برنار كوشنير رجل المهمات الصعبة

كثيرون يحبونه وكثيرون يكرهونه.. لكن من الصعب العثور على أشخاص غير مبالين بشخصية هذا الرجل

TT

في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، احتفل برنار كوشنير، وزير خارجية فرنسا، بعيد ميلاده السبعين. وبالطبع من يعرف الوزير الفرنسي عن قرب، يشعر أن الرجل الذي يشغل قصر الكي دورسيه (مقر وزارة الخارجية) في باريس منذ عامين ونصف العام، مستمر في العمل حيث هو ولا يتكون عنده انطباع أن كوشنير يفكر أو يريد أن يترك الأضواء ليتنعم بحياة هادئة في منزله الريفي القائم في جزيرة كورسيكا أو ليشبع نهمه من الكتب التي لم يستطع قراءتها بسبب مشاغل وزارته. كوشنير يقضي الكثير من وقته في الأجواء متنقلا بين عواصم العالم وباحثا عن حلول لبؤره الساخنة. زار لبنان عشر مرات منذ ربيع العام 2007. وجال في العالم العربي متنقلا بين عواصمه. وآخر زيارة له إلى منطقة الشرق الأوسط قادته إلى الأردن (للقاء الرئيس الفلسطيني) وإسرائيل. وفي مقابلة صحافية، قال كوشنير للمرة الأولى، إنه يتمنى أن يحل السلام في الشرق الأوسط قبل رحيله عن هذه الأرض.

كثيرون يحبون برنار كوشنير. وكثيرون يكرهونه. لكن من الصعب العثور على أشخاص غير مبالين بشخصية هذا الرجل الذي شغل الدنيا على الأقل منذ ثلاثين عاما. مسار كوشنير المعروف عالميا بلقب «فرنش دكتور» طويل ومتعرج. سيرته بصيغة الجمع وكذلك حياته. وفي كل محطة من هذه المحطات أثار الجدل والنقاش. انتُقد كثيرا لحبه لعدسات التصوير. وانتقد أكثر لما اعتبره كثيرون تخليا عن المثل الإنسانية في سبيل السياسة. لكن الأمور مع الوزير الفرنسي ليست بيضاء أو سوداء. إنه مسار استثنائي ما زال يتكامل فصولا. وليس من المؤكد أن تكون وزارة الخارجية آخر محطات برنار كوشنير.

شاءت ظروف الحرب العالمية الثانية أن يرى برنار كوشنير النور في مدينة أفينيون (جنوب فرنسا) المعروفة باسم «مدينة البابوات» في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1939. والده، جورج كوشنير طبيب وأمه ليون، ممرضة، تعارفا في أحد المستشفيات الباريسية. هو (الوالد) ابن عائلة يهودية فقيرة إذ إن أباه صمويل وأمه، راحيل، هربا من مدينة دوينسك الموجودة حاليا في دولة ليتوانيا بسبب الاضطهاد واستقرا في باريس في الدائرة الـ15 في شقة من مجموعة سكنية أقامها المتمول روتشيلد للعائلات المعتازة. وهي (الوالدة) ابنة عائلة مختلطة: كاثوليكية وبروتستانتية من منطقة فولكلوز (الجنوب). ولم يكن لكوشنير من العمر سوى أربعة أعوام عندما جاءت الشرطة إلى بيت العائلة في باريس وأخذت جده وجدته إلى معتقل درانسي ومن هناك إلى معسكر أوشويتز حيث لم يعودا أبدا. ومن الأطفال السبعة، وحده جورج كوشنير، أتيحت له فرصة اتباع التحصيل العلمي الجامعي، فدخل كلية الطب التي تخرج فيها في العام 1939. كان رياضيا ومولعا بالسياسة. انتمى باكرا إلى الحزب الشيوعي وبرز بولعه بالعلوم الطبية والإعلام فأسس أكثر من مجلة طبية. ويرى مؤرخو سيرة برنار كوشنير أن ولعه بالسياسة منذ شبابه الأول عائد لتأثير والده، إذ انضم إلى شبيبة الحزب الشيوعي الفرنسي وناضل في صفوفها. برنار أحد أفراد عائلة من خمسة أشخاص، ثلاثة صبيان وفتاتان. أخوه الأكبر طبيب والأصغر صحافي. وداخل الحزب الشيوعي، انضم كوشنير إلى مجموعة «الإيطاليين» أي الإصلاحيين الذين رفضوا الستالينية باكرا وابتعدوا عن الحزب الشيوعي السوفياتي. تلقى دروسا في الماركسية ومنذ دخوله التعليم الجامعي، انضم إلى اتحاد الطلاب الشيوعيين وأخذ بالمساهمة في مجلتهم المعروفة باسم CLARTE. وبرز اسم برنار كوشنير للمرة الأولى بمناسبة ما سمي «ربيع العام 1968» أي ثورة الطلاب الفرنسيين في باريس وفي جامعة السوربون والحي اللاتيني التي تزعمها الطالب الألماني دانيال كوهين بنديت الذي كان يعرف وقتها بـ«داني الأحمر». وهذا الأخير حاليا نائب في البرلمان الأوروبي بعد أن قاد لائحة «البيئويين» في الانتخابات الأوروبية الأخيرة في فرنسا. وبفضل تعاونه مع مجلة الحزب، استطاع كوشنير أن يلتقي الكثيرين من المفكرين والفلاسفة وصناع الرأي و«الثوريين» بشكل عام. لا بل إنه نظم مع مجموعة من رفاقه «الرحلات الثورية» وقادها إلى الجزائر وكوبا ويوغوسلافيا... غير أن «المختبر» الذي صهر وزير الخارجية اللاحق كان بلا شك أحداث مايو (أيار) 1968 حيث برزت مواهبه كمحاور وصاحب تأثير على المحيط الذي يعيش فيه. وإبان الاضطرابات الجامعية، كان كوشنير مسؤولا عن لجنة الإضراب في كلية الطب في باريس التي لم تتردد الشرطة في إخلائها من محتليها.

