القدس.. و«الضبابية الأوروبية»

قرار الاتحاد الأوروبي الاعتراف بها عاصمة للدولتين قسم الفلسطينيين والإسرائيليين بين مرحب ومتأسف

TT

يرى الفلسطينيون والإسرائيليون أنهم انتصروا في الضغط على الاتحاد الأوروبي لإصدار قراره الأخير بشأن وضع المدينة المقدسة للأديان الثلاثة، القدس، رغم أنهما في الوقت نفسه يبديان تحفظا من صيغة القرار. وكان الطرفان شنا حملة كبيرة قبل إصدار القرار الأوروبي، إذ دعمت السلطة الفلسطينية اقتراحا سويديا باعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، بينما عملت إسرائيل على إسقاط أي اقتراح له علاقة بالقدس، فخرج الأوروبيون بصيغة ضبابية، بخلاف ما يريد الطرفان، تقول «القدس عاصمة الدولتين».

يمكن القول إن ردود الفعل الفلسطينية وكذا الإسرائيلية على القرار جاءت متباينة بين ترحيب وتأسف. ففي رام الله قال رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض: «نرحب بالبيان الصادر عن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي ونعتبره انتصارا للشرعية والقانون الدوليين». وبعد يوم قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس «إن القرار مبهم للأسف».

وفي إسرائيل أعربت الحكومة عن رضاها عن القرار، وبعدها قال الرئيس الإسرائيلي إنه سيخلق بلبلة. وقال المحلل السياسي طلال عوكل لـ«الشرق الأوسط» إن «الضبابية الأوروبية خلقت إرباكا للطرفين». وأضاف: «الفلسطينيون رحبوا لأن القرار يعتبر خطوة للأمام، لكنهم تأسفوا لأن الاقتراح السويدي لم يعتمد، أما الإسرائيليون فرحبوا لأن الاقتراح السويدي لم يعتمد، وتأسفوا لأن الأوروبيين أقروا بالحق الفلسطيني في القدس ومسائل أخرى». ويرى عوكل أن القرار الأوروبي، «خطوة ناقصة»، لكن أهميته أنه يقول «إن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد، وهناك لاعبون آخرون في العالم». ويوضح أن «إسرائيل كانت تريد من الدول الأوروبية أن تمارس دورا اقتصاديا في الصراع الدائر، والآن الدول الأوروبية تتجاوز الدور المرسوم لها». ويعتقد عوكل أنه يمكن البناء على القرار الأوروبي، خصوصا أنه «خرج عن النص الأميركي والإسرائيلي باعتبار أراضي 67 أراضي فلسطينية وليست متنازعا عليها». لكن عوكل يقول إن البناء على هذا القرار لن يصل إلى حد أن تعود السلطة إلى المفاوضات مع إسرائيل. ويضيف «يمكن أن نبني عليه في الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بترسيم حدود الدولة».

بدأت قصة القرار الأوروبي قبل شهور، ففي مارس (آذار) الماضي، كشف فياض عن ورقة تعدها دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بالتنسيق مع السلطة تحدد موقفه بشأن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وكانت الورقة ستركز أكثر على العملية السياسية، ووقف الاستيطان، وستستخدم كورقة ضغط لتغيير الموقف الأميركي تجاه عملية السلام. لكن الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي، اقترحت قبل أكثر من أسبوع تضمين القرار نصا واضحا يشير إلى القدس الشرقية باعتبارها «عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية». وهو ما فجر غضبا إسرائيليا كبيرا وأملا فلسطينيا غير مسبوق.

وحثت السلطة الفلسطينية الاتحاد الأوروبي على أن لا يتراجع أو يتردد بشأن الاقتراح السويدي، وقال فياض قبل أسبوع «هذا ليس وقتا لتردد المجتمع الدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي بشأن الشكل الذي ستكون عليه الدولة الفلسطينية». وأضاف «أقول للمجتمع الدولي آن الأوان أن لا يستمر الوضع كما هو، وعليه التحرك لتحمل المسؤولية المباشرة لإنهاء الاحتلال الذي بدأ قبل 42 عاما».

وبدأت السلطة اتصالاتها بدول أوروبية لتمرير مشروع القرار السويدي، والتقى فياض في مكتبه بسفراء الدول الأوروبية، وقال لهم إن هذا هو وقت الاتحاد الأوروبي بعد التراجع الأميركي.

