أتراك ـ أرمن: وسوسة الذاكرة

الحل يبدأ مع مراجعة الذات وإخراج المسألة من بعدها الدعائي.. والمصالحة مع الذات هي الخطوة الأولى على طريق الألف ميل

المصالحة الأرمنية التركية لن تكتمل إلا بتصالح مع التاريخ والماضي (أ.ب)
TT

مواجهة الإياب بين الرئيس التركي عبد الله غل ونظيره الأرمني سيرج سركيسيان كانت أكثر حماوة وحماسا من لقاء الإياب بين فريقي منتخب البلدين في كرة القدم التي جرت الأسبوع المنصرم في مدينة بورصة التركية. فنتيجة المباراة كانت معروفة سلفا لا يهم من يفوز، كلاهما لن يذهب إلى التصفيات النهائية لكأس العالم. لقاء الرجلين جاء مصاحبا لتوقيع اتفاقية زيوريخ حيث يعرفان تماما أن ولادة الاتفاق فاجأ الكثيرين لكنه صدم آخرين يتقدمهم القوميون المتشددون في الجانبين التركي والأرمني لناحية سرعة خروجه إلى العلن والإعلان عن ضرورة الالتزام بتطبيق مواده بأقرب وقت ممكن.

الرسائل السياسية التي وجهها أرمن ملعب «يارافان» في مطلع سبتمبر (أيلول) المنصرم إلى مشجعي كرة القدم التركية (صفافير استهجان) وصلت إلى ساحة ملعب بورصة المركزي الذي رد البادرة بما لا يقل عنها شأنا وقيمة (صفافير استهجان مماثلة خلال السلام الوطني الأرمني). مشجعو المنتخب التركي أصروا على أن تكون أغنية «صاري غلين» أو العروس الصفراء التي تروي حكاية غرام بين شاب تركي وشقراء أرمنية تحولت إلى ملحمة تاريخية ما زال الأتراك والأرمن يرددونها إلى اليوم في استقبال الرئيس الأرمني. ذكرتنا الأغنية فجأة برواية مشابهة سردها علينا أحد أرمن اسطنبول قبل أعوام عندما التقيناه صدفة في «أقدمار» ذلك الدير الواقع في قلب جزيرة صغيرة تحيط بها مياه بحيرة «فان» شرق الأناضول والذي رممه الأتراك لكنهم حولوه إلى متحف ـ كنيسة ما زال الأرمن يساومون على إقامة الصلاة فيه ولو رمزيا بين الحين والآخر. وتقول الرواية إن أقدمار هي ابنة راهب الدير التي عشقت فتى مسلما كان يأتي في المساء سابحا عدة كيلومترات للقاء الحبيبة إلى أن تنبه الوالد للأمر ونصب فخا للشاب قاده إلى الموت غرقا لتلحق به الحبيبة انتحارا ويخرجا من الماء يدا بيد جثتين هامدتين، حسب الرواية طبعا. من كان يراهن قبل سنوات مثلا على صورة مماثلة لما رأيناه في زيوريخ قبل أيام عندما وقف ممثلو الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا جنبا إلى جنب وراء وزيري خارجية تركيا وأرمينيا حيث حضروا شخصيا للشهادة الحية على احتفالات توقيع البروتوكول بين البلدين وتجديد الدعم لاقتراحات إنشاء لجان فرعية لمراجعة الأبعاد التاريخية للمسألة الأرمنية في محاولة لإحياء حوار إعادة الثقة بين الشعبين وصياغة توصيات يشرف عليها أصحاب الاختصاص لفتح هذه الصفحة الجديدة من العلاقات. ومع ذلك فإن المعارضين الأرمن يرفضون الإصغاء إلى وزير الخارجية التركي داوود أوغلو وهو يحدثهم عن «الذاكرة المنصفة» في العلاقات التركية الأرمنية والواجب أن تكون خط الوسط الممكن الالتقاء حوله، معددا الارتدادات الإيجابية لهذه الاتفاقيات السياسية والأمنية والتجارية على البلدين الجارين اللذين أغلقا الحدود منذ عام 1993 بعد حرب «قره باغ». لا أحد يلتفت إلى ما يقوله وزير خارجية تركيا حول أن «ما ستحصلون عليه في المستقبل من فوائد هو أضعاف ما ستجنونه اليوم». هذه الاتفاقيات بقدر ما تحمل من فرص استراتيجية للبلدين فهي ستتحول حتما إلى قوة دفع إقليمية ووسيلة لإعادة خلط الأوراق في علاقاتنا كما يقول الكاتب الإسلامي إبراهيم قره غول.