لم تدم تجربة كوشنير مع الصحافة الحزبية، إذ إن قيادة الحزب الشيوعي وضعت يدها مجددا على مجلته وأعادتها إلى الطريق «القويم» مما حمل برنار كوشنير وآخرين على تركها واللجوء إلى مجلة «ليفينمان» التي أسسها إيمانويل داستيه دو لا فيجري، رفيق الجنرال ديغول وصديق جان بول سارتر. واستمرت تجربة برنار كوشنير الصحافية مع مجلة ثقافية رائدة تسمى «أكتويل» تهتم بالثقافة غير الرسمية وبالظواهر الاجتماعية وبكل ما كان يدور حوله الجدل الثقافي في تلك المرحلة. وبموازاة ذلك، كان كوشنير يساعد والده في مجلاته الطبية. وتعرف كوشنير على طالبة في قسم الحقوق اسمها إيفلين بيزيه التي تزوجها لاحقا وأعطته ثلاثة أبناء (جوليان وكميل وأنطوان). إيفلين بيزيه أصبحت لاحقا أستاذة حقوق في جامعة السوربون وألفت كتبا كثيرة في القانون والعلوم السياسية وتعد مرجعا في هذا الحقل كما أنها مناضلة معروفة من أجل حقوق المرأة. أما كوشنير نفسه، فقد حزم أمره بعد تردد وفضل الطب على الصحافة. ويقول عنه من عاشره في تلك الفترة إنه كان يتابع دروسه وعينه على ما يحصل في الخارج حيث كانت اهتماماته الحقيقية.

بيافرا: عندما يذكر اسم كوشنير، يأتي إلى الذهن فوريا العمل الإنساني الذي كان من أوائل الذين امتطوا صهوته. «الحدث» الذي غير كل شيء في حياة كوشنير كان له اسم: «بيافرا» وهي مقاطعة تقع جنوب شرق نيجيريا غنية بالنفط، أعلنت انشقاقها في عام 1967 مما سبب اندلاع حرب طاحنة دامت حتى عام 1970 وأوقعت ما لا يقل عن مليون قتيل. ومن أجل القضاء على المتمردين، فرض الجيش النيجيري الحصار الكامل على المقاطعة وسعى إلى تركيعها عن طريق التجويع. وتناهى إلى كوشنير، في صيف عام 1968، أن الصليب الأحمر يحتاج إلى طبيب لمرافقة بعثة طبية ينوي إرسالها إلى بيافرا، فسارع إلى التطوع وانتقل إلى جنيف ومن هناك بطائرة «دي سي 4» إلى مطار «أولي» في مقاطعة بيافرا الذي تستهدفه المدفعية النيجيرية فيما السلاح المضاد للطائرات للجيش الرسمي يمنع وصول المساعدات والأسلحة إلى الانفصاليين. عاد كوشنير من بيافرا في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1968 مذهولا مما رأى وعاين. وقرر مع طبيب آخر اسمه ماكس ريكاميه أن يكسر واجب الصمت الذي التزم به خطيا إزاء الصليب الأحمر عندما قبل المهمة فنشرا معا مقالا طويلا في صحيفة «لوموند» ثم كتب كوشنير مقالات إضافية في وسائل أخرى كما استخدم تجربته في بيافرا مادة لكتابة رسالة الدكتوراه في الطب التي قدمها لاحقا. وسعى كوشنير، بدعم من جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار ومثقفين آخرين، إلى إطلاق «اللجنة الدولية لمحاربة المجازر في بيافرا». وخلال ثلاث سنوات، تكونت نواة من «فريق» بيافرا ومن أطباء ومناضلين آخرين من أجل حقوق الإنسان وواجب التدخل الإنساني في النزاعات والحروب الأهلية لتطلق في عام 1971 منظمة «أطباء بلا حدود» بمناسبة اجتماع ضم 17 عضوا مؤسسا وأطلق على هؤلاء اسم «الرسل الـ17».