لكن الدبلوماسية الإسرائيلية لم تكن نائمة، بل استبقت اجتماعات وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، لمناقشة الاقتراح السويدي، بحملة كبيرة لإحباطه.

وبذل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شخصيا جهدا كبيرا في هذا المجال، وعمل ديوان نتنياهو ووزارة الخارجية بشكل مشترك ومكثف، لإجهاض الاقتراح السويدي، وأجرى نتنياهو سلسلة مكالمات هاتفية مع عدد من الزعماء الأوروبيين، وطلب منهم الاعتراض على مشروع القرار السويدي. وعبر نتنياهو لمحدثيه عن الموقف الإسرائيلي الذي يتلخص في أن الاتحاد الأوروبي لا ينبغي أن يحدد مسبقا نتائج مفاوضات الحل الدائم بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

وفي الوقت نفسه اتصل مستشار نتنياهو لشؤون الأمن القومي، البروفسور عوزي اراد، مع نظيره الفرنسي جان ديفيد لويط، ونظيره البريطاني سيمون ماكدونالد، لنفس الغرض. أما وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان فقد بحث الموضوع الأسبوع الماضي مع نظرائه في إسبانيا وبولندا وتشيكيا والمجر وقال ليبرمان إن «السويد تحاول، في ضربة خاطفة، تمرير قرار فظ وأحادي الجانب، وآمل تعديل الصيغة النهائية لمشروع القرار».

وفي رسالة إلى وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، البريطانية كاثرين اشتون، حذر رئيس بلدية القدس نير بركات الأوروبيين من تقسيم «المدينة الأبدية». وقال «في تاريخ العالم لم تنجح أي مدينة تم تقسيمها في العمل بشكل جيد». وقال إن «تقسيم القدس سيطرح تهديدا خطيرا ليس فقط على مستقبل القدس بل أيضا على الدور المقبل للاتحاد الأوروبي في عملية السلام». وأمام هذين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، فشل ممثلو الاتحاد الأوروبي، خلال اجتماعاتهم التمهيدية، في التوصل إلى صيغة متفق عليها لمشروع القرار، وتركز الخلاف أساسا حول القدس.

وكشفت مصادر إسرائيلية أن مشروع القرار السويدي باعتبار القدس الشرقية عاصمة فلسطين، كان يحظى بتأييد بريطانيا وأيرلندا وبلجيكا وعدد من الدول الأوروبية، ولكن في المقابل فإن فرنسا وألمانيا، كانتا تقودان خطا مؤيدا لإسرائيل، وداعيا إلى تعديل بند القدس ليكون أكثر ضبابية، بحيث لا تتبنى الدول الأوروبية بشكل واضح أن تكون القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية. وانضمت دول لم يتوقع الفلسطينيون أن تميل لإسرائيل، لفرنسا التي فاجأت كذلك السلطة، ومن بين هذه الدول تشيكيا وإيطاليا. وأكد وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني أن قضية القدس يجب عدم حسمها «بشكل أحادي» وأنه يجب «التفاوض» بشأنها. وهذا ما كان.

وفعلا أعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الثلاثاء أن القدس يجب أن تصبح «عاصمة مستقبلية لدولتين» (فلسطين وإسرائيل)، وأن الوضع النهائي للمدينة يجب أن يتم الاتفاق بشأنه عبر التفاوض.

كما جدد الاتحاد الأوروبي في إعلان مشترك، رفضه تغيير الحدود التالية لحرب يونيو (حزيران)، 1967. وقال نص القرار: «في حال أردنا التوصل إلى سلام حقيقي فلا بد من إيجاد سبيل عبر التفاوض لتسوية وضع القدس لتصبح عاصمة مستقبلية لدولتين».

وعلق فياض سريعا بقوله إن «الموقف الأوروبي يفتح الطريق أمام الاتحاد الأوروبي كي يلعب دورا سياسيا فاعلا في العملية السياسية، بالتعاون مع باقي الشركاء الدوليين في إطار اللجنة الرباعية، وخاصة الولايات المتحدة، وتمكين هذه العملية من تحقيق أهدافها في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي عن كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967». وأضاف أن «هذا الموقف يشكل محطة هامة على طريق تولي المجتمع الدولي لمسؤولياته المباشرة في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي عن كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية». لكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس مثلا، خرج بعد يوم من هذا الكلام ليقول إن الصيغة الأخيرة التي صدر بها القرار الأوروبي جاءت مبهمة للأسف.

