غريفين.. سياسة اللون

يعتبر أن الصينيين خبثاء لا يرحمون والهنود قذرون ورائحتهم كريهة والمسلمين أشرار

TT

لحظة دخوله البرلمان الأوروبي، كانت اللحظة التي انتظرها طوال حياته. بفخر واعتزاز كبيرين، وصل نيك غريفين، زعيم الحزب الوطني البريطاني المدان بالتحريض على الكراهية العنصرية، في 13 يوليو (تموز) إلى البرلمان في بروكسل، ليأخذ مقعده بين نواب أوروبيين آخرين. إلا أن تلك اللحظة المنتظرة، لم تجرِ كما كان يتخيلها. ففي ذلك اليوم، تلقى غريفين، الذي يرأس حزبا لا يسمح إلا للأوروبيين البيض بالانتساب إليه، ضربتين أعادتاه إلى الواقع: هو ليس بسياسي عادي. الضربة الأولى كانت من زميلته في البرلمان الأوروبي، النائبة الأيرلندية ديان دودز التي رفضت أن تأخذ مقعدها بالقرب من زعيم يصفه كثيرون بأنه «فاشي». والضربة الثانية، وجهتها له الوزيرة الأوروبية البارونة غلينيس كينوك عندما تغاضت عن توجيه دعوة له ولزميله المنتخب من الحزب نفسه، لحضور حفلة أقيمت للترحيب بالنواب الجدد. دفع ذلك غريفين إلى وصف البارونة في ما بعد بأنها «عاهرة سياسية». النفور الذي أحاط به في ذلك اليوم، كان عكس ما يأمل. تلك المناسبة، أرادها غريفين بداية انخراطه في الحياة السياسية كأي سياسي بريطاني وأوروبي آخر، إلا أن ذلك لم يحصل حينها. فهو عجز حتى عن تشكيل أي تحالف سياسي في البرلمان الأوروبي. ولكن الفرصة التي لم يحصل عليها في البرلمان الأوروبي، أتته بعد نحو 3 أشهر، عندما حل ضيفا على أحد أهم برامج الحوار السياسية في بريطانيا: «ساعة استجواب». ظهر حينها إلى جانب وزير العدل البريطاني جاك سترو وممثلين عن الأحزاب الأساسية الأخرى في البلاد. ولكن الحلقة التي عرضت طوال ساعة من الوقت، لم تخل من الجدل. فقد حدثت مظاهرات معادية للفاشية، اعتراضا على إعطاء منبر محترم على شاشة الـ«بي بي سي» لسياسي متطرف لم يتردد المتظاهرون في رميه بالبيض عندما حاول عقد مؤتمر صحافي في لندن لإعلان فوزه في مقعد بالبرلمان الأوروبي. ولكن الـ«بي بي سي» بررت استضافته بأنه عضو منتخب في البرلمان الأوروبي، حصل على أصوات نحو مليون ناخب بريطاني. وقالت إن التغاضي عن استضافته خارج عن أخلاقيات المحطة.

الجدل الذي سبق الحلقة، لم ينته مع انتهائها. غريفين البالغ من العمر 50 عاما، رفع دعوى قضائية ضد الـ«بي بي سي» واتهمها بأنها كانت متحيزة ضده وأنها غيرت شكل البرنامج، وحولته من حوار سياسي يركز على موضوعات الساعة، إلى حوار يتركز حول شخصه وحزبه. قال إن الجمهور الذي حضر تصوير الحلقة، كان عدائيا، وإنه «جرى انتقاؤه من مدينة (لندن) لم تعد بريطانية». وكان بين الحضور عدد كبير من الأقليات، من البريطانيين السود والآسيويين، وهؤلاء لا يعتبرهم غريفين بريطانيين حقيقيين. فهو معاد للهجرة، يؤمن بأنه يجب إعادة ترحيل هؤلاء إلى بلدانهم الأم.

لكن في المقابل، زعم الحزب الوطني البريطاني أنه منذ عرض الحلقة وحتى الآن، تلقى 25 ألف طلب تسجيل أو انتساب. وقال إن الحلقة أمنت له دعاية كبيرة لم يحصل على مثيل لها منذ انطلاق الحزب عام 1984. طوال أسابيع سبقت عرض الحلقة وتلتها، يقف غريفين في دائرة الأضواء. ومنذ أكثر من شهر، لا يمر يوم في بريطانيا إلا وتتناول صحيفة يومية خبرا عنه. فمن هو هذا الرجل الذي أسر بريطانيا؟ وما سبب الجدل الذي يحيط به؟

