البيئة تدق ناقوس الخطر للبشر

ارتفاع منسوب مياه البحار يهدد بزوال دول ومدن.. والهجرة المناخية قد تشمل من 200 مليون إلى مليار إنسان

3 صور لجبل جليدي في منطقة سانتا كروز بالأرجنتين في مراحل مختلفة ويحذر علماء من أن الجبال الجليدية في جبال الإنديز التي تفصل بين الأرجنتين وتشيلي تذوب بسبب التغير المناخي، ويمكن أن تختفي كليا بعد 25 عاما (رويترز)
TT

من أمطار وسيول جدة، إلى أمطار كمبريا في بريطانيا، ومن تكرار ظاهرة التسونامي في المحيط الهندي إلى غرق أجزاء من جزر المارشال وجزر كيريباتي في المحيط الهادىء، بدأت البيئة تدق ناقوس الخطر للبشر. فلا يكاد يمر يوم من دون أن يسمع العالم عن فيضان هنا أو جفاف هناك، ومن دون أن يرى الناس صور الضحايا والمشردين بسبب الأعاصير والأمطار. ولا يكاد يمر شهر من دون نشر دراسة علمية أو نقل تقرير يتضمن تحذيرات من علماء أو خبراء بشأن الحالة الصحية المعتلة لكوكب الأرض بسبب التلوث البيئي والتغيرات المناخية المتسارعة. فالعالم يعيش اليوم «حالة طوارىء مناخية»، حسب تعبير رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، وهو الأمر الذي جعل القادة والمسؤولين والخبراء يتجمعون في كوبنهاغن لمدة 11 يوما بهدف التوصل إلى اتفاقات عاجلة تساعد في كبح جماح انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتضع الأسس لاجراءات ملزمة للدول للحد من انبعاث الغازات الدفيئة بنسب محددة قبل أن ينتهي أمد اجراءات معاهدة كيوتو في 2012، خصوصا أن العلماء يقولون إن العالم لم يعد يستطيع الانتظار حتى ذلك الحين وإن خطوات كبرى باتت مطلوبة اليوم قبل الغد.

هل ان الصورة باتت بالفعل قاتمة إلى هذا الحد، أم أن هناك تضخيما للأمور من جانب الناشطين والعلماء المهتمين بالبيئة، بل هل ان في الأمر مخططا من الدول الصناعية الغربية لعرقلة النهوض السريع للقوى الإقتصادية الجديدة مثل الصين والهند، كما يقول أنصار نظرية المؤامرة؟

الأمر الثابت هو أن هناك اتفاقا على حدوث ارتفاع في درجة حرارة الأرض، وأن هناك اضطرابا مناخيا في العالم كله نتائجه ماثلة أمام الأعين. لكن رغم هذا الإجماع فإن هناك من يقول إن مناخ الأرض ظل عرضة للتغيرات بشكل طبيعي على مدى التاريخ، من العصر الجليدي إلى سنوات الجفاف والحر الشديد، وإن ما يحدث اليوم هو جزء من هذه التغيرات، وبالتالي فلا معنى لأجواء الرعب التي يثيرها ناشطو البيئة.

في مقابل رأي المشككين يقول العلماء والخبراء مدعومين بدراسات وتقارير دولية عديدة بعضها صدر تحت رعاية الأمم المتحدة، إن البشرية مسؤولة عن تسارع التلوث البيئي بنسبة 90 في المئة، وان السبب الرئيسي في تسارع ظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض هو تسرب الغازات سواء الناجمة عن استخدام الوقود الاحفوري مثل الفحم الحجري والنفط والغاز أو ما يرتبط بانبعاث الغازات الدفيئة. وقد أظهرت دراسة أوروبية أشرف عليها فريق سويسري ان ارتفاع مستويات درجة حرارة الأرض بلغ درجات غير مسبوقة، وأن المستويات الحالية من غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يعتبر من المسببات الرئيسية للاحتباس الحراري تعد الأعلى منذ قرون. وجمع العلماء عينات من الجليد من عمق ثلاثة كيلومترات تحت سطح القارة القطبية الجنوبية والشمالية، وهذه العينات محفوظة في أميركا وفي أوروبا، حيث جرت دراستها لمقارنة مستويات الغازات المترسبة أثناء تكون الجليد وتراكم طبقاته مما يعطي العلماء فكرة عن مستويات هذه الغازات منذ 650 ألف سنة تقريبا. وتبين على سبيل المثال أن مستويات ثاني أوكسيد الكربون ارتفعت حاليا بنسبة 30 في المئة عن أي وقت مضى وأن نسبة غاز الميثان الناجم عن تحلل المخلفات العضوية ارتفعت بنسبة 130 في المئة.

