«الدكتور» عبد الله عبد الله.. هل يداوي أفغانستان؟

جمع في حملته الانتخابية بين أوباما وموسوي.. وكاريزميته كسرت مقولة أن الرئيس يجب أن يكون من البشتون

TT

أراد أن يخدم شعبه ويعالج مرضاه من خلال مهنة الطب، لكن طموحات الدول الكبرى بالاستيلاء على بلده من خلال إرسال جيوش أو حروب أهلية والتي استمرت لثلاثة عقود من الزمن بالنيابة عن الآخرين ـ كما يقول ـ حولت وجهته المهنية إلى عالم السياسة والمتاعب، حيث جعلت منه عنصرا حيويا في السياسة الأفغانية ورقما صعبا لا يمكن تصور المرحلة المقبلة لأفغانستان بدون الأخذ في الاعتبار رؤيته المستقبلية لأفغانستان وما يسميها «خارطة طريق» للخروج من الأزمة التي تعيشها أفغانستان. إنه الدكتور عبد الله عبد الله المشهور بـ«داكتر صاحب» لدى جميع الأفغان. ولد عبد الله عبد الله في 5 من سبتمبر (أيلول) عام 1960 في العاصمة الأفغانية كابل في أسرة مسلمة تتكون من أب بشتوني ينحدر من مدينة قندهار عاصمة الجنوب الأفغاني والقبيلة البشتونية هي أكبر قبيلة أفغانية تقطن في مناطق الجنوب والشرق الأفغاني. أما أمه فلها جذور طاجيكية من ولاية بانشير ثاني أكبر عرقية تتشكل منها أفغانستان وتسكن غالبيتها في محافظات الشمال الأفغاني المحاذية لجمهوريات الاتحاد السيوفياتي السابق. وكان والده غلام محيي الدين خان مسؤولا حكوميا ونائبا في مجلس الشورى الأفغاني في عهد الملك الأفغاني الراحل محمد ظاهر شاه قبل أربعين عاما من الآن. درس عبد الله عبد الله في مدرسة ناديريا الثانوية بكابل، وبعد التخرج فيها التحق بجامعة كابل التي كانت تعتبر من أرقى الجامعات في المنطقة قبل أربعين سنة من الآن. واختار عبد الله كلية الطب، حيث تخصص في طب العيون وتخرج فيها عام 1983 ليتفرغ لممارسة مهنة الطب لفترة وجيزة جدا وذلك في مستشفى نور في وسط العاصمة كابل (لا يزال يحمل نفس الاسم حتى يومنا هذا). لم يتمكن عبد الله عبد الله من مواصلة عمله كغيره من المهنيين والمثقفين الأفغان بسبب الغزو السوفياتي السابق لأفغانستان حيث اختار عبد الله طريقه للخروج من أفغانستان والتحق بأحزاب المجاهدين الذين كانوا يتخذون من مدينة بيشاور في شمال غربي باكستان منطلقا لتحركاتها ضد حكومة كابل المدعومة من الاتحاد السوفياتي السابق. في البداية انشغل عبد الله عبد الله بمهنة ممارسة الطب في مستشفى سيد جمال الدين أفغاني في مدينة بيشاور وكان يعالج اللاجئين الأفغان الذين تدفقوا إلى مدينة بيشاور عقب اندلاع الحرب بين أحزاب المجاهدين وقوات الاتحاد السوفياتي السابق في ثمانينات القرن الماضي. استمر عبد الله عبد الله في ممارسة الطب لمدة وجيزة ورأى أن هناك جبهة أخرى لا تقل أهمية وهي بحاجة ماسة إليه. وهي جبهة المقاومة للسوفيات. حيث لم يتردد في الانضمام إليها وذلك في عام 1985. وفي العام نفسه اختار عبد الله جبهة المقاومة في ولاية بانشير مسقط أخواله تحديدا في جبهة القائد الشمالي الأسطوري أحمد شاه مسعود الذي اغتاله عنصران من تنظيم القاعدة تنكرا في لباس الصحافيين في التاسع من سبتمبر (أيلول) عام 2001. اضطلع عبد الله عبد الله في البداية بمسؤولية الرعاية الصحية في جبهة بانشير التي استعصت على القوات الروسية وعلى مسلحي طالبان أن يدخلوا إليها حيث كان عبد الله يمضي معظم أوقاته في معالجة مئات المقاتلين الذين كانوا يسقطون جرحى في قتالهم ضد القوات الروسية والحكومية المدعومة من موسكو. وفي الفترة نفسها شغل عبد الله عبد الله منصب مستشار خاص للقائد الشمالي الراحل أحمد شاه مسعود وبات لسانه الذي يتحدث به وجسر تواصل مع العالم الخارجي الذي