شكلت «أطباء بلا حدود» الرافعة التي أطلقت كوشنير على المسرح الفرنسي الداخلي والعالمي على السواء. تقول المادة الأولى من النص التأسيسي للمنظمة إن «أطباء بلا حدود» توفر الإسعافات لكل ضحايا الكوارث الطبيعية والنزاعات والحروب من غير تمييز بسبب العرق أو السياسة أو الدين». وتقول المادة الثانية إنها «تعمل بحياد تام واستقلالية مطلقة». وبعد 28 سنة على انطلاقتها منحت هذه المنظمة في عام 1999 جائزة نوبل للسلام. وسريعا جدا، اتسعت دائرة المنظمة الجديدة وانضم إليها أطباء كثيرون بحيث وصل عددهم في عام 1976 إلى أكثر من 300 طبيب متطوع وجاهز للسفر إلى أي بقعة ساخنة في العالم. في عام 1972، أسهمت المنظمة في إغاثة منكوبي الزلازل في نيكاراغوا التي أوقعت 10 آلاف قتيل. وفي عام 1975، كانت متواجدة في سايغون عند وصول دبابات الفيتكونغ إلى عاصمة فيتنام الجنوبية وفي عام 1976 كانت في بيروت بفريق يزيد على خمسين طبيبا وممرضا حيث كان مقرها في حي النبعة الفقير في ضاحية بيروت الجنوبية. إلى هذه الفترة، تعود معرفة كوشنير بلبنان حيث يحلو له أن يقول إنه تعرف إلى الإمام موسى الصدر الذي يصفه بـ «معلمي الروحي» وإلى نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني وكثير من الزعماء والسياسيين اللبنانيين. وفي الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر(تشرين الأول)، كان كوشنير في بيروت حيث علق أوشحة تكريمية على صدر بعض من عمل معهم في تلك الفترة وبينهم الطبيب اللبناني كامل مهنا. يقول الذين عرفوا كوشنير في هذه المرحلة إنه «كان أول من فهم أهمية الإعلام وتحديدا التلفزة لإطلاق العمل الإنساني». وجاء في كتاب «ميستر كوشنير» للصحافية الفرنسية كورين لوران، أن الوزير الحالي نظر لقاعدة «الضجيج الإعلامي» في العمل الإنساني. لذا أصبح أليف الشاشة الصغيرة فحفظ الفرنسيون وجهه وأصبحوا يفكرون بالعمل الإنساني عبره. ولم يتردد كوشنير يوما في استدعاء أصدقائه من الفنانين والمثقفين والفلاسفة مثل سارتر ورولان بارت وميشال فوكو وغيرهم لتجنيدهم في خدمة العمل الإنساني.