من يعرفه من صحافيين، يقول عنه إنه لطيف ومرح، وإن شخصيته تتناغم مع شخصية خريجي جامعة كامبريدج العريقة، من حيث تخرج. فغريفين درس الحقوق وتخرج في جامعة كامبردج العريقة في نهاية السبعينات. يروى عنه أنه عندما يكون بين أصدقائه، يحب أن يؤدي حركة يعتقد أنها مضحكة جدا: ينزع عينه الزجاجية ويضعها على الطاولة أمامه. فهو فقد عينه اليسرى عام 1990، عندما انفجرت خرطوشة بندقية في كومة من الحطب المشتعل خارج منزله، بحسب روايته. إلا أن آخرين يقولون إنه أصيب بطلق ناري عن طريق الخطأ أثناء مشاركته بمناورات. قال مرة تعليقا على فقدانه عينه، إن الحادث غيّر حظوظه، وإنه جعله غير قادر على العمل. وفي الأعوام التي تلت إصابته في الحادث، كان والداه ينفقان عليه. فبعد فترة قصيرة من فقدانه عينه، أعلن إفلاسه بسبب خسارته أموالا طائلة في صفقة مالية في فرنسا. أخذ غريفين الكثير من أفكاره المتطرفة من والديه. فوالده إدغار غريفين الذي كان عضوا في حزب المحافظين، اصطحبه لحضور اجتماع للجبهة الوطنية (جبهة يمينية متطرفة للبيض فقط) ولم يكن قد تجاوز بعد الخامسة عشرة من العمر. ووالدته ناشطة في الحزب الوطني البريطاني اليوم. يعترف نيك غريفين نفسه أنه قرأ كتاب «ماين كامف» لهتلر عندما كان في الثالثة عشرة من العمر. يروي عن ذلك أنه وجد الكتاب مملا، باستثناء فصل واحد أعجب به كثيرا، وهو الفصل الذي يتحدث فيه هتلر عن الدعاية السياسية أو البروباغاندا. يقول إنه «وجد كثيرا من الأفكار المفيدة» في هذا الفصل. قد يكون هذا الفصل حول البروباغاندا، هو ما جعل غريفين يحول اهتمام الحزب الذي تأسس عام 1984، من التركيز على التهجم على اليهود، إلى استهداف المسلمين. «مهاجمة الإسلام تجعل الحصول على دعم شعبي أسهل»، تقول سونيا غابل، صحافية متخصصة في الكتابة عن الحزب الوطني البريطاني في مجلة «سيرتش لايت» المناهضة للتطرف لـ«الشرق الأوسط». كما أن نكران الهولوكوست يعتبر في معظم البلدان الأوروبية جريمة يعاقب عليها القانون. وتشير غابل إلى أن غريفين قال في أحد خطاباته، إنه «يريد أن يحول الحزب من حزب لا ينتخب إلى حزب ينتخب». وتعتقد أنه لهذا السبب، أدخل بعض التغييرات الشكلية. يدعي غريفين أنه غيّر الكثير من أفكار الحزب المتطرفة، وجعلها أكثر اعتدالا. إلا أن غابل تفسر ذلك بالقول: «عرف أنه إذا كان سيلقي خطابات متطرفة جدا لن يتم انتخابه، ولكن أساس أفكار الحزب لم تتغير».

