العراق.. ولعبة السياسة والأمن

مستشار رئيس الوزراء لـ «الشرق الأوسط»: هناك من هو منخرط في المخطط الإرهابي من داخل الحكومة

عراقيون يتفقدون الأضرار في مبنى وزارة العدل في بغداد بعد استهدافه بتفجير في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي (أ.ب)
TT

أثارت سلسلة التفجيرات الأخيرة التي عصفت بالعاصمة العراقية بغداد مع اقتراب الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في مارس (آذار) المقبل، موجة من ردود الفعل بين مؤيد ومعارض لحكومة نوري المالكي، فيما استعد آخرون لتحويل موضوع التفجيرات إلى مادة دسمة لمهاجمة المالكي في محاولة لإسقاطه سياسيا، خصوصا بعد الفوز الذي حققه في انتخابات مجالس المحافظات عبر قائمته «دولة القانون» بداية هذا العام. ويرى مراقبون أن التفجيرات إما أن تكون بفعل سياسي مرسوم أو أن خصومه استغلوا التدهور الأمني لـ«ضرب» المالكي في الملف الذي دخل فيه انتخابات مجالس المحافظات فائزا وملوحا بأنه من منجزات حكومته الكبيرة بعد أن كادت البلاد تقع في حرب أهلية طائفية في السنتين الأوليين من توليه رئاسة الحكومة. يقول عدد من المحللين السياسيين والمراقبين للأوضاع في العراق، إنه بمجرد اختيار المنطقة الخضراء وما تضمه من مؤسسات الدولة إضافة إلى أن هذه المنطقة شديدة التحصين لتنفيذ الأهداف التي راح ضحيتها العشرات من الموظفين والمارة وحتى الأطفال، فهذا يعني بالضرورة أن الهدف هو حكومة المالكي بغض النظر عما نتج عن تلك التفجيرات.

وكانت تفجيرات قد وقعت في أكتوبر (تشرين الثاني) في منطقة الصالحية استهدفت مباني وزارة العدل ومجلس محافظة بغداد ووزارة البلديات راح ضحيتها المئات من المواطنين بين قتيل وجريح، وعد هذا الانفجار ثاني أكبر انفجار يقع في العاصمة بغداد بعد تفجيرات 19 أغسطس (آب) الماضي والتي استهدفت وزارات المالية والخارجية العراقية تلاها خمسة تفجيرات متزامنة في مناطق متفرقة من بغداد الشهر الحالي أسفرت عن مقتل 127 شخصا وإصابة 513 آخرين.

وقال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن الحكومة فشلت تماما بالملف الأمني وإن على رئيس الوزراء أن يعترف بهذا الأمر مما سيجعل الهاشمي يقف معه بقوة بعد هذا الاعتراف بالفشل أو أن تقدم أطراف في الحكومة استقالتها حفاظا واحتراما لدم العراقيين المهدور.

علي الموسوي المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء يقول حول تأثير الأوضاع الأمنية الأخيرة على شعبية رئيس الوزراء، إنه «مستهدف في هذه العمليات، بمعنى تقويض كل الإنجازات التي تمت في عهده، ولا سيما في مجال الأمن، وقد انتقلنا بفضل هذه الإنجازات من أمن مفقود تماما عند أول تسلمه لمهامه في جميع أنحاء العراق، حيث كانت المدن العراقية جزرا منفصلة لا تواصل بينها ولا يمكن الانتقال من مدينة إلى أخرى، إلا بمجازفة وأحيانا لا يمكن الانتقال داخل المدينة الواحدة من حي إلى حي إلا بتدابير معقدة ولا تخلو أيضا من المخاطرة». وأضاف «نحن الآن نتحدث عن أمن مستقر في أكثر المدن العراقية فيما لا تزال بعض المدن تعاني من أمن يخترق بين الآونة والأخرى كما في بغداد ونينوى، وحتى في هذه المدن فإن عجلة الحياة تدور بصورة طبيعية ولا يوجد شيء معطل لا المدارس ولا الجامعات ولا الأسواق ولا الدوائر والبنوك وغير ذلك». وأشار إلى أن «هناك استهدافا لهذه المنجزات»، ولكنه أضاف أنه «من الخطأ الاعتقاد أن ذلك هو الهدف الوحيد والنهائي لهذه الجرائم». وقال «إنها تستهدف تقويض العملية السياسية ككل والعودة بالعراق إلى نقطة الصفر. وتقف (القاعدة) وبقايا النظام السابق في مقدمة القوى الساعية بهذا الاتجاه لأن من مصلحة هاتين القوتين العودة بالعراق إلى المربع الأول».

