جريا.. وراء الذهب

مع التذبذب الكبير في أسعار العملات.. العالم كله يشتري المعدن الأصفر الذي لا تنقص قيمته

الذهب معدن نفيس منذ القدم.. أشعل حروبا.. وبنى ممالك
TT

يبدو أن الجميع يهرع إلى الذهب. فهذا المعدن الأصفر التاريخي الذي قامت على حسه حروب وغزوات، وأقام ممالك ودمر أخرى، يبدو الآن وسط التقلبات غير المسبوقة في أسعار العملات «الملجأ» من كل تقلب وخسارة محتملة.

وفي «وول ستريت»، شارع المال والاستثمارات في نيويورك، وصل سعر أوقية الذهب إلى رقم قياسي، إذ وصل إلى 1,069 دولار. وفي الوقت نفسه، انخفضت قيمة الدولار إلى أقل درجة منذ بداية الأزمة الاقتصادية قبل سنة ونصف السنة تقريبا: يورو ونصف يورو أوروبي. وفي الوقت نفسه، ارتفع سعر برميل النفط إلى رقم قياسي منذ شهرين: 74 دولارا.

وهكذا، تأكد وجود علاقات قوية بين الدولار الذي كان يسمى العملة الذهبية، وبين الذهب الأسود، وبين الذهب الحقيقي. لكن، ظل الذهب الحقيقي يرتبط أكثر بالدولار، وبالثروة، وبالتجارة العالمية منذ بداية التاريخ المدون. وذلك لأن الذهب الحقيقي كان أول عملة في التاريخ. ففي بداية التاريخ، لم تكن هناك عملات، وكان الناس يتبادلون محاصيلهم ومنتوجاتهم. وعندما بدأوا في استعمال العملة، كان الذهب أول عملة. طبعا اليوم لم يعد الذهب عملة، لكنه يستعمل في الميداليات، والذكريات، والهدايا، والزينة، وطبعا بالإضافة إلى الاستثمار.

وقبل ثلاثة آلاف سنة من ميلاد المسيح، كان المصريون الفراعنة يستعلمون الذهب كعملة، ولا تزال هناك جملة باللغة الهيروغليفية متبقية تقول: «كان الذهب أكثر من التراب». وفي ذلك الوقت، اشتهرت منطقة النوبة بإنتاج الذهب (ربما هذا من أسباب اكتشاف الذهب عبر البحر الأحمر، في السعودية).

وفي التوراة، في سفر بدء الخليقة: «أول نهر بعد الخليقة كان نهر بيشون، في منطقة حفيلة، حيث الذهب» (يعتقد أنها منطقة عدن، ولها صلة ببلقيس وذهبها، ثم النبي سليمان وقصوره الذهبية). وفي الإنجيل، في «إصحاح متى» عندما جاء ثلاثة رجال حكماء إلى بيت لحم حيث ولد المسيح، وقالوا إنهم عرفوا ميلاده من النجوم في السماء. وأحضروا له «هدايا الذهب والعطور والمر». وفي الإنجيل أيضا، في إصحاح كشف الأسرار، عن عودة المسيح: «ستمتلئ شوارع القدس بالذهب الخالص. سيكون صافيا مثل الزجاج».

وهناك الأسطورة اليونانية عن ميداس اليوناني. فقد قال له دايونيسس، حكيم إغريقي: «تمنَّ». فتمنى أن يتحول كل ما تمسكه يداه إلى ذهب. حتى تحولت بنته إلى تمثال من الذهب.

وغير الأساطير، هناك التاريخ: قبل خمسمائة سنة من ميلاد المسيح، كان كريسوس، ملك يوناني، أول من استعمل الذهب كتجارة، خزنه وباعه واشتراه. وكتب هيرودوتس، المؤرخ اليوناني، أنه زار الملك وشاهد أكوام الذهب. وناقشه عن إذا ما كان الذهب يجلب السعادة. وهو قال لا، والملك قال نعم.

وحتى اليوم، ارتبط اسم الملك بالثروة والذهب، حتى إن قاموس أكسفورد يشير إلى أن كلمة «كريسوس» معناها الثروة، وأن جذورها تعود إلى الملك. ويقول مثل بريطاني إن شخصا «أغنى من كريسوس». ويغني بريطانيون قصيدة من سنة 1390 عن الرجل.

لكن الذهب نعمة ونقمة. ففي سنة 555 قبل الميلاد، قتل ولد الملك كريسوس في حادث. ثم انتحرت زوجته. ثم هزمه سايروس، الإمبراطور الفارسي، وحطم الإمبراطورية اليونانية. وفي سنة 546، نادى سايروس كريسوس ليقف أمام عرشه الجديد في بلاد اليونان. وسأله مرة أخرى إذا كان الذهب يجلب السعادة، وإذا كان الذهب سينقذه من حكم الإعدام الذي أصدره قادة الجيش الفارسي. بكى كريسوس، ونادي أبولو، أحد آلهة اليونان، لينقذه. لكنه، طبعا، لم ينقذه، وأمر سايروس بأن يحرق الملك أمام عينيه. غير أن سايروس احتفظ بذهب كريسوس. وربما كان ذلك إشارة سوء، لأن الإمبراطورية الفارسية نفسها انهارت في وقت لاحق.