كان بحاجة لفتح نافذة على المقاتلين الأفغان، وبما أن عبد الله كان يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة فقد بات عنصرا مهما ومتحدثا بارعا في جبهة بانشير، ولن نكون مبالغين إن وصفناه بأنه هو الذي عرّف جبهة بانشير التي كانت من أكثر الجبهات الأفغانية المقاتلة تمسكا وانتظاما بالعالم الخارجي بفضل معرفته الإنجليزية. وأثناء دخول أحزاب المجاهدين إلى العاصمة الأفغانية عام 1992 عقب الإطاحة بحكومة نجيب الله، آخر رؤساء أفغانستان، والذي أعدمته حركة طالبان عام 1996 في العاصمة كابل. وفي الفترة الممتدة بين عامي 1992 إلى 1996 عين عبد الله عبد الله رئيس مكتب وزير الدفاع الأفغاني أحمد شاه مسعود ومتحدثا باسم وزارة الدفاع الأفغانية وكان الجهة الوحيدة التي تنقل أحداث أفغانستان إلى العالم الخارجي عبر لقاءاته التلفزيونية والإذاعية خاصة مع إذاعة «بي بي سي» قسم اللغات المحلية الأفغانية. وفي عام 1997 عين مساعدا لوزير الخارجية الأفغانية في الحكومة التي كان برهان الدين رباني زعيم جبهة التحالف الشمالي يترأسها خارج العاصمة كابل تحديدا في ولاية تخار، وفي عام 1999 عين قائما بأعمال الوزارة الخارجية الأفغانية في الحكومة نفسها. وبعد ظهور حركة طالبان عام 1996 والتي سيطرت على معظم المناطق الأفغانية بما فيها العاصمة كابل. انسحبت الحكومة الأفغانية برئاسة برهان الدين رباني إلى الشمال الأفغاني وظل عبد الله عبد الله عنصرا مهما من عناصر تلك الحكومة وبقي يلازم القائد العسكري المناوئ لحركة طالبان أحمد شاه مسعود. كما أنه بات مصدر أخبار يكاد يكون وحيدا لدى الوكالات الدولية حول ما يجري في الداخل الأفغاني من قتال بين قوات التحالف الشمالي ومسلحي طالبان. وشارك عبد الله في عدد من مؤتمرات دولية وإقليمية عقدت في عدد من العواصم الأوروبية والإقليمية لمناقشة الوضع الأفغاني. وظل يردد على مسامع العالم الخطر القادم من جبال وكهوف أفغانستان المتمثل في حركة طالبان المتحالفة مع تنظيم القاعدة. وكان يركز في خطاباته على أن طالبان ليست خطرا على أفغانستان فقط وإنما هي تهديد ممنهج سيهدد العالم بأسره. وبدأ نجم عبد الله يسطع في سماء السياسية الأفغانية بعد الإطاحة بنظام طالبان عام 2001 عقب الهجوم الأميركي والحلفاء على نظامها بعد أن رفضت تسليم أسامة بن لادن المتهم في عمليات تفجير برجي التجارة العالمية في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، حيث أسندت إليه حقيبة الخارجية الأفغانية في مؤتمر بن الذي عقد بين الفصائل الأفغانية برعاية أممية لملء الفراغ السياسي الذي نتج عن إسقاط حكومة طالبان. حافظ عبد الله عبد الله على منصبه في الخارجية الأفغانية في الحكومة الانتقالية ومن ثم في الإدارة المؤقتة اللتين ترأسهما الرئيس الأفغاني الحالي حميد كرزاي. كما أنه من الوزراء القلائل الذين حافظوا على مناصبهم في التشكيلة الوزارية التي تمخضت عن أول انتخابات رئاسية أفغانية مباشرة شهدتها البلاد بعد رحيل نظام طالبان وذلك في عام 2004، وفي هذه الفترة يعتبر من الوزراء القلائل الذين نجحوا في مهماتهم وتمكنوا من نقلة نوعية خاصة فيما يتعلق بإصلاح المؤسسات الحكومية وتعيين الموظفين الأكفاء في الوزارات التي ترأسها. لكن أفغانستان تأتي فيها المصالح والانتماءات العرقية والقبلية على رأس أولويات الساسة، لذلك أُبعد عبد الله عبد الله من منصبه عام 2006 ضمن تعديل وزاري قام به الرئيس الحالي حميد كرزاي. وهو قرار استقبل بكثير من الانتقادات من المجتمع المدني والأوساط السياسية، لكن عبد الله، السياسي المخضرم، بخبرته