لكن الموسوي لم يستثن من مخططات الإرهاب عناصر من داخل حكومة المالكي وقوى سياسية أخرى حاولت الاستفادة من تلك التفجيرات وتقويض الأمن وإن لم يسمّ أحدا بعينه، إذ قال لـ«الشرق الأوسط» «(القاعدة) وبقايا النظام البائد كانت لهم المقدمة في محاولة لإعادة العراق إلى نقطة الصفر وهو الأمر الذي دعا هاتين الجهتين إلى الالتحام في جبهة واحدة رغم انتمائهما إلى مدرستين مختلفتين، وهذا أيضا هو الذي دعا الكثير من رجال المخابرات السابقين وجميع المتضررين من الوضع الحالي إلى أن يطلقوا لحاهم ويقصروا ثيابهم ويؤموا المصلين في الجوامع». وأضاف «هؤلاء أصحاب مصلحة حقيقية مشتركة في تقويض الأوضاع.. لكن هذا لا يعني أن القوى الأخرى التي قد تكون داخلة في العملية السياسية ومستفيدة منها لا تحاول الانتفاع من أعمال (القاعدة) وأنصارها لصالح أهدافها الانتخابية. فتقوم بإكمال الجزء الأخطر من المخطط الإرهابي وهو توجيه رد الفعل وارتدادات الحدث بما يقوض الأمل بالمستقبل ويطيح بكل شيء إيجابي حصل حتى الآن وهناك من هو منخرط في هذه الخطة عن قصد أو غير قصد ولا أستثني عناصر من داخل الحكومة نفسها».

إلا أن فالح الفياض نائب تيار الإصلاح الوطني الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، نفى أن تكون الخلافات السياسية سببا في التفجيرات أو التصدع الأمني الكبير، لكنه أشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن بعض السياسيين قد يحاولون الاستفادة من الوضع الأمني المتدهور كنوع من المنافسة غير الشريفة وتوجيه اتهاماتهم للمالكي أو لائتلافه (دولة القانون)، مؤكدا أن أيا من الوزراء الأمنيين ورئيس الوزراء لم يشر إلى خلافات سياسية أثناء استضافتهم في مجلس النواب لإطلاع المجلس على التحديات الأمنية التي تواجه العراق بعد سلسلة التفجيرات التي تعرضت لها العاصمة بغداد، لكنهم أشاروا إلى شبكات إقليمية ودولية وراء هذه التفجيرات.

وكان مجلس النواب العراقي قد استضاف الأسبوع الماضي المالكي باعتباره القائد العام للقوات المسلحة والوزراء الأمنيين للداخلية والدفاع والأمن الوطني ورئيس جهاز المخابرات وقائد عمليات بغداد.

وعاد الموسوي ليقول إن «دائرة المستفيدين أوسع من دائرة المخططين والمنفذين لهذه العمليات. وللأسف أن هناك عددا من القوى السياسية أخذت تبني استراتيجيتها الانتخابية على أساس خطير ومنحرف. فبدل أن تلجأ إلى كسب الناخبين من خلال نوعية البرامج التي تقدمها وحسن الأداء الذي تتحلى به، تلجأ إلى إضعاف الخصم أو المنافس السياسي وتحميله مسؤولية أي فشل أمني أو اقتصادي أو سياسي». وأكد أن «الحكومة ستكون الهدف الأسهل والحلقة الأضعف في هذه المواجهة». وقال: «عملية النقد وتوجيهه وحتى الاتهام والتخوين سهلة ولكن عملية البناء وتحمل المسؤولية، خصوصا في مثل هذه الظروف، صعبة للغاية. وما يراهن عليه رئيس الوزراء في مواجهة هذه الحملات المنسقة هو وعي المواطن فقط».