وفي الاستثمار وفي الزينة، يظل الذهب نعمة ونقمة، عبر التاريخ.

ففي بعض قصص ألف ليلة وليلة أغنية: «الذهب الذهب، يكاد عقلي يذهب. لونه جميل وصوته رنان. النفس تشتهيه ويعبده الجان». ومنذ سنة 1934، عندما أنتجت هوليوود أول فيلم عن الذهب، ظلت تنتج أفلاما بعد أفلام، منها عن النعم، ومنها عن النقم. فيلم عن الألمان، أيام هتلر، وهم يحاولون تحويل الذهب إلى طاقة (مثل اليورانيوم) لإنتاج القنبلة النووية. وفيلم عن جيمس بوند يذهب إلى جنوب أفريقيا ليهزم عصابات الذهب، وتقع في غرامه شقراء هي زوجة مدير الشركة الذي استدعاه.

وفي سنة 1979 غنى جون ستيوارت «أحب الذهب، أهوى الذهب». وفي سنة 1995، غنى برنس.. وفي هذه السنة، غنت بيفرلي نايت: «سأتركك يا حبيبي. أنا لست مثل المعادن الأخرى. لن تجد مثلي. أنا ذهب صاف». وأنشد أبو آمنة حامد، شاعر سوداني: «سال من شعرها الذهب، وتدلى وما انسكب». وصار لكلمة «غولد» (ذهب) معنى خاص: اسم نوع من المخدرات المكسيكية الرائجة في الولايات المتحدة. واسم رئاسة كنيسة العلميين (ساينتولوجيستز). وفي الذهب الأسود، وساحل الذهب، وسن ذهبية، وميدالية ذهبية، وذهب الأغبياء، وبلاج الذهب في كاليفورنيا، وبنات ذهبيات (اللائي يمشين على بلاج الذهب). وأهم ميدالية في أيام الاتحاد السوفياتي. وحقن الذهب (لعلاج الروماتيزم)، وآيس كريم بالذهب (حبيبات صغيرة جدا، تؤكل).

وظل الذهب بين نعمة ونقمة. إذ يتذبذب سعر الذهب، وتتذبذب سمعة الذهب. وتوجد صلة بين الاثنين. في الأسبوع الماضي، قالت جريدة «وول ستريت جورنال»: «يخاف المستثمرون في الذهب من مشاكل شركات استخراج الذهب» وذلك لأن ارتفاع سعر الذهب لا بد أن يشجع شركاته على استخراج المزيد. ويمكن أن يكون هذا سببا في زيادة تلوث البيئة. وزيادة نشاطات جمعيات المجتمع المدني ضد هذه الشركات. وزيادة القضايا ضد هذه الشركات في المحاكم، خاصة المحاكم الأميركية والكندية.

وقالت الجريدة: «لن يكتفي المستثمرون في الذهب ببريق لمعانه، ولا بزيادة سعره. يريدون أدلة قوية تثبت أن بريقه سيستمر (لن تشوبه قضايا التلوث ضد شركات استخراجه). وأن ارتفاع قيمته سيستمر (لن يؤثر على ذلك سعر الدولار وعوامل أخرى).

وقال ديفيد ميغار، مدير تجارة المعادن في «فيشن فاينانشيال ماركت» (سوق المضاربات المستقبلية) في شيكاغو، لـ«الشرق الأوسط» إن هناك عاملين وراء ارتفاع سعر الذهب أخيرا.. أولا: يريد المستثمرون استمرار ارتفاع السعر، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، حتى تزيد أرباحهم.

ثانيا: يريد المسؤولون الأميركيون زيادة سعر الفائدة للدولار (وصلت إلى درجة قريبة من الصفر لمواجهة الكارثة الاقتصادية، ولتشجيع الاستدانة والاستثمار).

في الحقيقة، في يوم الثلاثاء نفسه الذي وصل فيه سعر الذهب إلى رقم قياسي، قال بنجامين بيرنانكي، رئيس «فيدرال ريزيرف» (البنك المركزي الأميركي): «وصلنا قاع الأزمة من وقت ليس قريبا، والآن نحن نصعد إلى أعلى. لهذا، يمكن أن يصعد سعر الفائدة إلى أعلى».

وقال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن هذه أول مرة يقول فيها بيرنانكي ما معناه إن سعر الفائدة سيزيد. وبالتالي، لن يستمر سعر الذهب في الارتفاع إلى ما لا نهاية. وفي نفسه الوقت، قال لاري سرمرز، رئيس المجلس الاقتصادي الوطني في البيت الأبيض وكان وزيرا للخزانة في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، وبعد ذلك رئيسا لجامعة هارفارد: «آجلا أو عاجلا، نريد أن يكون الدولار عملة عالمية قوية. قوتنا في قوة دولارنا». ولا بد أن تجار الذهب (الذين يستخرجونه والذين يشترونه ويبيعونه) لن يصفقوا لمثل هذه العبارات، وهي خليط من عبارات اقتصادية، ووطنية.

