الحصول على ما يريده من كحوليات ومشروبات من خلال الكم الغزير من المتاجر وسلسلة مراكز تقديم الخدمات في المنازل، ناهيك عن انتشار المطاعم والمقاهي في كل أرجاء المدن والقرى الصغيرة والكبيرة على حد سواء. وقد اعترف الرئيس ميدفيديف بأن السلطات الروسية اتخذت عددا من الإجراءات للحد من انتشار وتفشي ظاهرة تعاطي الخمور والإدمان بين الشباب، لكنها لم تسفر عن تغيير يذكر على حد قوله. وفي الوقت الذي يجد فيه الرئيس الروسي لحشد القوى المؤيدة لسياساته بين الشباب من خلال مخاطبتهم عبر الإنترنت، وفي لقاءات مباشرة، إلى جانب تعليماته بتغيير التشريعات والقوانين التي تستهدف خفض سن المشاركة في انتخابات المجالس النيابية المحلية إلى 18 سنة بدلا من 21، ثمة من يقول إن حملته التي تنسحب أيضا على تناول البيرة يمكن أن تضرب شعبيته في أوساط الشباب الذي أدمن المشروبات الخفيفة، وصار يتناولها علانية في الشوارع والأماكن العامة، بل وأحيانا على مقربة من المؤسسات التعليمية والرياضية. وننقل عن ديمتري أوريشكين، الخبير السياسي، قوله إن ميدفيديف يواجه وضعا صعبا يفرض عليه وعلى مساعديه توقع الخسائر المالية التي يمكن أن تتكبدها ميزانية الدولة بسبب انخفاض الموارد الضريبية في حال الحد من تجارة المشروبات الكحولية. ومن المعروف أن صناعة الخمور وخاصة «الفودكا»، المشروب الروسي المفضل، تظل بندا أساسيا من أهم بنود الدخل القومي لا يقل أهمية عن مصادر الطاقة من النفط والغاز بالنسبة إلى ميزانية الدولة. ويزيد من حدة المشكلة أن الخمور بالنسبة للمواطن في روسيا تبدو أشبه بمشكلة انتشار الشيشة والتدخين في مجتمعاتنا العربية والشرقية عموما. ويضرب هؤلاء مثلا باللافتات والملصقات التي تنتشر في الشوارع تحذر من مغبة التدخين، ولا أحد يعيرها اهتماما، فيما صارت موضع تندر وسخرية ممن يصرون على مواصلة التمسك به. ويشيرون إلى ما تفرضه وزارات الصحة من تعليمات تحذر من التدخين وأخطاره على الصحة والإعلان عن ذلك على علب التبغ بين أيدي المدخنين، فيما يسخر الكثيرون من الأطباء الذين يوصون مرضاهم بالإقلاع عن التدخين من دون أن تفارق شفاهم السيجارة. غير أن هناك من يقول بضرورة عدم استباق الحكم على الحملة الجديدة والتريث إلى حين استيضاح نتائج المهلة التي حددها ميدفيديف للمسؤولين بثلاثة أشهر لوضع الخطة اللازمة واقتراح التشريعات المناسبة. ويشير البعض إلى أن العودة إلى بعض القيود السوفياتية القديمة، ومنها احتكار الدولة لصناعة وتجارة الخمور والمشروبات الكحولية، قد تسفر عن نتائج ملموسة، ويشيرون إلى أن نسبة 30 ـ 50% من سوق المشروبات الكحولية، وخاصة «الفودكا» تتداول بشكل غير مشروع بما يعني أنها خارج سيطرة الدولة التي لا تستطيع تحصيل حقها فيها من الضرائب.

* حكايات من حياة يلتسين

* ثمة من يقول إن الخمور تظل القاسم المشترك للكثير من حكايات وذكريات معاصري الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، الذي طالما عرفه شعبه والعالم بوصفه الرئيس الذي لا يفيق، وحين أفاق أطاح بالإمبراطورية السوفياتية، ومعها الكثير من وقارها ومواقعها في الساحتين الإقليمية والعالمية في عام 1991. من هذه الحكايات ما أودعه حارسه الشخصي وقائد جهاز أمن الكرملين، الجنرال ألكسندر كورجاكوف، كتابه «غروب رئيس» الصادر في موسكو عام 1997.