هل سينفع توقيع هذه الاتفاقيات الأتراك والأرمن ويقود نحو المصالحة والتطبيع بعد سنوات طويلة من المقاطعة والانتظار؟ أحداث عام 1915 (المذابح الرهيبة التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى وأدت إلى مقتل الملايين من الأرمن خلال الدولة العثمانية، (يقول الأرمن إنها كانت تصفية متعمدة ضد الأرمن من قبل الأتراك، فيما يقول الأتراك إن الأرمن قتلوا مثل غيرهم خلال الحرب) غيرت الكثير من الخرائط السكانية والسياسية في شرق الأناضول فما الذي يطمئن الأرمن أمام صعوبة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ أي نوع من الاعتذار ينتظرون؟ كنا نستعد لمتابعة ما سيحدث كلما اقترب تاريخ الـ24 من أبريل (نيسان) في كل عام فهل سنستعد الآن لما وعدتنا به الدياسبورا الأرمنية حقا إعلان تاريخ العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) يوم حداد وحزن، كونه موعد توقيع الاتفاقية الأخيرة بين أنقرة ويريفان في سويسرا؟. وهل ستواصل أذربيجان انتقاداتها لما يجري، مذكرة أنقرة أنها تكاد تتخلى عن الأخ والجار والشريك؟

موجع حقا أن نرى الدياسبورا الغاضبة والتي تعودت أن تضرم النار بالأعلام التركية في كل احتفال أو حدث سياسي يعنيها، تجبر هذه المرة على صناعة دمى الرئيس الأرمني ووزير خارجيته ومعاقبتها لأنها تجرأت ووقعت اتفاقيات الخطوة الأولى نحو المصالحة وفتح الحدود دون الرجوع إليها أو تجاهل رفضها واعتراضاتها الشديدة كما يقول علي بولاش في جريدة «زمان»، لا.. بل إن انتصار تركيا السياسي الأخير من خلال انفتاحها على يريفان، كما يرى محمد علي بيراند، أغضب الدياسبورا لأنها أثبتت أنها لم تعد أسيرة التاريخ والماضي المؤلم وقررت تخطي حاجز العداء الدائم والخصومة اللا متناهية مع الأرمن «أوروبا أيضا كما يشير لم تعد تريد أن تظل في موقع اختيار المر أو الأشد مرارة في علاقاتها مع الأتراك والأرمن وإلا لما كانت حشدت قواها لتأخذ مكانها في قلب صورة زيوريخ وراء داوود أوغلو ونالبنديان خلال مراسم التوقيع».

الأكاديمي أرمان أرتون يقول إن الأرمن والأتراك عاشوا متداخلين منذ منتصف القرن الحادي عشر وتحديدا بعد موقعة «مالازغيت» التي حملت الأتراك إلى الأناضول. لتبدأ بعد هذا التاريخ حقبة طويلة من التعايش والاندماج اللغوي والثقافي والاجتماعي. حكاياتهم وأمثالهم الشعبية وأقوالهم المأثورة تداخلت وتشابهت. أكاديمي آخر، هو زكي أرقان، يقول إن هزيمة العثمانيين في حربهم مع الروس عام 1876 كانت المقدمة لاشتعال الجبهات بين الأرمن والأتراك. مساعد بلدية باقركوي في اسطنبول يرفانت أوز أوزون يصر على أن الآلاف من الأرمن ولتجنب القتل بدلوا نمط معيشتهم وأعلنوا إسلامهم أو اضطروا لتغيير دينهم في مطلع القرن المنصرم لضمان البقاء على قيد الحياة.