لكن الذهب بين نعمة ونقمة، ففي يوم الثلاثاء نفسه، قال سكيب سكوت، محام أميركي في أوستن بولاية تكساس، إنه يستمر في قضية ضد شركة «نيومونت» التي تستخرج الذهب من منجم عملاق في ولاية نيفادا، وذلك بتهمة تلويث البيئة بسبب فضلات ومخلفات عملياتها. وأيدته كاثرين كومانز، رئيسة منظمة «مايننغ ووتش» (مراقبة المناجم). وقالت إن «كارثة» ولاية نيفادا واحدة من «ستين حالة تلوث في العالم، بسبب عمليات شركات استخراج الذهب، ومعادن أخرى». ومن المفارقات في الكونغرس، في واشنطن، أن اللجنة الاقتصادية في مجلس الشيوخ ستناقش ارتفاع سعر الذهب، بينما ستناقش لجنة فرعية في مجلس النواب «كارثة» مناجم الذهب.

وفي الوقت نفسه، تنظر محكمة في كندا قضية استمرت سنوات ضد شركة «باريك»، أكبر شركة في العالم لاستخراج الذهب. خلال ثلاثين سنة من عملياتها في الفيليبين، رمت الشركة أكثر من مائتي مليون طن من المواد الكيماوية الضارة (ساينايد، زئبق، إلخ) في نهري «موغونغ» و«بروك» اللذين حملاها إلى بحيرة «كالاناكان». وربما ما كانت الشركة الكندية ستواجه عقوبات لولا أن ولاية «مارينوغاو» في الفيليبين استأجرت محامين في كندا رفعوا القضية بالنيابة عنها. تريد الولاية مائة مليون دولار كندي تعويضا عما لحق بسكانها من موت ومرض وتلوث.

في الأسبوع الماضي، تطورت قضية شركة الذهب في كندا. أعلن عضو في البرلمان أنه سيقدم اقتراحا لمعاقبة الشركة وشركات معادن أخرى بسبب أدوارها في تلويث البيئة، ليس فقط في الفيليبين، ولكن، أيضا، داخل كندا نفسها، في ولاية نيوفاوندلاند، حيث تسمم كنديون بسبب فضلات شركة لاستخراج الرصاص. وقال: «قبل أن تكون هذه مشكلة تلوث بيئة، هي مشكلة حقوق الإنسان. لا يكفى أن نتهم، ونعاقب، حكومات بخرق حقوق الإنسان في بلادها، كبتا، وتعذيبا، وقتلا. جاء وقت اتهام، ومعاقبة، شركات عالمية تخرق حقوق الإنسان، تسمما، ومرضا، وقتلا». وأضاف: «القتل هو القتل».

وفي كندا أيضا، في اليوم نفسه الذي نشرت فيه جريدة «غلوب آند ميل» تقريرا عن ارتفاع سعر الذهب، ووصوله إلى رقم قياسي، نشرت تقريرا من اندي هوفمان، مراسلها الذي أرسلته إلى الفيليبين، عن أضرار استخراج الذهب. وفي كلمات عاطفية مؤثرة، وصف الصحافي الوضع في جزيرة «مارينوغاو»، التي قال إنها في شكل قلب، «لكنه قلب يدمي».. فهناك بقايا مناجم شركة «بلايس دوم» (التي اشترتها شركة «باريك»)، ومنازل الخبراء الغربيين الخربة بعد أن هربوا من الفيليبين عندما تفاقمت المشكلة. وملعب الغولف الذي تربت فيه الحشائش حتى صار مثل غابة. وربع مليون فيليبيني تأثروا، تسمما، وموتا.

وفي النرويج، مؤخرا وضعت الحكومة شركة «باريك» في القائمة السوداء بسبب عمليات تلويث في غينيا الجديدة (بابوا)، في وادي نهر «يوغيرا». وسحب صندوق المعاشات النرويجي استثماراته في الشركة. وقال مجلس الرقابة الأخلاقية في الصندوق: «تعرضت قبائل تعيش آلاف السنين في هدوء إلى مواد كيماوية سامة، بسبب البحث عن الذهب». واعتمد النرويجيون على تقرير أصدره، في بداية هذه السنة، برنامج الأمم المتحدة لحماية (يونيب). ورغم أن التقرير قال إن الشركة أوقفت استعمال الساينايد في بعض المناجم، أو تخزن آثاره بدلا من أن تتركها تتدفق إلى البحر، قال إن «المشكلة تستمر». واتهم آخرون الشركة بأنها «تكبت أصوات المعارضين، وتقسم الأهالي، وتستغل السياسيين والوطنيين».