يقول كورجاكوف إن الرئيس بوريس يلتسين أفرط في الشراب خلال مأدبة العشاء التي أقامها على شرفه نظيره الأميركي، بيل كلينتون، في سبتمبر (أيلول) 1994. أشار إلى أنه أدرك حالة الرئيس ولاحظ ترنحه وعدم ثبات خطاه لدى مغادرته المائدة. وأضاف قائد حرس الرئيس أنه شعر بارتياح كبير لأن الزيارة انتهت «على خير»، ولأن الرئيس وصل سالما إلى طائرته. ونورد أدناه ما قاله نصا:

«فيما كنت أستغرق في نومي (على متن الطائرة) سمعت من يناديني. قالت ناينا يوسوفنا (قرينة الرئيس).. إن الرئيس نهض من نومه وكنت أظنه يقصد دورة المياه، لكنه سقط على الأرض بعد أن بال على ملابسه. إنه يرقد هناك بلا حراك. هل يكون أصيب بأزمة قلبية؟». واستطرد كورجاكوف يقول إنها لم تستدع الأطباء بسبب الوضع المحرج الذي أضحى به الرئيس، لكنه طالبها باستدعاء الأطباء فورا، فيما قصد غرفة الرئيس، حيث كان يرقد بلا حراك شاحب الوجه. قال إنه نجح في إعادته إلى فراشه بصعوبة بالغة بسبب ثقل وزنه ليشرع الأطباء في ممارسة عملهم. فلم يكن أمامهم سوى ثلاث ساعات حتى الوصول إلى مطار شينون، وحيث كان رئيس وزراء أيرلندا في انتظار اللقاء مع يلتسين. ولذا قرر استدعاء نائب رئيس الحكومة، أوليغ سوسكوفيتس، للاستعداد للنزول للقاء رئيس وزراء أيرلندا بدلا من الرئيس، لا سيما بعد إعلان الأطباء احتمالات إصابة الرئيس بنوبة قلبية، أو ما شابه ذلك، وتوصيتهم بضرورة ملازمته الفراش. أضاف أن الرئيس حاول النزول للقاء رئيس وزراء أيرلندا من دون سرواله، من دون أن يدري، ما دفع كورجاكوف إلى منعه بالقوة قائلا إنه ـ أي الرئيس ـ يستطيع إقالته بعد عودتهم أو اتخاذ أي إجراء آخر.. لكنه لن يسمح له بالنزول. ومن ذكريات كورجاكوف أيضا ما شهدته برلين في 30 أغسطس (آب) 1994، يوم تقدم إلى الرئيس يطالبه بعدم الاقتراب من المتظاهرين من ممثلي القوى الفاشية الذين احتشدوا في شوارع برلين يحملون اللافتات المعادية لروسيا. قال إنه ضرب بنصائح مستشاريه عرض الحائط، وكان الشراب قد أدار رأسه، فيما أمسك برباط عنق حارسه ودفع به جانبا بكل القوة، مما اضطر الجنرال إلى اللجوء إلى الأوتوبيس، الواقف على مقربة خشية ما لا تحمد عقباه. وأضاف أيضا واقعة أن الرئيس يلتسين ترك مكانه إلى جوار المستشار الألماني، هيلموت كول، وكانا يستعرضان القوات الروسية التي تقرر عودتها إلى موطنها بعد انتهاء مهمتها في ألمانيا. نزل يلتسين إلى الأوركسترا لينتزع عصا القيادة من المايسترو، وراح يلوح بها يمينا ويسارا وهو يغمغم بكلمات الأغنية الشعبية الروسية «كلينكا»، ما أثار ضحكات وسخرية الحاضرين ممن احتشدوا لوداع القوات الروسية والملايين من متابعي المشهد الساخر عبر شاشات التلفزيون. ونواصل الحكايات لنذكر، على سبيل المثال لا الحصر، الأزمة التي نجمت في أعقاب ظهور روسلان حسب اللاتوف رئيس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية (البرلمان) على شاشة التلفزيون الروسي في سبتمبر 1993، وحديثه عن تردى الأوضاع السياسية بسبب انصراف «البعض» إلى ما يضر بسمعة القيادة مشيرا بأعلى سبابة يده اليمنى إلى أسفل ذقنه، وهي إشارة روسية إلى الإغراق في تناول الخمور ما كان يعني به يلتسين في معرض إدانته لسياساته وانصرافه عن إدارة شؤون الدولة بسبب الإدمان، وهو ما كان سببا في استفزاز الرئيس وإصداره قرار حل البرلمان والإعلان عن إعداد دستور جديد للبلاد، حسب تقدير كثيرين. وكان ذلك في صدارة المقدمات العملية للمواجهة بين الغريمين، التي انتهت باتخاذ يلتسين قرار قصف الدبابات لمبنى البرلمان واعتقال نوابه ومعارضيه في الرابع من أكتوبر 1993، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ روسيا المعاصر. ذلك غيض من فيض نتوقف عن سرد المزيد منه مكتفين بالإشارة إلى أن فيه ما غير مسار الدولة الروسية وحكم علاقات أحد أشهر زعمائها مع معارضيه، وكان مثار تندر الملايين في الداخل والخارج لما يزيد على عقد من الزمان.