وبرز ذلك بقوة في مأساة ما سمي وقتها بـ«Boat people» وهم الفارون الفيتناميون وغيرهم على متن سفن تائهة في بحر الصين هربا من الزحف الشيوعي. فقد سعي كوشنير ومعه «أطباء بلا حدود» في عام 1978 لإرسال باخرة إلى بحر الصين لإغاثة هؤلاء الفارين وقامت حملة سياسية تدعو رئيس الجمهورية فاليري جيسكار ديستان لمنح اللاجئين تأشيرات دخول إلى فرنسا. غير أن هذه الحملة أثارت انقسامات داخل المنظمة واتهم كوشنير باستغلالها لتلميع صورته الشخصية وشن عليه نائب رئيس المنظمة حملة إعلامية شعواء. لكن كوشنير لم يتردد، إذ نجح في جمع الأموال واستئجار باخرة سميت «جزيرة النور» وتحويلها إلى مستشفى عائم والإبحار إلى بحر الصين وتحديدا إلى جزيرة صغيرة اسمها بولو ـ بيدونغ حيث تجمع أكثر من 25 ألف شخص على أرض طولها 800 متر وعرضها 300 متر. وكان على متن الباخرة فريق من القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي مما ضمن لها التعريف والدعاية. وبفضل هذه العملية، تغير «مستوى» الوزير الحالي وقدرته على التأثير. لكن النجاح يجلب الحسد والطموحات. ولذا، فإن العاصفة أصابت منظمة «أطباء بلا حدود» فخرج منها كوشنير المؤسس وبعض أصدقائه عاقدين العزم على تأسيس منظمة منافسة للأولى، وهذا ما حصل فعلا بعد عام واحد مع إطلاق منظمة «أطباء العالم» التي كان أول عمل قامت به إرسال بعثة إلى أفغانستان. وتتالت مهمات المنظمة الجديدة: من أميركا اللاتينية إلى أفغانستان وجنوب شرق آسيا وغيرها من البؤر المتوترة في العالم. وككل مرة، كان التلفزيون حليف كوشنير ليس فقط في العمل الإنساني بل أيضا في حياته الشخصية حيث تعرف على نجمة التلفزيون كريستين أوكرانت التي كانت تلقب «الملكة كريستين» وقررا العيش معا ولهما صبي اسمه ألكسندر. وتحول برنار وكريستين إلى نجمين اجتماعيين في الصالونات الباريسية. رجل الشاشة الصغيرة: حتى أواسط الثمانينات، بقي كوشنير بعيدا عن السياسة بمعنى أنه لم يشأ أن يتحول إلى رجل سياسي. غير أن الأمور تغيرت في عام 1988 وهو في الثامنة والأربعين من عمره. فقد دعا مع مجموعة من المثقفين إلى إعادة انتخاب فرنسوا ميتران الاشتراكي رئيسا للجمهورية. ولدى تشكيل حكومة ميشال روكار الأولى اقترح الأخير اسم كوشنير وزيرا على رئيس الجمهورية. وقبل ميتران بتعيينه وزير دولة مكلفا بشؤون الاندماج الاجتماعي وبعدها جاءت الانتخابات النيابية فترشح على لائحة الأكثرية الاشتراكية في شمال فرنسا لكنه هزم على يدي المرشح الشيوعي ومع ذلك أعيد إلى الحكومة مسؤولا عن «العمل الإنساني». غير أن عام 1988 شهد ولادة مفهوم «حق التدخل الإنساني» في الأمم المتحدة بدفع من كوشنير وبعض المثقفين الفرنسيين. وقد حمل ميتران الفكرة إلى الأمم المتحدة التي تبنتها في القرار 43/131 كذلك أقر مبدأ «الممرات الإنسانية» لإيصال المساعدات إلى الضحايا وهو المبدأ الذي تم اللجوء إليه في كردستان والصومال والبوسنة وكرواتيا ورواندا وألبانيا وتيمور وغيرها... لم يكن سهلا على كوشنير أن يكون وزيرا «عاقلا». وبالفعل، فقد أحدث الكثير من الضوضاء ففتح عليه رفاقه القدامى النار بحجة أنه يسهل استغلال العمل الإنساني من قبل السياسيين وقام ببادرات لم يحصل مسبقا على موافقة مجلس الوزراء للقيام بها. لكنه اعتبر أن إقرار حق التدخل الإنساني تقدم كبير للإنسانية «حيث لم يعد مقبولا القتل الجماعي بحمى الحدود» وحيث «سيأتي وقت نهتم فيه بمجازر الآخرين أينما تحصل».