الواسعة وتجاربه الكبيرة قَبِل قرار الرئيس، مؤكدا أنه سيظل في خدمة الشعب الأفغاني سواء كان في داخل الحكومة أو خارجها لترك الديمقراطية الوليدة تأخذ مسارها الطبيعي. لعب عبد الله عبد الله دورا مهما وبارزا في تقريب وجهات النظر بين كابل وإسلام آباد حول الحرب على ما يسمى بالإرهاب والقضايا المعلقة بين البلدين، وذلك بعد أن عين من الجانب الأفغاني رئيسا على مجلس قبلي لإجراء محادثات مع مجلس قبلي آخر تشكل في الجانب الباكستاني لمناقشة الأوضاع على جانبي الحدود والتوصل إلى رؤية واضحة لحلحلة الملفات العالقة بين البلدين المجاورين. ولم يسترح عبد الله في الفترة بين 2006 حتى 2009 بل ظل في تواصل مستمر مع الأحزاب والتكتلات السياسية الأفغانية من خلال عقد ندوات ومؤتمرات يشرح فيها رؤيته السياسية لمستقبل بلده ويقدم طروحات ومقترحات لتحسين الوضع السياسي والأمني. كما أنه عزز خيوطه مع الدول الكبرى ومع الشخصيات المؤثرة فيها لجلب أنظارها إلى الأزمة الأفغانية التي يراها بأنها تتفاقم في ظل فشل الحكومة الأفغانية في بسط سيطرتها على كامل أراضيها وعدم الجدية في التعاطي مع قضية الحوار والمصالحة مع جماعة طالبان، كما أنه يتهم الدول التي لها قوات مقاتلة في أفغانستان بعدم وجود استراتيجية ورؤية واضحة للخروج من المعضلة. ومن أجل مواصلة مسيرته السياسية وتحقيق آماله وطموحاته وبرامجه التي يعتبرها إصلاحية، دخل عبد الله عبد الله المسرح السياسي الأفغاني المحفوف بالمخاطر بإعلانه الترشح لخوض ثاني انتخابات رئاسية تشهدها البلاد منذ رحيل نظام طالبان. واحد وأربعون مرشحا بينهم سيدتان في أفغانستان ما بعد طالبان دخلوا حلبة الصراع، لكن المنافسة الحقيقية كانت بين الرئيس الحالي المنتهية ولايته حميد كرزاي (الذي ينحدر من العرقية البشتونية) وعبد الله عبد الله (الذي يجمع بين الطاجيك والبشتون). تميزت الحملة الانتخابية للدكتور عبد الله بشعاره الانتخابي المتميز والكبير والطموح وهو العمل من أجل التغيير. هذا الشعار وصف بأنه يحمل نفس بصمات الرئيس الأميركي الديمقراطي باراك أوباما. كما تميزت حملته الانتخابية بالهدوء وشدة التنظيم والانسجام، وشبهها البعض بحملة مير حسين موسوي المرشح الرئاسي الإصلاحي الخاسر في الجارة إيران. ساعده على ذلك انفتاحه على التطورات السياسية في العالم وكثرة قراءاته. فعبد الله عبد الله، متزوج وله ثلاث بنات وابن، معروف بأنه نهم للقراءة ومحب للفروسية، ويجيد اللغتين الدارية والبشتوية وهما اللغتان الرسميتان في أفغانستان. كما يجيد اللغة الإنجليزية، ويفهم اللغة العربية والفرنسية. لم يترك عبد الله منطقة في أفغانستان إلا وذهب إليها ضمن حملته الانتخابية وهو يروج لشعاره «التغيير» وفي تفاصيل هذا الشعار فإنه قال في أكثر من مناسبة إنه يتطلع إلى تغيير النظام السياسي من الرئاسي المتمركز على شخص واحد إلى إعطاء مزيد من الصلاحيات للمحافظات والأقاليم وإحداث منصب رئاسة الوزراء ومنح البرلمان صلاحيات أكثر. ويقول بأن الوضع الأفغاني لن يتحسن إلا بإحداث تغييرات أساسية تبدأ من رأس السلطة. وقال في إحدى المناسبات لمناصريه «امنحوني السلطة أُعِد لكم حقوقكم». شعارات ربما لن يفهمها الأفغان في هذه المرحلة خاصة أن معظمهم لا يقرأون ولا يعرفون الكتابة. كما أنه يصعب عليهم التخلص من الانتماءات العرقية الضيقة على حساب الوطن والمواطنة. شعار «التغيير» الذي رفعه عبد الله عبد الله لقي ترحيبا كبيرا وواسعا لدى الأوساط السياسية والطبقة الأفغانية المثقفة، تحديدا جيل الشباب، الذي على ما يبدو يئس من الأوضاع الجارية، والذي