تروي لنا إحدى الإعلاميات، التي بدأت في الآونة الأخيرة الإكثار من زياراتها إلى الشرق الأوسط والبلدان العربية والإسلامية، في محاولة لاستكشاف الآخر ولو متأخرة، أن أحد الزملاء حاول مداعبتها وهم في الطريق إلى «إقليم قره باغ اللبناني» في برج حمود في ضواحي بيروت الشرقية حيث الكثافة السكانية الأرمنية لتناول الغداء في أحد مطاعم ملوك البسترما هناك، محذرا أن لا تنطق بأية كلمة تركية وأن تتجنب الحديث عن تركيا «حتى لا تساء معاملتنا ونحرم من تناول لقمة شهية وطيبة على يد أصحابها». فتقول: لكنني وبطريقة عفوية شكرت الأرمني العجوز الذي كان يقف أمام الباب باللغة التركية، فالتفت مجيبا هو الآخر بما تيسر له وما حمته الذاكرة مرحبا متمسكا بالدخول في حوار طويل حول الانتماء والأماكن والتاريخ والجغرافيا والموسيقى وأطباق الطعام وطرق تحضيرها، مصرا على أن تكون الفاتورة على حساب المحل وأن نعوض نحن ذلك عندما يحضر هو إلى اسطنبول.

بين ما سرده علينا العجوز هناك عندما دب فيه الحماس والحنين إلى الماضي طرفة يرددها الأرمن والأتراك على السواء كيف أن أرمنيا قرر في إحدى المناطق التي كان يعيش فيها الأتراك والأرمن جنبا إلى جنب في شرق الأناضول نحر خروف تشبهاً بالمسلمين في عيد الأضحى وأنه رغم تحذيرات الأهل والأصدقاء أصر على تنفيذ رغبته هذه هو بنفسه مع أنه دخيل على المهنة. وحصل ما كان متوقعا ليفشل صاحبنا في محاولته وهو في منتصف الطريق فيجد نفسه والدماء تغطي وجهه وملابسه. يسارع بحملة مفاجئة لدخول المقهى المقابل للاستنجاد بأحد المسلمين الأتراك يساعده على إنجاز المهمة لكن السكين التي تحول لونها إلى أحمر ووجهه المغطى بالدماء أرعب الجميع الذين قالوا أن لا مسلم بينهم ونصحوه بالتوجه إلى الجامع القريب حيث كان يستعد الإمام للتكبير. ولما دخل على المصلين بشكله المخيف هذا يسأل عن أحد المسلمين بنبرة حادة وصوت مرتفع وغايته الإسراع في عملية نحر الحيوان المتروك أرضا أشار المصلين إلى الإمام الذي أغضبه الإفشاء به على هذا النحو وهو يردد.. كل ما فعلناه هو إقامة ركعتين من الصلاة فاتركونا في حالنا. كانت لحظات سلام ومصالحة مع الذات ومع الآخر نستحقها لكن غبار الحراك المخيف عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى ما زال يخفي رغبة اليوم وحقيقته في ضرورة التطلع إلى المستقبل بدل تمسك البعض في الجانبين بتذكر الخيانة و«التحالف مع الآخرين لتصفيتنا» وما روي لهم عن الأراضي القاحلة الجرداء والنوم في العراء وأيام التشرد والجوع والعطش.

الصحافية أجا تمل كوران، التي أعدت ملفات مطولة حول الموضوع الأرمني، ترى أن وراء ما يقال في الجانبين تلعب القصص والروايات التي يتناقلها الصغار عن الكبار دورها الأكبر. وهكذا تتواصل المعاناة وتتحول إلى شعارات ومطالب سياسية. «الحل يبدأ مع مراجعة الذات وإخراج المسألة من بعدها الدعائي. المصالحة مع الذات هي الخطوة الأولى على طريق الألف ميل».

أستاذ الآداب زكريا باشقال وعالم الاجتماع نيازي أوزدمير اللذين تعاونا في تقديم أكثر من بحث ودراسة ميدانية حول العلاقات الثقافية والاجتماعية بين الأتراك والأرمن يصران على أن الإيجابية في العلاقات بين الشعبين هي أكثر وبكثير من السلبيات. فهما لم يعيشا جنبا إلى جنب بل عاشا حياة متداخلة مندمجة عبر السنين في أماكن تواجدهم وانتشارهم. «دخلنا على العم شاهان الذي يمضي آخر أيامه في إحدى قرى الأناضول لمقابلته فمازحه دليلنا الذي يعرف العجوز جيدا «جاءوا يذبحون من تبقى». فقال ضاحكا «اغرب عن وجهي فهم لن يعثروا على أحد غيري هنا». مسن آخر من الأتراك يروي عليهم كيف كانوا في منتصف الخمسينات يلتفون حول الملاكم الأرمني كريكور ويشجعونه على ضرب الخصم الذي هو تركي مسلم في أكثر الأحيان. «كريكور هو ابن المحلة وبطلها فهل تنتظرون منا غير ذلك؟». العم هاروت الذي حمل عائلته إلى اسطنبول قرر العودة إلى مكان ولادته في (سيواس) وقضاء ما تبقى من عمره هناك.. هل تعرفون لماذا؟ قال: «قرعت باب أحد الجيران في اسطنبول لتعزيته بوفاة والده فنظر إليّ بدون مبالاة قائلا وما دخلك أنت بوالدي؟ عدت إلى هنا.. 20 شخصا من الجيران المسلمين يدعونني إلى شرب الشاي أو تناول الطعام عندهم في اليوم الواحد». إلا يذكرنا ذلك بما قاله لنا إحدى الشخصيات التركية التاريخية علي أميري أفندي: نحن والأرمن قد لا نكون إخوة في الدين لكننا إخوة في تقاسم الأرض والوطن.

