الانتحار في الأراضي الفلسطينية

تزايدت المحاولات في قطاع غزة والضفة بسبب الحصار والوضع الاقتصادي وغياب الأمل وصعوبة الحركة

المصاعب اليومية للفلسطينيين والوضع الاقتصادي والحصار سببان لتزايد معدلات الانتحار (ا.ف.ب)
TT

طرأت زيادة كبيرة على عدد محاولات الانتحار في قطاع غزة والضفة الغربية خلال الأشهر الثلاث الماضية. فحسب إحصائية صادرة عن إدارة التخطيط والبحوث في الشرطة الفلسطينية في رام الله يتضح أن عدد محاولات الانتحار في الضفة الغربية وقطاع غزة بلغت 312 حالة منذ مطلع عام 2009 الحالي، نتج عنها ثمانية حالات وفاة، وتم تسجيل 95 محاولة انتحار في قطاع غزة. ويعد هذا ارتفاعا كبيرا في عدد محاولات الانتحار مقارنة مع العام الماضي الذي شهد 204 محاولات انتحار أسفرت عن وفاة 12 شخصا. وحسب الإحصائيات لدى شرطة رام الله وغزة، يتبين أن 60% من محاولات الانتحار قامت بها الإناث، حيث إن أصغر فتاة حاولت الانتحار بلغت من العمر 14 عاما، في حين كان عمر أكبر سيدة حاولت الانتحار 57 عاما. أما الفئات العمرية التي تقدم على محاولات الانتحار فيها فتتراوح بين 14 و57 عاما. وحول الوسائل المستخدمة في تنفيذ محاولات الانتحار فهي تتراوح بين شرب المواد الكيماوية والعقارات مثل الكلور والبنزين، والأدوية بكميات كبيرة، علاوة على محاولات المبادرة بطعن الجسم، وقطع الشرايين والسقوط من أماكن مرتفعة وحرق الذات.

وحسب ملفات الشرطة فإن معظم محاولات الانتحار في قطاع غزة جاءت بفعل الإحباط لدوافع شخصية ونفسية، والمشكلات الأسرية، والفشل في تحقيق إنجازات في مجال الدراسة وبعضها مرتبط بشكل مباشر وغير مباشر بالحصار المفروض على قطاع غزة. وحسب معطيات الشرطة فقد قامت إحدى طالبات الثانوية العامة بالتهام عدد كبير من الأدوية المهدئة في اليوم الذي كان من المفترض أن يتم الإعلان فيه عن نتائج الثانوية العامة، حيث كانت تخشى الرسوم في الامتحان، حيث نجحت العائلة في إنقاذها من موت محقق بعدما دخل أحد أفراد الأسرة غرفتها مصادفة، فوجدها تعاني، فتم نقلها إلى المستشفى على الفور. وهناك محاولات انتحار مرتبطة بشكل مباشر بالحصار. فعلى سبيل المثال أقدم طالبان جامعيان يعيشان وحدهما في قطاع غزة على محاولة الانتحار لأنهما لم يتمكنا من مغادرة القطاع للالتحاق بأسرتيهما في الخارج لقضاء العطلة الصيفية بفعل إغلاق معبر رفح الحدودي، نافذة قطاع غزة الوحيدة للعالم. وفي حالة أخرى أقدمت سيدة على الانتحار بعد نشوب خلاف بينها وبين زوجها حول تكاليف الحياة، حيث إنه من الواضح أن بين محاولة هذه السيدة الانتحار والحصار الذي أدى إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية في القطاع ارتباطا بشكل كبير، وهو ما يترتب عليه في الغالب مشكلات أسرية لا حصر لها.

أحد الشباب أقدم على إطلاق النار على نفسه وتوُفّي على الفور في مخيم النصيرات للاجئين، بعدما تبين أن ما أودعه من مال في إحدى شركات توظيف الأموال في القطاع لن يعود إليه، بعدما تبين أن المجموعة التي تشرف على الشركة تمارس الاحتيال وأنها في الواقع لا تمارس أي نوع من الاستثمار. والذي قلّص هامش المناورة أمام هذا الشاب هو حقيقة أنه قام بجمع الأموال من بعض أصدقائه وأقاربه وقام بتوظيفها باسمهم في هذه الشركة، وهم باتوا يطالبونه برجع المال.

وفي حالات متطرفة أخرى أقدمت فتاة تبلغ من العمر 14 عاما على محاولة الانتحار بعدما منعتها أسرتها من حضور أحد المسلسلات التلفزيونية. هذه الطفلة أقدمت على تناول جرعة كبيرة من عقار بُعيد تعرضها للتوبيخ من قبل والدها الذي منعها من حضور المسلسل. من ناحيته يقول صابر خليفة الناطق الإعلامي باسم الشرطة التابعة للحكومة المُقالة في غزة إن خلفية النسبة الأكبر من محاولات الانتحار تتم في أوساط الشباب سيما في سن المراهقة، وتحديدا في مطلع العشرينات من العمر ودون ذلك.