وقال أبو مازن «المشروع السويدي الذي كان مطروحا في البداية على الاتحاد الأوروبي كان جيدا، إذ إنه أوضح بشكل لا لبس فيه ولا غموض مسألة القدس الشرقية، إلا أن الصيغة الأخيرة التي صدر بها القرار مع الأسف جاءت مبهمة، معربا كذلك عن أسفه من أن مواقف بعض الدول الأوروبية لم تكن على مستوى المواقف الأوروبية السابقة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.

وأضاف أنه «يمكننا وصف القرار بالصيغة التي صدر بها بأنه قرار مهم، إلا أنه لا يصل إلى مستوى المسودة التي وضعتها الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي، والتي كنا موافقين وراضين عنها».

اما حركة حماس، فوصفت القرار الأوروبي بشأن القدس، بأنه خطوة غير مكتملة، واعتبر رئيس الوزراء المقال إسماعيل هنية، أن قرار الاتحاد الأوروبي هو نصف خطوة، والخطوة لا بد أن تكتمل ولا بد من تثبيت القدس عاصمة للدولة الفلسطينية. وأضاف ما زال الشعب يتطلع إلى موقف أكثر تقدما من الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالقدس والحقوق الفلسطينية.

ورافق التباين الفلسطيني آخر إسرائيلي، وأعربت الحكومة الإسرائيلية عن رضاها عن «دور الدبلوماسية الإسرائيلية وأصدقاء إسرائيل في أوروبا في تغيير نص القرار الأوروبي الأصلي». وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان «نظرا إلى الصيغة الأولية المتشددة التي طرحتها الرئاسة السويدية، لا يسعنا إلا أن نعبر عن ارتياحنا في نهاية المطاف لأن صوت الدول المسؤولة والمتزنة كان له الغلبة». لكن الخارجية الإسرائيلية قالت كذلك: «إن الإعلان الأوروبي، تجاهل العقبة الأساسية للتوصل إلى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وهي رفض الفلسطينيين العودة إلى طاولة المفاوضات»، وتابع البيان الإسرائيلي «نظرا إلى جهود الحكومة الإسرائيلية للمساهمة في استئناف المفاوضات، من المؤسف أن يختار الاتحاد الأوروبي تبني نص لا يسهم في هذه القضية».

أما الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس فقال «إن قرار وزراء الخارجية الأوروبية سيخلق نوعا من البلبلة. ويبدو أن ذلك يشكل محاولة لتغيير دور الأمم المتحدة». وكان بيريس اعتبر قبل صدور البيان الأوروبي أن النقاش الدائر في الاتحاد الأوروبي بشأن مستقبل مدينة القدس يشكل محاولة للقيام بدور الأمم المتحدة، مشيرا إلى أن أي قضية تشكل محل خلاف يجب حلها من خلال محادثات بين الأطراف ذات العلاقة المباشرة فيها. ولم يقتصر القرار الأوروبي على القدس، لكنه تحدث عن وقف الاستيطان ورفضه للممارسات الإسرائيلية في مدينة القدس والمتعلقة بهدم البيوت وسياسة التهجير، واعتبارها وكل أشكال الاستيطان، بما في ذلك جدار الفصل، أعمالا تتناقض مع القانون الدولي وتتعارض مع أهداف عملية السلام. كما دعا البيان إلى رفع الحصار عن قطاع غزة وفتح المعابر تنفيذا لاتفاق العبور والحركة لعام 2005. وأكد مرجعيات عملية السلام، والمتمثلة بقرارات مجلس الأمن الدولي، ومبادرة السلام العربية، ومبدأ الأرض مقابل السلام. وقال مصدر سياسي إسرائيلي «هذا قرار أوروبي آخر سيوضع على الرف». لكن عوكل قال «يبدو أن إسرائيل لا تدرك أنها تسير إلى عزلة أكبر، وعليها أن تعرف أن زمن اللاعب الواحد (أميركا) يتضاءل، وأن تتوقع أدوارا كبيرة قادمة قد يكون دورا أوروبيا.. يابانيا.. روسيا.. صينيا».