مع وصول غريفين إلى رئاسة الحزب عام 1999، تحول التركيز إلى تجييش البريطانيين ضد المسلمين والترويج إلى أن «الإسلام دين شرير». وعندما ظهر في برنامج «ساعة استجواب»، فسر غريفين الأسباب التي دفعته لوصف الدين الإسلامي بـ«الشرير»، وقال: «أنا أعتبر الإسلام دينا شريرا لأنه يعامل النساء كمواطنين من الدرجة الثانية، ويقول إن كل امرأة ضحية الاغتصاب يجب أن يتم رميها بالحجارة لأنها ارتكبت الزنا، وهو دين يأمر، كواجب ديني، بقتل اليهود وغير المسلمين». حتى أنه حاول خلال الحلقة أن يمحو ماضي الحزب المعادي لليهود، وقال: «خلال حرب غزة، الحزب الوطني البريطاني كان الوحيد الذي قال إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد إرهاب حماس». تفسر غابل نقل الاهتمام من اليهود إلى الإسلام، بالقول: «معاداة السامية لديها سمعة سيئة وهي مرتبطة بهتلر والنازية، ومعظم الناس لا ينظرون إلى اليهود على أنهم مشكلة، ولكن المسلمين مرئيون أكثر، خاصة بعض أحداث 11 سبتمبر (أيلول)». وتضيف: «نحن نعرف أن عددا قليلا جدا من المسلمين يؤيدون الإسلام المتطرف، ولكن الحزب الوطني البريطاني يمكنه بكل سهولة أن يقول إن المسلمين عموما يدعمون الإرهاب وإنهم ضد المرأة...». ولكن المسلمين لم يشكلوا العقدة الأساسية لغريفين منذ البداية. فهو لم يجد مشكلة مثلا في التوجه إلى ليبيا عام 1986 في محاولة لتأمين دعم مادي لحزبه من العقيد معمر القذافي. وقال فيما بعد عن زيارته الفاشلة لطرابلس: «في عقولنا، ليبيا هي بلد صغير مليء بأموال البترول. إذا أردنا أن نبني حركة وطنية جدية في هذا البلد، فنحن بحاجة إلى استقطاب أموال جدية. ولو عُرضت علينا تلك الأموال، لكنا فرحنا جدا بأخذها». وحتى أنه كان من مؤيدي الثورة الإسلامية ويدعم آية الله الخميني. ولكن دعمه للنظام الإسلامي في إيران، لم يكن حبا في الإسلام، بل لأنه وجد نقطة أساسية مشتركة مع الخميني: عدم حب اليهود. فالنفور من اليهود، والتشكيك في الهولوكوست، كان ما كبر عليه غريفين. وتصريحاته المعادية لليهود أقدم بكثير من تلك المعادية للإسلام، وعلاقاته مع الفاشيين أيضا تعود إلى أيام شبابه. ففي عام 2001 قال عن المحرقة في تصريح نشرته «بانوراما»: «أنا أعي تماما آراء اليهود الأورثوذوكس أن 6 ملايين يهودي قتلوا في غرف الغاز وحرقوا وتم تحويلهم إلى مظللات للمصابيح. اليهود الأورثوذوكس قالوا أيضا مرة إن الأرض مسطحة... لقد توصلت إلى استنتاج أن قصة (الإبادة) هي خليط من البروباغاندا التي روج لها الحلفاء أيام الحرب، وهي كذبة مربحة جدا». انطلاقة غريفين السياسية كانت في الجبهة الوطنية بعد تخرجه من المدرسة، وكان لا يزال مراهقا. إلا أن الجبهة الوطنية بدأت تواجه أزمة داخلية مع انخفاض عدد المنتمين إليها بعد وصول حزب المحافظين إلى السلطة تحت زعامة مارغريت تاتشر عام 1979. ودفعت مشكلات داخلية بين غريفين وأعضاء الحزب، بالشاب نيك إلى ترك الجبهة عام 1989 مع بعض الداعمين له. وفي الفترة التي سبقت انفصاله عن الحزب، أصبح غريفين مقربا جدا من روبرتو فيوري، الزعيم الإيطالي الفاشي الذي أدين عام 1985 بسبب انتمائه إلى منظمة إيطالية إرهابية. وأمضى فيوري فترات طويلة في بريطانيا في الثمانينات، حيث أصبح مقربا من غريفين. وأطلق الرجلان بعد انفصال غريفين عن الجبهة الوطنية، حزبا جديدا «الجبهة الدولية الثالثة»، التي تأسست على أفكار النازيين الجدد. إلا أنه ابتعد قليلا عن السياسة عام 1990 عندما أصيب بالحادث الذي أدى إلى فقدانه عينه. وبعد نحو 3 سنوات، عاد غريفين إلى الحياة السياسية، وانضم عام 1995 إلى الحزب الوطني البريطاني الذي كان حينها تحت قيادة جون تيندال، مؤسس الحزب. ويقول غريفين الذي أصبح رئيسا للحزب عام 1999، إنه اختلف مع تيندال حول سياسة الأخير تجاه المسلمين، ويقول عن ذلك: «لأنه كان يكره اليهود لدرجة كبيرة. اعتقد أن المسلمين لا يمكنهم أن يكونوا سيئين كثيرا مثل اليهود». وهكذا حصل غريفين على دعم أغلبية أعضاء الحزب وتوج رئيسا له. يفسر رود ليدل، صحافي في الـ«تايمز»، سبب تغير توجه غريفين من كره اليهود إلى كره الإسلام بالقول: «السبب الوحيد الذي يدعو الحزب الوطني البريطاني لكره الإسلام اليوم، هو أنه دين يمارسه عدد كبير من ذوي البشرة الداكنة».