وحول الأسباب وراء هذه الظاهرة، ينوه خليفة بأن السبب الرئيسي يتمثل في ضيق سبل العيش في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، علاوة على العوامل النفسية. وحسب الناطق بلسان الشرطة فإنه من خلال دراسة معظم حالات محاولات الانتحار يتبين أن تدهور الأوضاع الاقتصادية يعلب دورا حاسما في الدفع نحو هذه الظاهرة، موضحا أن الفلسطينيين في قطاع غزة يعيشون أوضاعا بالغة التعقيد في ظل الحصار «الظالم». ونوه بأن القدرة على مواجهة الضغوط النفسية الناجمة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تتفاوت بين الناس، وهو ما يجعل البعض غير قادر على تحمل هذه الضغوط فيلجأ إلى محاولة الانتحار. وأكد خليفة أن الشرطة حرصت منذ البداية على معالجة محاولات الانتحار بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية العاملة في قطاع غزة. من ناحيته يرجع الدكتور درداح الشاعر أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى أن ظاهرة الانتحار بالغة الخطورة، منوها بأن هذه الظاهرة تُعتبر ظاهرة غريبة على المجتمع الفلسطيني وتحديدا في قطاع غزة، حيث تطغى العادات والتقاليد على سلوك الأفراد وتصرفاتهم. وأشار إلى أن الإقدام على إنهاء الحياة هي طريقة بعض الشباب للتخلص من المشكلات التي تواجههم، ولا يجدون لها حلا.

وأشار إلى أن الأمر يعود في الغالب إلى مجموعة القيم التي يحتكم إليها البعض، منوها بأن بعض الناس يعتبر المادة والحصول على المال هي القيمة الأعلى بالنسبة إليه وبالتالي عندما يفشل في إشباع رغباته يحبط ويصيبه الاكتئاب ويحاول الفرار من مشكلاته عبر وضع حد لحياته عبر الانتحار. وأوضح أن بعض أسباب الانتحار تعود إلى مشكلات نفسية أو جنسية أو اجتماعية. وشدد درداح على دور حالة الغموض السياسي التي تلف المشهد الفلسطيني في قطاع غزة حالة انعدام اليقين إزاء مستقبل الأمور في القطاع تدفع الناس إلى الإحباط وتدفع لحالة من انعدام الثقة. وأشار الشاعر إلى أن تأثير الواقع السياسي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للناس، حيث إن الكثير من مظاهر المعاناة التي يكابدها الناس في القطاع ذات خلفية سياسية بامتياز. واعتبر الشاعر أن الذين يُقدِمون على الانتحار يعانون الخواء الروحي، مشددا على ضرورة الاهتمام بتعبئة الشباب روحيا لتمكينهم من مواجهة أعباء الحياة. وأوضح أن الإقدام على محاولة الانتحار يعكس في الواقع ضعف في شخصية أولئك الذين يُقدِمون على هذا السلوك.

وشدد الشاعر على أنه في كل الظروف والأحوال يتوجب الاهتمام بالشباب ومحاولة فتح آفاق أمامهم رغم الظروف الصعبة والبائسة التي يعيشها قطاع غزة حاليا.

من ناحيته يرى الطبيب النفسي الدكتور فضل أبو هين أن المرء يلجأ إلى الانتحار ومحاولة وضع حد لحياته عندما يبلغ اليأس منتهاه، ويعجز عن مواجهة الواقع الذي يحياه ويفشل في التكيف مع محيطه سيما المحيط القريب الممثَّل في الأسرة والمجتمع الذي يعيش فيه. وذكر أبو هين أنه من خلال اختلاطه بالناس تبين له أن الكثيرين يرون أن الموت أفضل من الحياة، عازيا ذلك إلى تدهور الأوضاع في القطاع مما أدى إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب النفسي لدى الكثيرين. ويعتبر أبو هين أن الحصار وتبعاته القاسية هي أهم سبب وراء ظاهرة الانتحار. وأضاف: «عندما يشعر الإنسان أنه محاصَر من كل جانب، فيصبح غير قادر على السفر والتحرك أو التعليم أو تلقي العلاج حتى إنه لا يتمكن من الزواج وبناء أسرة جديدة، ولا يجد ما يسد به رمقه ورمق أسرته، فإن البعض قد ينهار ويعجز عن مواجه الظروف وتكون النتيجة بمحاولة وضع حد للحياة». ونوه بأن ازدياد نسبة النساء اللاتي يتجهن إلى الانتحار يعود إلى ازدياد الأعباء الملقاة على عاتق المرأة الفلسطينية في ظل الحصار، مما يؤدي إلى تفجر المشاعر بالعجز وقلة الحيلة.

لا تختلف الأسباب التي تدفع بعض الفلسطينيين في الضفة إلى الإقدام على الانتحار، عن تلك التي تدفع غيرهم إلى الانتحار في غزة، وتعود الأسباب عادة إلى فشل تجربة عاطفية أو ضيق الحال الاقتصادية، أو قضايا تتعلق بالشرف، أو بسبب الفشل في الدراسة أو صعوبات الحصول على عمل أو سفر.