يتطلع إلى إحداث تغييرات جذرية على كيان الدولة الأفغانية، وبات عبد الله بفضل شعاراته الانتخابية مقربا جدا من جيل الشباب، والذين تطوعوا للترويج لشعاراته وحملته الانتخابية في طول البلاد وعرضها. وعلى الرغم من أن عبد الله عبد الله مرشح مستقل فإنه يحظى بدعم جماعات وأحزاب سياسية كبيرة كما يحظى بدعم شريحة كبيرة من المجتمع المدني الأفغاني، حيث أعلنت الجبهة الوطنية المعارضة (أكبر الأحزاب الأفغانية التي يتزعمها بروفسور برهان الدين رباني رئيس الجمهورية السابق في عهد المجاهدين) في انتخابات الرئاسة الأفغانية التي عقدت جولتها الأولى في العشرين من أغسطس (آب) الماضي دعمها الكامل والمطلق لعبد الله عبد الله. كما حظي بدعم عناصر في التحالف الشمالي السابق وأشقاء القائد الراحل أحمد شاه مسعود. وأعلن حاكم إقليم مزار الشريف في الشمال الأفغاني عطاء محمد نور بأنه يدعم برامج عبد الله عبد الله الانتخابية. فالرجل، على الرغم من أنه خليط من البشتون والطاجيك، محسوب على الشماليين المناوئين لحركة طالبان المنحدرة في الأساس من القبائل البشتونية. وهذا ظهر جليا في نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي حصل فيها عبد الله على غالبية الأصوات الشماليين بينما ذهبت أصوات البشتون لصالح غريمه الرئيس حميد كرزاي. استطاع عبد الله عبد الله أن يثبت بأنه رقم صعب ويشكل تحديا كبيرا أمام منافسه حميد كرزاي الذي كان يعتبر نفسه فائزا في الدورة الأولى بأغلبية كبيرة من أصوات الناخبين، لكن عبد الله وحملته الانتخابية، التي وصفت بأكثر الحملات تنظيما وخبرة، تمكنت من تفنيد هذا الزعم وأثبتت من خلال الكشف عن عمليات تزوير واسعة وخروقات انتخابية قالت إنها وقعت من جانب معسكر المرشح الحاكم حميد كرزاي. واستطاع عبد الله عبد الله إقناع المجتمع الدولي بأن كارثة سياسية على وشك الوقوع في بلاده التي ناضل من أجلها لأكثر من ثلاثين عاما من حياته. ويؤكد عبد الله عبد الله، البالغ من العمر خمسين عاما، بأنه لن يسمح بأن ينحرف قطار الديمقراطية الأفغانية عن مساره الطبيعي. ويقول في أحد خطاباته للشباب وطلبة الجامعات بأنه «ليس مهما الفوز بكرسي الرئاسة وإنما المهم هو العمل من أجل إقامة نظام ديمقراطي يقوم على أساس عملية انتخابية شفافة وعادلة ونزيهة». وعلى الرغم من أن البرنامج الانتخابي والشعارات التي حملها عبد الله عبد الله تعتبر متقدمة وقد تسفر عن إصلاح الوضع الأفغاني في مختلف مجالاته، فإن هذا البرنامج يواجه معارضة شديدة من قبل البشتون الذين يشكلون ما يقارب خمسة وأربعين في المائة من مجموع سكان أفغانستان خاصة شعار التغيير الذي يرمي إلى إحداث منصب رئاسة الوزراء والذي سيؤدي لا محالة إلى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الذي دائما ما كان من القبائل البشتونية. وبما أن الانتخابات الرئاسية الأفغانية ذهبت إلى جولة الإعادة ولم يتم حسمها في الجولة الأولى بعد شطب نتائج نحو مائتين وعشرة مراكز اقتراع على خلفية عمليات تزوير، فإن المنافسة بين عبد الله عبد الله والرئيس كرزاي ستكون قوية وشديدة. وسواء أدت الجولة الثانية إلى فوز عبد الله أو فشله أمام منافسه فإنه، بحسب المراقبين، كسر الصمت وأثبت عكس المقولة الأفغانية التي كانت تقول دائما بأنه يجب أن يكون الرئيس من البشتون. كما أن خسارة عبد الله المحتملة في الدورة الثانية لا تعني بتاتا انسحابه من المعركة السياسية، فالرجل بات بنظر الكثيرين في الداخل والخارج عنصرا مهما وشخصية كاريزمية مؤثرة لا يمكن تجاهلها في أي قرار يمكن أن يتخذ بشأن مستقبل أفغانستان.