القائد الفرنسي شارل ديغول قد يكون دفع خسارته في الانتخابات العامة الفرنسية ثمن الانسحاب من الجزائر لوقف حمام الدم هناك وإعلان الفشل الفرنسي، لكن الكثيرين يتذكرون اسمه هو ولا أحد يعرف اسم من نافسه وفاز وقتها في تلك الانتخابات.

ما نعرفه هو أن آلاف الأتراك قضوا بردا في حملة نظمتها قوات الاتحاد والترقي في منطقة «صاري قامش» على الجبهة الروسية خلال الحرب العالمية الأولى دون أن يطلقوا رصاصة واحدة. ما نعرفه أيضا أن آلاف الأرمن قتلوا من الجوع والعطش والمرض دون حماية ومواكبة خلال إلزامهم بترك منازلهم والرحيل في حرب كان وقودها الأتراك والأرمن على السواء يخوضونها نيابة عن القوى الكبرى ولحماية نفوذها وانتشارها كما يقول شاهين الباي الكاتب والأكاديمي التركي.

الصحافي والكاتب محمد يلمز نشر قصة لا تحدث إلا في الأفلام الهندية التي كنا نتابعها في الصغر مفادها: تقصد السيدة الحامل وزوجها الطبيب النسائي في باريس لمتابعة مسار عملية الحمل فتنهار السيدة عندما يدعوها في اليوم التالي لأخذ الجنين المتوفى في الرحم. ترضخ الزوجة أمام إصرار الأهل على استشارة طبيبة أخرى تخبرها أن كل شيء على ما يرام. يقرر الزوج شكاية الطبيب الأول على فعلته فيكتشف من الاسم أنه من أصل أرمني لكنه يتراجع عن شكواه عندما يكتشف مرة أخرى أن الطبيبة التي كشفت أن الجنين على قيد الحياة هي أرمنية الأصل أيضا. المولود يكبر وهو بدأ الذهاب إلى المدرسة حالفه الحظ للبقاء على قيد الحياة لكن الكثير من الأطفال الذين قضوا إبان ما جرى في شرق الأناضول لم تقدم لهم الفرصة الثانية لإنقاذ أنفسهم.

الإعلامي حسن جمال يوجز وهو يشيد ببادرة التقارب الأخيرة «المسألة الأرمنية رافقها على مر السنين كلمات ومصطلحات مثل الذبح والإبادة والعصيان والتآمر، ألم يحن الوقت لاستبدال قواميسنا ولغتنا في الحوار بيننا؟» أما الصحافي في صحيفة «ميليت» سميح إيديز فهو يدعو لتكون بين الخطوات الأولى المستقبلية دعوة توجه إلى شارل أزنفور المغني الأرمني الأصل مثلا ولتكن وزارة الثقافة التركية هي صاحبة الدعوة حتى لا يرفضها أزنفور كما فعل في الكثير من المرات السابقة.

سيفان إينجه، أحد المثقفين الأرمن يقول: إن أبناء الداخل هم غير أبناء الخارج، الدياسبورا لا تريد أن تصغي سوى إلى حكايتها هي، أما نحن فنعرف حكايات الجانبين الأرمني والتركي، نحن استمعنا إلى الكثيرين وحان دورهم هم في الإصغاء إلينا. لكنه من المؤكد أننا ما زلنا في بداية الطريق طالما أن رأس الكنيسة الأرمنية في لبنان يردد أن الأرمن لن يتنازلوا عن حقوقهم التاريخية وسنطالب بالتعويضات أيضا، ويعلن رئيس جامعة هايكزيان الأرمنية في لبنان بول هايدوسيان أمام حشد من الأكاديميين العرب والأرمن والأتراك جاءوا يشاركون في ندوة علمية حول المسألة أن «المذبحة الأرمنية لا تعني الأرمن وحدهم بل هي مشكلة دولية» فيما يقول لنا رأس الكنيسة في اسطنبول ميسروب موتافيان إننا جميعا في سفينة واحدة إذا ما اخترقتها المياه ونحن في عرض البحر فالجميع معرض للخطر.