ورغم ان الولايات المتحدة تعتبر الملوث الأكبر للبيئة بشكل إجمالي، إلا أن الصين تعتبر الدولة المسببة لأكبر قدر من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تحديدا بسبب عجلة النمو الاقتصادي والسكاني فيها وبسبب اعتمادها بنسبة 70 في المئة على الفحم الحجري في محطات الطاقة الكهربائية. وقد أعلنت الصين عشية مؤتمر كوبنهاغن انها تريد تقليص انبعاثاتها من الغازات بنسبة 40 إلى 45 في المئة بحلول عام 2020 بحسب وحدة اجمالي ناتجها الداخلي، وهو ما اعتبره الخبراء اعلانا منقوصا لأنه مع تسارع النمو الاقتصادي الصيني سترتفع معدلات استهلاك الطاقة وبالتالي نسب الغازات المتسربة إلى الغلاف الجوي مما يعني أن المعدل الحقيقي لخفض نسبة انبعاثات الغاز من الصين لن يتجاوز 8% فعليا.

من جانبها أعلنت الولايات المتحدة عبر بيان من البيت الأبيض أن الرئيس باراك أوباما سيؤكد التزام بلاده بخفض انبعاثاتها من الغازات الملوثة للبيئة بنسبة 17% بحلول عام 2020 وأنها ستواصل هذا الخفض ليصل إلى نسبة 41% خلال عشرين عاما.

لكن ماذا يعني كل ذلك للبشرية؟

رغم كل الجهود الجارية ورغم كل البيانات والتعهدات خلال مؤتمر كوبنهاغن أو التي ستصدر بعده، فإن التلوث البيئي سيستمر مع استمرار انبعاثات الغازات إلى الغلاف الجوي، وبالتالي سترتفع درجة حرارة الأرض في إطار ظاهرة الاحتباس الحراري. وبات معروفا إلى حد كبير اليوم ما يعنيه ارتفاع درجة حرارة الأرض حتى ولو بنسبة بسيطة للعالم وللبشرية، خصوصا أن العديد من الظواهر الناجمة عن هذا الارتفاع باتت ماثلة أمامنا وتحدث في أماكن مختلفة من العالم. ويمكن تلخيص أبرز آثار الاحتباس الحراري في أربعة جوانب هي:

حدوث المزيد من موجات الجفاف إضافة إلى فيضانات في أماكن أخرى.

اضطرابات جوية وحدوث أشياء غير طبيعية في الطقس مثل أمطار في غير موسمها أو سقوط حبات ثلج في مناطق ساخنة أو عواصف مفاجئة.

ذوبان جليدي بشكل متسارع في المناطق القطبية أو الجبلية الباردة عادة.

ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات.

ولكل من هذه الآثار المناخية تداعياتها على حياة البشر، فعلى سبيل المثال أشارت دراسة علمية نشرت في مجلة “ساينس” إلى أن مستويات منسوب البحار ترتفع اليوم بضعف مستويات القرون الماضية، وتتراوح التقديرات بين بضع ميليمترات إلى سنتيمترات أو في أسوأ السيناريوهات إلى ارتفاع بمعدل يقترب من متر بنهاية القرن الحالي وهو ارتفاع سيعني اختفاء دول وجزر ومدن من على وجه الأرض. وعبر دراسة ورصد مؤشرات المد والجزر ومقارنتها بدراسات سابقة استنتج علماء أميركيون أن مستوى ارتفاع سطح البحار وصل إلى مستوى لم يعرف منذ 100 مليون سنة، وأنه نتيجة للاحتباس الحراري الراهن فإن مستويات البحار سوف تستمر في الارتفاع إلى مستويات قد تبلغ 88 سنتيمترا بنهاية القرن الحالي. وتشير الأمم المتحدة إلى أن نسبة 80% من سكان العالم تقطن في رقعة تمتد إلى عمق 100 ميل من السواحل، وأن هناك مدنا كبيرة مكتظة بالسكان تقع فوق مستوى سطح البحر بدرجات قليلة ومن بينها طوكيو ومومباي وسيول والقاهرة واسطنبول ولاغوس ونيويورك ولوس أنجليس ولندن وبونيس أيرس ودكا وجاكرتا ومانيلا.