ومشكلة غريفين مع «ذوي البشرة الداكنة» أو السود، مشكلة أخرى. فهو رجل لا يخجل من الاعتراف بأن اللعبة المفضلة لديه عندما كان صغيرا، هو أن «يعدّ السود في مدينة لندن أثناء جلوسه في سيارة والديه وهما يقودان عبر المدينة». قال مرة في تصريح نقلته الـ«إينديبندنت»: «ليس لدي مشكلة مع الأشخاص السود، إلا أنني آمل أن يبقوا سودا. وأن يكون أبناؤهم سودا بقدر ما هم سود». دومينيك كارمان، صحافي التقى غريفين في جلسات كثيرة غير رسمية وتحدث مع عدد كبير من أصدقائه وأفراد عائلته تحضيرا لكتابة سيرته الذاتية، يقول عنه: «هو رجل خطير ومشوش، مدينته الفاضلة هي حيث كل بريطاني أبيض يعتمد مبادئه، وكل بريطاني غير أبيض يترك هذه الجزر». غريفين يعتبر أن التنوع الثقافي والعرقي في بريطانيا، وهو ما يميز هذا البلد ويفخر به كثيرون من أهله، هو أشبه بالجحيم العرقي. في تصريح لصحيفة الـ«فايننشيال تايمز» عام 2002، اعترف يقول: «الهدف النهائي لي ولحزبي هو أن تكون بريطانيا بيضاء». تقول غابل تعليقا على ذلك: «غريفين يضع اللوم على المهاجرين في فقدان الوظائف، وهناك أيضا النوستالجيا (الحنين) الذي يشعر به البعض إلى بريطانيا كلها بيضاء.. يعتقدون أن الأمور كانت أفضل حينها، وهذا بالطبع خطأ كبير، ولكن البعض يريد أن يعتقد أن الماضي أفضل».

كتب كارمان الصحافي الذي قضى معه أياما، أن غريفين قال له مرة إن «الصينيين خبثاء لا يرحمون، والهنود قذرون ورائحتهم كريهة، والمسلمون أشرار». وقال إنه أهداه مرة شريطا مصورا بعنوان: «الإسلام تهديد لنا جميعا». وقال له إنه يحاول أن يتشارك معه الأفكار حول «أعداء بريطانيا». طرحه حول التخلص من المهاجرين غير البيض، لا يخلو من الغرابة. في تصريح للـ«بي بي سي» في وقت سابق هذا العام، قال وهو يحاول عرض أفكاره حول طروحات الحد من الهجرة: «الطريقة الوحيدة التي ستوقف الهجرة إلى بريطانيا... هي أن نتصرف بطريقة قاسية جدا مع القادمين. بصراحة، عليهم أن يغرقوا العديد من تلك القوارب (التي تقل مهاجرين عبر البحر). أقول إنه يجب إغراق القوارب، يمكنهم أن يرموا لهم عوامة نجاة، أو يمكنهم أن يعودوا إلى ليبيا». وفي تصريح آخر للـ«ديلي تليغراف» في الفترة نفسها، قال ردا على سؤال حول مصير المهاجرين في بريطانيا الذين لا يمكن إعادتهم إلى بلدانهم لأن هويتهم غير واضحة: «ارموا بهم من على متن طائرة في مكان ما فوق أفريقيا. لا آبه فعلا». يعيش غريفين اليوم مع زوجته جاكي وأولاده الأربعة في مزرعة نائية في ويلز، محاطا بحراس وكاميرات مراقبة. لا يخرج من دون سترته الواقية من الرصاص التي يرتديها تحت بذته، على الرغم من أنه لم يتعرض لعملية اغتيال يوما، وكان أقسى ما تعرض له هجوم بالبيض. زوجته هي ممرضة سابقة، وأيضا مساعدته في الحزب. وأولاده يقال إنهم أيضا يلعبون أدوارا ناشطة داخل الحزب الوطني البريطاني. تقول جاكي للصحافي كارمان، عن زوجها: «لم يكن عليه أن يقوم بشيء في منزله، وكان والداه يقولان له إنه دائما على حق، يمكنه أن يفعل ما يشاء ويكون رائعا». تعرف نيك على زوجته عندما كان يبلغ من العمر 19 عاما، وهي 15 عاما. تقول إنه لم يكن له أبدا وظيفة تؤمن الأموال، وكانت هي الفرد الذي يعمل ويصرف على المنزل.

أسئلة كثيرة يمكن طرحها حول أفكار هذا الرجل، وأصدقائه وعلاقته بأهله، في محاولة لفهم تطرفه. وقد وجهت «الشرق الأوسط» بعض الأسئلة إلى مسؤولين صحافيين في الحزب الوطني الديمقراطي، إلا أننا في المرة الأولى لم نتلق ردا. وعندما أرسلنا رسالة أخرى، جاء الرد من جون والكر، نائب المسؤول الصحافي: «ليس لدي الوقت ولا الرغبة في أن أجيب عن أسئلة خاصة حول الرئيس، خاصة لصحافيين أجانب»! قد يشرح هذا الرد الكثير عن غريفين وأتباعه في الحزب.