كتاب أتراك وأرمن يصرون على أن الخطوة الأولى ينبغي أن تبدأ عند الحدود التركية ـ الأرمنية وضرورة إقامة تمثال مشترك يرمز إلى أحداث عام 1915 وحجم الفاجعة والمعاناة التي تعرض لها الشعبان، علها تكون علاجا مخففا للأوجاع والمعاناة وتضمد الجرح العميق الذي يبدو أنه لن يتعافى بمثل هذه السهولة.

حكومة «العدالة والتنمية» حاولت في السنوات الأخيرة التأكيد على أنها تريد الخروج عن التقليد في التعامل مع المسألة الأرمنية وموضوع الصراع في «قره باغ» وهي أثبتت ذلك خلال مراسم تشييع الصحافي الأرمني هرانت دينك وإصرارها على المضي حتى النهاية في الكشف عن ملابسات الجريمة، لكن الداخل التركي يبدو أنه ليس مستعدا بعد لهذه المرحلة الجديدة من الدبلوماسية. فحملة الاعتذار من الأرمن التي أطلقها كتاب أتراك العام المنصرم قابلها على الفور رد العديد من القوميين بحملة مضادة بعنوان «ما حدث لا يلزمنا بالاعتذار». وهنا تقول الإعلامية أوزلام البيرق إن الجرح لن يتعافى إذا لم تقل الدياسبورا الأرمنية حيال عريضة الاعتذار نحن أيضا نقدم اعتذارنا بدل أن تقول شكرا قبلنا هذا الاعتذار. المصالحة لن تكون باعتذار طرف وقبول آخر بل باعتذار متبادل عن أخطاء الماضي. ليضيف الباي مرة أخرى أن «الانقلابيين الأتراك في مجموعة الاتحاد والترقي هم الذين يتحملون مسؤولية الكثير من المسائل في تلك الآونة هم أنور وطلعت وجمال باشا بالدرجة الأولى الذين جروا البلاد نحو الحرب وتسببوا بموت الآلاف».

يثقل التاريخ حقا كاهل الراغبين في المصالحة من الأتراك والأرمن. فيشرح سلجوق غول تاشلي الصحافي ومدير مكتب جريدة «زمان» في بروكسل لماذا أطلق الأتراك على الأرمن تسمية «الملة الصادقة» مؤكدا أننا نلتقي داخل تركيا وخارجها ونتحدث كأرمن وأتراك وأنه كلما تعمق الحوار اكتشفنا حجم تقاربنا والرغبة بالعودة إلى الآخر. يقول روبير كوبتاش إن المطلوب الآن هو قياس ومعرفة ردود فعل الأوساط الشعبية في الجانبين التركي والأرمني ليتم على ضوئها إطلاق الخطوة الثانية، مذكرا بضرورة الإصغاء إلى الدياسبورا الأرمنية التي لا بد أن يفهم البعض لماذا هي في الدياسبورا وما الذي حملها إلى هناك؟ وحيال كل ذلك مثلا ينتظر «كوميتاس» رجل الدين والملحن الأرمني المعروف الذي شيدت له الدياسبورا الكثير من الهياكل من يفتح ملفه وينصفه حتى لا يظل غصة في تاريخ العلاقات التركية ـ الأرمنية.

الارتهان لوقائع الماضي والتمسك بما تحبسه الذاكرة من أيام سوداء مؤلمة وترك العقول والقلوب في حالة استنفار دائم للانقضاض والمحاسبة، قاعدة تتعارض مع أسس الأنظمة الجديدة في العلاقات بين الدول ويكفي إلقاء نظرة ولو سريعة على مسار العلاقات التركية العربية وما هي عليه اليوم، مع أن الطرفين لو أرادا لتمسكا بما قيل لهما وما جاء في كتب التاريخ إبان الحرب العالمية الأولى حول الطعن من الخلف وفرض التخلف المقصود.