وتغطي المياه حوالي 71% من الكرة الأرضية بينما لا تمثل اليابسة سوى 29% تقريبا، وهذا يعني أن ارتفاع منسوب البحار ستكون له نتائج كارثية خصوصا للمناطق التي لا ترتفع كثيرا عن مستوى البحار. وتغطى الكتل الجليدية والقطبية حوالي 10% من مساحة الأرض، وتحتوي على ثلاثة أرباع مخزون الأرض من المياه العذبة، ولو ذابت هذه الكتل فإنها لن تؤدي فقط إلى ارتفاع منسوب البحار بل أيضا إلى اختلاط المياه العذبة بمياه البحر وبالتالي اختفاء نسبة كبيرة من مخزون المياه الصالحة للشرب. ولا يتوقع أحد ذوبان كل الكتل الجليدية والقطبية بشكل كامل لأن ذلك لو حدث سيعني ارتفاع مستوى البحار بما يعادل 65 مترا وبالتالي اختفاء نسبة هائلة من كتلة اليابسة في الأرض وزوال دول عديدة. لكن حتى مع نسبة الذوبان الحالية التي تحدث حاليا نتيجة ظاهرة التسخين الحراري فإن مستويات البحار بدأت ترتفع بصورة أقلقت العلماء، ودفعت جزيرة مثل المالديف إلى عقد اجتماع وزاري ببدل الغوص تحت مياه البحر، وإلى الإعلان عن أنها ستؤسس صندوقا خاصا تضع فيه سنويا نسبة من مداخيل السياحة فيها المقدرة بمليار دولار في السنة لكي تتمكن من شراء وطن جديد في مكان آخر، إذ يتوقع اختفاء المالديف إذا تسارع ارتفاع مستوى البحار والمحيطات، علما بأن آخر توقعات الأمم المتحدة تشير إلى أن مستويات البحار قد ترتفع بحوالي 59 سنتميترا بحلول 2100، بينما تشير دراسات أخرى إلى أن نسبة الارتفاع قد تصل إلى متر بنهاية القرن.

والمالديف ليست وحدها التي تشعر بالقلق الشديد، إذ أن حوالي 180 بلدا لديها سكان في مناطق ساحلية أو مناطق ستتأثر من ارتفاع مستويات البحار والمحيطات، وهناك حوالي 17 مليون إنسان في بنغلاديش وحدها يعيشون في مناطق ساحلية ترتفع بأقل من متر واحد عن مستوى سطح البحر الحالي. كما أن الدراسات الأميركية تشير إلى أن مدنا مثل نيويورك ولوس أنجليس وأجزاء كبيرة من ولايتي فلوريدا ولويزيانا ستغرق لو ارتفع مستوى البحار والمحيطات بحوالي متر واحد. وعربيا فإن التأثيرات ستمتد من المغرب إلى الخليج، ومن سورية إلى مصر. واستنادا إلى تقرير دولي فإن ارتفاع منسوب مياه البحر بنسبة 25 سنتيمترا سيؤثر على نسبة 60% من سكان الاسكندرية، كما أن الدلتا المصرية تكون كلها مهددة. إلا أن دولا إسلامية في آسيا ستكون الأكثر تضررا حيث تذكر دراسة علمية نشرت قبل عامين في مجلة “البيئة” أن 75% من البشر الذين يسكنون في مناطق ساحلية مهددة يوجدون في آسيا وتحديدا في الصين والهند وبنغلاديش واندونيسيا وفيتنام. كما أشارت دراسة أخرى للجنة الدولية للتغير المناخي إلى أنه بين أعوام 1994 و2004 شهدت آسيا نسبة الثلثين من حوالي 1562 كارثة فيضانية على مستوى العالم. وبينما قتل حوالى 200 ألف شخص في تسونامي عام 2004 فإن أكثر من 60 ألف شخص قتلوا نتيجة الفيضانات في آسيا.

وارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات لن يكون التأثير الوحيد على البشرية نتيجة التسخين الحراري، بل هناك الظواهر الأخرى مثل الجفاف والفيضانات واضطرابات الطقس. فمع ارتفاع درجة حرارة الأرض ترتفع نسبة تبخر المياه في اليابسة والبحر، مما سيؤدي إلى حدوث موجات جفاف في المناطق التي لا يحدث فيها تعويض للمياه المتبخرة، وفي الوقت ذاته فإن المياه الزائدة المتبخرة ستهطل أمطارا غزيرة في مناطق أخرى مما قد يؤدي إلى سيول وأمطار. وفي هذا الإطار فقد لاحظ العلماء موجات حر وجفاف في عدد من مناطق العالم تمتد من أميركا إلى الصين، ومن افريقيا إلى آسيا، وفي بعض الأحيان يعقب هذه الموجات هطول أمطار غزيرة غير موسمية مما يؤدي إلى أضرار في البنى التحتية وإلى تدمير المحاصيل الزراعية.

هذه الصورة القاتمة للتغيرات المناخية، ترافقها احصائيات أخرى أكثر قتامة، إذ يتوقع المختصون ظاهرة جديدة هي “الهجرة المناخية” للبشر الذين سيتضررون من تقلبات المناخ ويفقدون مساكنهم أو مزارعهم أو سبل معيشتهم ونشاطهم الاقتصادي نتيجة ارتفاع منسوب البحار أو الفيضانات وتآكل التربة أو الجفاف ونقص المياه. واستنادا إلى المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن التقديرات لعدد النازحين واللاجئين بسبب الأوضاع المناخية والبيئية تقدر بعشرات الملايين من البشر، وهو رقم يضعه صندوق الأمم المتحدة للإسكان في حدود 50 مليونا، بينما تتراوح تقديرات أخرى بين 200 مليون ومليار شخص حسب درجة قسوة التغيرات المناخية التي قد تحدث. وتساءل جان فرنسوا دوريو المسؤول عن التغير المناخي في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين عشية مؤتمر كوبنهاغن قائلا “اليوم ينطبق مفهوم اللاجىء على الأشخاص المضطهدين أو ضحايا العنف، ولا يوجد أي إلزام باستقبال الذين يهربون من الفقر. من سيستقبل كل هذا البؤس في المستقبل؟” ويرى عدد من العلماء والمختصين ان “الهجرة المناخية” ستتجاوز ظاهرة اللجوء الإنساني المعروف اليوم وستصبح إحدى أبرز المشاكل الإنسانية في المستقبل وربما تؤدي إلى توترات ونزاعات في بعض المناطق خصوصا تلك التي تعاني من شح الموارد الغذائية والمائية.

إن المناخ هو قضية المستقبل بلا منازع، والتحدي أمام البشرية كما يقول العلماء هو القدرة على النجاح في ايجاد معادلة بين النمو الاقتصادي وبين الحد من انبعاثات الغازات التي تسهم في تسريع التسخين الحراري، فإذا تمكن السياسيون من الوصول إلى اتفاقات تخفض مستوى انبعاثات الغازات بنسبة 25-40% في غضون عشر سنوات، فإن العالم سيكون قد بدأ خطوات جدية لمواجهة مشكلة المناخ والحد من آثار التلوث البيئي، أما إذا فشلوا فإن البشرية ستشهد نموا متسارعا في ظواهر الحر والجفاف والفيضانات، وتبدأ مياه البحار في قضم أجزاء من اليابسة، أو كما قال ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز في كلمته أمام مؤتمر كوبنهاغن فإن “كوكبنا وصل إلى نقطة الأزمة”، وان علامات اعتلال صحة الأرض تتفاقم، بينما حذر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من أن الوقت ينفد بسرعة.