نقل كورين لوران عن أمين عام الأمم المتحدة الأسبق بطرس غالي وصفه لكوشنير بأنه «صاروخ غير موجه». ويقول موظفو وزارة الخارجية إن الوزير الأسبق رولان دوما «عانى» كثيرا من مبادرات كوشنير. وزير العمل الإنساني قام بمهمة في إيران بعد الزلزال الذي ضربها في عام 1990. وقام بمهمة في بيروت لجلب بعض المصابين في الحرب اللبنانية. لكنه بقي أياما في السفارة الفرنسية بانتظار توفير الظروف لإتمام مهمته. وفي أبريل (نيسان) عام 1991، ذهب سرا إلى كردستان العراق وكان من الذين حثوا الرئيس ميتران على العمل على إقامة منطقة محرمة على الطيران العراقي شمال العراق وإلى إطلاق عملية «بروفايد كومفورت» لحماية الأكراد والتي كانت ترجمة عملية لحق التدخل الإنساني. وأثار كوشنير مشكلات دبلوماسية مع الصين، إذ اقترح إرسال «مراقبين حياديين» إلى التيبت بعد القمع العنيف لمظاهرات التيبتيين.... وعمل وزير العمل الإنساني كثيرا من أجل الكرواتيين والبوسنيين وأسهم في فتح ممر إنساني لمدينة دوبروفنيك الكرواتية وأقنع لاحقا الرئيس ميتران بمرافقته إلى ساراييفو لكسر الحصار الذي يفرضه الصربيون عليها. وأطلق الجنود النار على الطائرة الرئاسية التي أصيبت بعدة رصاصات. ولم يتردد كوشنير في الذهاب إلى السودان من غير موافقة أو علم الحكومة السودانية معتبرا أن زيارته تندرج تحت باب المساعدة الإنسانية. وكانت مجلة «لوبوان» الفرنسية قد اختارت كوشنير «رجل العام». كيس من الأرز في مقديشو: خلال زيارة له إلى شمال العراق برفقة عقيلة الرئيس الفرنسي دانيال ميتران، نجا كوشنير من عملية اغتيال دبرتها أجهزة صدام حسين قريبا من السليمانية. وطيلة هذه السنوات، كان كوشنير على كل الجبهات بما فيها الجبهة الصومالية حيث قام بصفته وزيرا للصحة والعمل الإنساني بعدة زيارات إلى منطقة القرن الأفريقي. وفي عام 1992 أطلق في فرنسا ولدى التلامذة والطلاب حملة مع وزارة التربية ومع البريد تحت عنوان: «الأرز من أجل الصومال». ولم ينس الفرنسيون صورة كوشنير نازلا على شاطئ مقديشو وهو يحمل كيسا من الأرز على كتفه بحضور عشرات المصورين والقنوات التلفزيونية. وما زالت هذه الصورة تؤخذ عليه باعتبارها تجسيدا للعمل الإنساني الذي يخلط مساعدة الناس بالبحث عن الأضواء. يهوى وزير الخارجية رياضة الجري وهو شارك في ماراثون نيويورك عدة مرات. وهذه الرياضة التي تفترض المثابرة كانت بلا شك عونا له في عمله السياسي، إذ إنه حاول عدة مرات الفوز بمقعد نيابي دون أن يفلح ومع ذلك استمر متنقلا ما بين الاشتراكيين الذين يتهمهم بعرض مواقع انتخابية صعبة الكسب وبين الحزب الراديكالي اليساري الذي انضم إليه في عام 1996. كوشنير ذهب إلى البرلمان الأوروبي لأن رئيس اللائحة الاشتراكية ميشال روكار فرضه في الموقع الثالث. غير أنه ترك الاشتراكيين لينضم لصفوف الراديكاليين ليعود إلى الوزارة في عام 1997 مع حكومة ليونيل جوسبان الاشتراكي ولكن تحت ظل وزيرة الشؤون الاجتماعية مارتين أوبري. من هنا، يرى الكثيرون أن الاشتراكيين لم يعاملوا كوشنير وفق الأصول التي تليق به وفق مؤهلاته وشهرته، إذ إنه كان ومنذ سنوات الرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا. غير أن هذه الشعبية لم تنفعه في الفوز بمقعد نيابي رغم تنقله من شمال فرنسا إلى جنوبها. لكنها مكنته من أن يكون تقريبا في كل الحكومات التي شكلها الاشتراكيون ما بين عام 1988 و2002. وكان كوشنير يريد مهمة «دولية» وهذا ما تحقق له في عام 1999 عندما نجحت فرنسا في إقناع أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان بتعيين كوشنير ممثله الخاص في كوسوفو بحيث يكون مسؤولا عن الإدارة المدنية في هذه المنطقة التي أُخرجت من سيطرة الصربيين بعد حرب دامية. سلطات كوشنير بلا حدود وهو في كوسوفو أشبه برئيس دولة فاستقبل الرئيس كلينتون والرئيس شيراك وغيرهما من قادة العالم. غير أن المهمة صعبة والظروف التي كان يعيش في ظلها شاقة مع وجود تهديدات ضده وتحفظات على مهمته. كان عليه ضمان عودة المهجرين ونزع السلاح وبناء المؤسسات. مجلس الأمن أعطاه صلاحية إقامة إدارة ذاتية لكوسوفو بينما سكان هذه المنطقة من المسلمين يريدون الانفصال والاستقلال. ومع ذلك، نجح كوشنير في مهمته ويوم ترك بريشتينا ليعود إلى باريس، صدرت صحيفة «لوموند» بعنوان كبير «كوشنير تحول إلى بطل وطني في كوسوفو» بينما الصحافة الصربية وصفته بأنه «العدو رقم واحد». وبدت شعبيته عندما عاد إلى بريشتينا للمشاركة في مأتم الزعيم إبراهيم روكوفا أو عندما زار عاصمة كوسوفو وزيرا للخارجية في صيف عام 2007. وفي العام الماضي، اعترفت باريس باستقلال كوسوفو.