وسجلت محاولات الانتحار هذا العام ارتفاعا غير مسبوق، إذا ما قورنت النسبة بالعام الماضي، وحتى الشهر الماضي حاول 254 شابا وفتاة الانتحار، نجح منهم 20، بينما في عام 2008 سُجلت 204 محاولات انتحار نتج عنها وفاة 12، بحسب إحصائيات الشرطة الفلسطينية.

وقال الدكتور محمود سحويل استشاري الأمراض النفسية والعصبية، الذي يشكك في هذه الأرقام ويراها أقل من الواقع، إن العنف السياسي في الأراضي الفلسطينية هو السبب الأول الذي يقود إلى الانتحار بغض النظر عن الدافع الذي حرك المنتحر في حينه.

وأوضح سحويل لـ«الشرق الأوسط»: «هناك حالة إحباط كبير بسبب غياب الحلول السياسية وتردي الحال الاقتصادية، وهذا ساعد على انتشار العنف».

ويرى سحويل أن المجتمع الفلسطيني يمارس عنفا جماعيا، وأن العنف أصبح ثقافة فلسطينية، وقال: «من يمارَس عليه العنف يمارسه على غيره. في الأراضي الفلسطينية عنف منتشر، عنف سياسي وفصائلي ومنزلي ومدرسي».

والعنف ـ حسب سحويل ـ يقود إلى اضطرابات نفسيه، وقال: «بسبب العنف فإن نسبة المصدومين نفسيا كبيرة لدينا 23% لديهم صدمة نفسية و35% لديهم أعراض الصدمة، و26% لديهم اكتئاب، ونسبة القلق التوتر لا تحصى». وأضاف سحويل: «بشكل طبيعي 15% من الذين يعانون الاكتئاب عادة ينتحرون، ونصفهم يفكرون في الانتحار». وتقول إحصائيات الشرطة الفلسطينية الرسمية إن 65% من الذين حاولوا الانتحار هذا العام أو نجحوا هم من الأناث. ورجع سحويل السبب إلى أن نسبة المكتئبين من الإناث أعلى، وقال إن «وسائل المرأة الدفاعية أقل من الرجل، وهي مقموعة أكثر منه».

ولوحظ أن أعمار جميع الذين حاولوا الانتحار كانت تحت 35 سنة، وعقّب سحويل: «لأن الشباب أكثر اندفاعا».

وسجلت أعلى نسبة لمحاولات الانتحار في نابلس، إذ حاول 56 الانتحار، ونجح منهم واحد، وأقلها في طوباس إذ حاول 6 الانتحار. وسجل في طولكرم أعلى نسبة منتحرين، إذ أقدم 4 على قتل أنفسهم، و 4 آخرون في ضواحي القدس، و3 في رام الله و3 في جنين، و3 في الخليل، و2 في أريحا.

وقال الملازم أول في الشرطة الفلسطينية منير الجاغوب إن «السبب الأول الذي يجمع هؤلاء هو ضعف الإيمان»، وأضاف: «من هانت عليه نفسها هان عليها عقابها». وقال بيان للشرطة إن الشعور بالفشل والاكتئاب يدفع هؤلاء إلى محاولة الهروب من المشكلة عبر الانتحار. ورغم أن الجاغوب أقر بأن هناك ارتفاعا كبيرا هذا العام، فإنه قال إن النسبة تبقى متدنية قياسا مع دول عربية أخرى، إذ تسجل هناك عشرات آلاف المحاولات.

وتختلف الأساليب التي يقدم عليها المنتحرون، لقتل أنفسهم، وقال الجاغوب: «هناك من يلجأ إلى شرب كميات كبيرة من الدواء والحبوب المخدرة والعقاقير، ومَن يعمد إلى قطع الشريان الرئيسي، ومن يتناول مواد حارقة، ومن يحاول أن يلقي نفسه من علو»، وتابع: «لكن أقل محاولة هي السقوط من علو حيث سجلت حالة أو اثنتان فقط».

ويميل أولئك الذين جربوا الانتحار، ولم ينجحوا إلى التستر على «جريمتهم»، وقال الجاغوب: «لا يعترفون بسهولة، وقالت لنا فتاة أمس، شربت 40 حبة دواء، إنها فعلت ذلك بسبب الصداع».

وقال سحويل: «أيضا هناك من انتحر وأُعلنَ أنه توُفّي بشكل طبيعي أي سقط أو أصيب بجلطة أو ما شابه»، ولا يحاسب القانون الفلسطيني على محاولة الانتحار، لكن يحاسب إذا ما ثبت أن شخصا شجّع على الانتحار.

وعبّرت منظمة «أطباء العالم» الفرنسية، عن قلقها من ارتفاع نسب الانتحار في الضفة، وقال أوليفييه برنار رئيس المنظمة، في مؤتمر صحافي في رام الله إن «انسداد الأفق السياسي والاقتصادي يجعل الحياة صعبة وغير مقبولة في هذه المنطقة التي عاشت ظروفا سياسية قاسية لفترة زمنية طويلة». وأوضح برنار أن المرض الشائع الأول الذي يواجهه أطباء المنظمة في الضفة وغزة هو «المعاناة النفسية لمعظم المرضى الذين نتعامل معهم».