التيار الصدري كان له رؤى أخرى باتجاه شعبية المالكي واستهدافه بالاستفادة من الخرق الأمني نحو الملف السياسي، فأسماء الموسوي عضو المكتب السياسي للتيار الصدري الذي كان وما زال يعتبر من أشد المعارضين للحكومة العراقية، وترى أنه نوع من المنافسة المعلنة لحكومة المالكي، وقائمته التي سيدخل بها الانتخابات. تقول الموسوي ضمن وجهة نظر التيار الذي تنتمي إليه، إن المستهدف هو الشعب العراقي والعملية السياسية. وتؤكد أن «الحكومة العراقية كلما حدثت مشكلة تقول إنه استهداف للحكومة لوضع مبررات العيوب التي حصلت على شماعة الاستهداف لها». وأضافت أن «الخروقات الأمنية والبعثيين الذين اخترقوا الأجهزة الأمنية هي بفعل سياسة الحكومة عندما أصدرت كتابا من مجلس الوزراء وقفت بموجبه العمل بقوانين اجتثاث البعث أو المساءلة والعدالة وتعطيل كل الإجراءات المتخذة بحق الأشخاص المشمولين بتلك القوانين وبذلك تسلل البعثيون إلى أجهزة الدولة، والأمنية منها على وجه الخصوص، ولذلك فإن من يتحمل الخطأ هو صاحب المؤسسة السياسية».

المستشار الإعلامي، على الموسوي، قلل من تأثير هذه الحملات على شعبية المالكي، وقال: «بكل صراحة إن تأثير هذه الحملات على شعبية رئيس الوزراء كانت محدودة لحد الآن وأحيانا كانت تعطي آثارا معاكسة. لقد أصبح واضحا لدى الشارع أن المستهدف في هذه الحملات هو شخص رئيس الوزراء. وهذه القناعة بالذات شكلت عامل مناعة ضد الهجمات المتتالية التي نتوقع أن تستمر وتتصاعد حتى يوم الانتخابات».

أسماء الموسوي أكدت من جانبها أن «شعبية المالكي لم تكن شعبية صنعتها الأحداث أو الإنجازات التي تتحدث عنها الحكومة لأن ما حصل تتحمله القوات الأميركية». وقالت إن الإدارة الأميركية أرادت «ضرب المقاومة العراقية وقد استخدمت حكومة المالكي لهذا الظرف وهي الآن لا تريد استخدامه للمرحلة المقبلة فقد استنفد المالكي كل الأسباب والأغراض التي وضع من أجلها وهي الآن تعد لاستحضار شخص آخر».

جبهة التوافق العراقية، التي حازت في الانتخابات النيابية السابقة على 44 مقعدا، وتعتبر أكبر كتلة سنية في البرلمان، ترى العكس مما يراه السياسيون الآخرون. فرئيس كتلة التوافق العراقية في مجلس النواب ظافر العاني يرى أن الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد عكست نفسها على كل المشهد العراقي وفي مقدمته الملف الأمني، وأن معظم التفجيرات وأعمال العنف في البلاد كانت تحمل رسائل سياسية ووراءها قضايا سياسية.

وأكد العاني أنه كلما توترت الأجواء السياسية وكلما كان هناك حدث سياسي مرتقب كالانتخابات أو عقد الاتفاقيات كان هناك توتر أمني كبير، معللا السبب بأن هناك عددا غير قليل من الأحزاب المتنفذة لها علاقة بالاضطراب الأمني وأن هذه الأحزاب بشكل أو بآخر لها أجندات وامتدادات أجنبية، مذكرا بأن عددا غير قليل من الأحزاب النافذة لديها ميليشيات ولديها عسكر تم إدماجهم في المنظومة الأمنية العراقية وقد أصبحت داخل الأجهزة امتدادا لأجندات الأحزاب التي تنتمي لها وهي فاقدة للانسجام ومنعزلة عن غيرها مستشهدا بالتفسيرات المتناقضة للأوضاع الآنية من قبل الأجهزة الأمنية والتسقيط السياسي لجهاز ضد الآخر.