ما بين خروجه من حكومة اشتراكية في عام 2002 ودخوله إلى وزارة الخارجية في ربيع عام 2007 في ظل رئيس يميني، مرت خمس سنوات تجول فيها كوشنير كثيرا في العديد من بلدان العالم. غير أن عينه كانت دائما مشدودة إلى المشهد السياسي الداخلي حيث مني اليسار بهزيمة نكراء مع خروج مرشحه ليونيل جوسبان من المنافسة الرئاسية في الدورة الأولى، مما فتح الطريق لإعادة انتخاب الرئيس شيراك لولاية ثانية. وشيئا فشيئا، أخذ كوشنير يبتعد عن رفاقه في الحزب الاشتراكي الذين يأخذ عليهم تحجرهم ونزاعاتهم الشخصية. ولكن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وقف إلى جانب المرشحة سيغولين رويال من غير أن ينسى أن يمد يدا خفية باتجاه نيكولا ساركوزي، مرشح اليمين بإعلانه أنه «لا يمانع» في الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية. وتؤكد كورين لوران أن الرئيس الحالي سبق له أن فاتح كوشنير بموضوع انضمامه إلى الوزارة قبل حصول الانتخابات.

ومع إعلانه رغبته في «الانفتاح» على قوى اليسار، تبين لساركوزي أن «الغنيمة الكبرى» يمكن أن تكون كوشنير، إذ إن مفهوم نظرة الرجلين للعلاقات الخارجية متقاربة. كوشنير لم يقف ضد الحرب الأميركية على العراق وليس معاديا للولايات المتحدة وله علاقة جيدة مع إسرائيل وهي مواقف تتقارب مع مواقف ساركوزي. وكان من الطبيعي أن عرض وزارة الخارجية كان سيلقى قبولا، خصوصا أن كوشنير ـ كما يؤكد الكثيرون ـ «كان يحلم من زمن بعيد بهذه الوزارة» التي يبدو أنه يمارس مهماتها بكثير من الحماس والسعادة. وبالطبع، هاجمه اليسار واتهمه بالخيانة وأبعد من صفوف الحزب. وخلال عامين ونصف عام من المسؤولية، قبل كوشنير أن يتكيف مع «طريقة» عمل الرئيس ساركوزي في الميدان الخارجي. وليس سرا أن ثمة ملفات في السياسة الخارجية يعالجها قصر الإليزيه مباشرة مثل الملفات الشرق أوسطية والعلاقات العربية والأفريقية والملف الإيراني. وبين الحين والحين تبرز بعض «الاختلافات» في النظرة بين الخارجية والإليزيه. فكوشنير أعرب مثلا عن معارضته لفرض عقوبات اقتصادية تتناول القطاع النفطي الإيراني «لأن ذلك سيؤذي الناس» وهو ما يبدو أنه موقف شخصي لا يحظي بدعم الإليزيه. كذلك كان كوشنير متحفظا على الانفتاح الفرنسي على سورية الذي كان أمين عام قصر الإليزيه كلود غيان مهندسه الأول. كذلك لم يكن متحمسا لزيارة العقيد القذافي إلى باريس نهاية عام 2007. وفي كل المرات، قبل كوشنير أن تعود الكلمة النهائية للإليزيه.