وحول إيجاد الحلول لهذه القضية قال العاني: «بدون حل سياسي تقبل به كل الأطراف لا يمكن تصور تحسن في الأوضاع الأمنية ويجب أن يكون هناك تغيير في النخبة السياسية وهذا لن يحدث قبل الانتخابات». وأضاف: «علينا أن نقبل بالمصالحة الوطنية بكل أبعادها واستيعاب البعث المعتدل بأن يعاد للعملية السياسية والبعث المعتدل من يقبل باللعبة الديمقراطية وعلى الأطراف الأخرى القبول به، علينا القبول بمبدأ التسامح ووضع برنامج لاحترام المواطن العراقي بغض النظر عن معتقداته التي لا تتعارض مع معتقدات الآخرين». ولم يتجاهل الموسوي السياسيين وسعيهم لجمع أنصارهم ضد الحكومة، ويقول بهذا الشأن «لا يمكن تجاهل المخاوف من لجوء بعض السياسيين الفاشلين إلى النبرة الطائفية القديمة كمحاولة سهلة لجمع الأنصار وحشد المؤيدين وبدأت تتجمع ملامح هذا الاتجاه في دوائر لا تزال محدودة لكنها خطيرة. لقد تم رصد محاولات من هذا القبيل عند بعض السياسيين الذين أخذوا يشعرون بإفلاسهم في الشارع فعمدوا إلى انتهاج الأسلوب الطائفي سواء في محاربة خصومهم السياسيين أو في كسب المؤيدين». وقال أيضا «من اللافت في هذا الإطار أن هناك حملة شعواء شنت ضد رئيس الوزراء أو ضد الائتلاف الذي يقوده بمجرد انطلاقه من جهات محلية وإقليمية كانت ترفع أصواتها بضرورة الابتعاد عن النفس الطائفي وتلعن الطائفيين في الليل والنهار لكنها شعرت على ما يبدو بالخطر حين اتضح التركيب والتوجه الوطني للائتلاف الذي شكله رئيس الوزراء. إن عددا من هؤلاء على الأقل كان يأمل أن ينضم المالكي إلى ائتلافات ذات صبغة طائفية بخلاف ما يرفعه من شعارات ولو انضم أو شكل المالكي ائتلافا بهذه المواصفات لكانت الهجمة عليه أخف بكثير. وقد تكون أهداف هؤلاء انتخابية أي منافسة المالكي لهم في ما يعتبرونه هم عقر دارهم».

وعلى الرغم من أن تقارير الأمم المتحدة التي اعتبرت أن عام 2009 هو الأقل بالنسبة لعدد الضحايا بالنسبة للمدنيين بسبب التفجيرات، فإن التفجيرات النوعية في المكان والزمان كان لها التأثير الواضح على مجمل العملية السياسية في العراق. ويقول أحد أساتذة العلوم السياسية في إحدى الجامعات العراقية رافضا ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط» إن «الشارع العراقي لم يعد يحتمل ما نتج عن عدد من التفجيرات في أماكن متفرقة من بغداد وقد يمتد الأمر إلى محافظات أخرى» مؤكدا أنه وعلى الرغم من أن الحديث الرسمي يتجه بأصابع الاتهام إلى (القاعدة) وتنظيماتها التي قد تعلن عن تبنيها لبعض العمليات وبقايا حزب البعث فإن الشارع بشكل عام يحمل كل السياسيين مسؤولية ما يحصل». وأشار إلى أنه يجري استفتاء، بعيدا عن الأضواء خوفا من استهدافه، أثبت هذا الاستفتاء أن 60% من فئات متفرقة من الشعب العراقي يوجهون الاتهام إلى أعضاء البرلمان والحكومة وقيادات سياسية كبيرة بهذه التفجيرات بأنها محاولات لإسقاط بعضهم البعض على حساب الشعب العراقي وقد يكون هناك من يستخدم عمليات تنظيمات القاعدة والبعث لصالحه في حملات انتخابية قادمة.

وبين تقرير أخير لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) «إلى أن النصف الأول من عام 2009 اتسم بالمزيد من التحسن في الوضع الأمني مع قلة عدد الهجمات الكبيرة التي تتسبب في إصابات جماعية والتي تشنها الميليشيات وجماعات المتمردين والجماعات الإجرامية وذلك مقارنة بالعدد المسجل في عام 2008. غير أنه ورغم الانخفاض العام في عدد الهجمات، استمرت الهجمات العشوائية والقتل المستهدف ضد قوى الأمن والمسؤولين رفيعي المستوى وموظفي الخدمة المدنية والقادة الدينيين والسياسيين وأعضاء الجماعات المهنية مثل الصحافيين والمعلمين والأطباء والقضاة والمحامين، في حصد الأرواح خلال الفترة التي يغطيها هذا التقرير. وقد أشار عدد كبير من التقارير إلى ارتفاع عدد الهجمات التي استهدفت أشخاصا بسبب ميولهم الجنسية المفترضة.