السلاح خارج المخيمات في لبنان يعود إلى الواجهة

تصريحات أبو موسى: رسالة سورية أم مناكفات داخل الصف الفلسطيني؟

مسلح من فتح أمام مخيم «المية مية» جنوب لبنان (أ.ف.ب)
TT

بدا مجلس الوزراء اللبناني حاسما في جلسته الأخيرة، الثلاثاء الماضي، عندما أعلن مجتمعا أن «السيادة اللبنانية ليست موضوعا للتفاوض»، وشدد على «تنفيذ مقررات طاولة الحوار، وعلى التزام ما جاء في البيان الوزاري في هذا المجال لجهة سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات»، الحسم الوزاري الذي يفتقده لبنان في ملفات كثيرة وحساسة، جاء ردا على تصريحات أمين سر حركة فتح الانتفاضة، العقيد أبو موسى، خلال زيارته لبيروت، المطالبة بإبقاء السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، مع الإشارة إلى استعداده للحوار مع الدولة اللبنانية بشأن بعض المواقع.

المفارقة في تصريحات أبو موسى أنها صدرت من أماكن لها دلالتها، ولعل أهمها ضريح القائد في حزب الله، عماد مغنية، الذي اغتيل في دمشق قبل عامين، وبوجود مسؤولين من الحزب، كذلك بعد زيارته الوزير السابق وئام وهاب وغيره من حلفاء سورية، ما يجعل الحسم الوزاري اللبناني، لفظيا لا فعليا، يضاف إلى ذلك أن إمكانية الحسم يشوبها ضعف، على اعتبار أن موضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات هو موضوع إقليمي بامتياز، وإن اتسم بروافده من الحلفاء المحليين، ويزيد في وطأة الدلالات ما تردد من معلومات غير مؤكدة، أن الرئيس السوري بشار الأسد وعد رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري بحل مسألة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، مقابل كلام يطلق للمرة الأولى عن أنه لا علاقة لسورية بهذا الملف تحديدا، سواء على لسان أبو موسى أو حركة حماس أو حزب الله، عبر تأكيد لعضو المكتب السياسي في الحزب، غالب أبو زينب، في تصريح له جاء فيه أن «العلاقات اللبنانية - السورية وضعت على السكة الإيجابية وهي لمصلحة البلدين، وأنه لو كانت تصريحات أبو موسى قد أعلنت قبل زيارة الحريري لسورية لكان من الممكن اعتبارها رسالة للحريري، أما اليوم فلا يمكن اعتبارها هكذا»، ولفت إلى «أن تراجع أبو موسى عن تصريحاته يصب في هذا الإطار».

لكن يبقى أن مثل هذه التصريحات كفيلة بإثارة عواصف سياسية عاتية في لبنان، لا سيما أن التاريخ القريب لفتح الانتفاضة يرتبط ارتباطا مباشرا بحركة فتح الإسلام، التي يعتبرها كثيرون امتدادا لها، ولا يكفي نفي أبو موسى علاقة حركته بالتنظيم الإرهابي الذي تسبب في حرب مع الجيش اللبناني صيف 2007 دارت في محيط مخيم نهر البارد في شمال لبنان وهدمته.

على أي حال سمعة فتح الانتفاضة كحركة انشقت عام 1983 عن حركة فتح بقيادة العقيدين أبو موسى وأبو خالد العملة وأبو فاخر عدلي الخطيب ونائب قائد قوات العاصفة أبو صالح، ترتبط برغبة سورية في القضاء على كل ما يمت بصلة إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وفور ظهور هذه الحركة الانشقاقية، سارعت إلى المشاركة في عدة معارك في البقاع وطرابلس ضد عرفات والموالين له، لينتقل الصراع في ما بعد إلى المخيمات حيث شاركت مع حركة أمل، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، ومنظمة الصاعقة، في ما سمي بحرب المخيمات بين 1985 و1988، بعد ذلك انحسر دور فتح الانتفاضة ليقتصر حضورها المركزي في سورية وفي المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن.

أما حكاية «السلاح الفلسطيني خارج المخيمات» فيمكن العودة بها إلى مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج البنية الفلسطينية المسلحة من بيروت، لتبقى القواعد الفلسطينية في البقاع على حالها، وتستمر بعد انشقاق أبو موسى عن فتح، آنذاك ربط السوريون وجودهم في البقاع بوجود هذه الفصائل في مناطق الانتشار السوري، وتحديدا في مناطق قوسايا وحلوى ووادي بكا وقلعة إدريس التي يحكى أن زعيم فتح الإسلام، شاكر العبسي، تدرب فيها.

والجولة الميدانية لـ«الشرق الأوسط» في تلك المناطق، تبين أنها لا تزال جزرا أمنية يقف الجيش اللبناني عند حدودها ولا يدخلها، ويروي الأهالي هناك أن «حلوى ممسوكة من السوريين الذين يتحكمون في وجود فتح الانتفاضة، والجبهة الشعبية - القيادة العامة»، ويضيفون: «غالبا ما تكون هذه المناطق هادئة، لكن فجأة يطلع المسلحون من بين الصخور ولا نعرف ماذا يفعلون، وهم يسيطرون على مناطق استراتيجية، كما أن آليات سورية تحمل إليهم المؤن والعتاد».

وكان الجيش السوري قد أعاد أنفاق تلال الناعمة إلى الجبهة الشعبية - القيادة العامة، بعد عودتها إلى بيروت في ثمانينات القرن الماضي، وفي حين توصلت الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق الطائف وبمبادرة من الأمين العام السابق للحركة الوطنية محسن إبراهيم إلى تفاهم تم بموجبه جمع السلاح الفلسطيني الثقيل والمتوسط وتقديمه إلى الجيش اللبناني، وقد تم ذلك بكشوف موثقة ومدققة من قبل قيادة الجيش، كما تم انكفاء المقاتلين الفلسطينيين من المحيط اللبناني إلى داخل المخيمات.

غير أن الوجود السوري في لبنان استثنى من هذا الاتفاق الفصائل التي تلتزم مرجعيته، وأكثر من ذلك سحب الموضوع الفلسطيني من التداول اللبناني الداخلي وصار شأنا أمنيا سوريا منذ اتفاق الطائف عام 1989 وحتى عام 2005، ويعتبر الدكتور سعود المولى في دراسة له أنه «ليس صدفة أن اتفاق الطائف لم يأتِ على ذكر الفلسطينيين إلا من خلال شعار رفض التوطين في البند 9 من المبادئ العامة ترد عبارة: لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، ثم من خلال البند المتعلق ببسط سيادة الدولة على كامل أراضيها في عبارة: الإعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة خلال 6 أشهر، ومن دون مجرد ذكر اسم فلسطين أو الشعب الفلسطيني أو اللاجئين».

واليوم يكثر الحديث عن «السلاح الفلسطيني خارج المخيمات»، ويرتبط بالقرار 1559 الذي يدعو إلى تجريد الميليشيات من سلاحها، لكن أصل التسمية برزت عام 2005 عندما انسحب الجيش السوري من لبنان بفعل تداعيات جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، ولم يستكمل قراره هذا فيسحب معه القوى العسكرية لهذه الفصائل على الرغم من تقلص عددها.

وأصبحت التسمية مصطلحا في الحياة السياسية اللبنانية، بعد أن حاصر الجيش اللبناني تلال الناعمة، فتدخل حزب الله لفك الحصار، ليصار إلى طرح المصطلح بندا على طاولة الحوار الأولى عام 2006، وتم الاتفاق على إيجاد وسيلة لنزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ليصار إلى تثبيت الأمر على طاولة الحوار الثانية التي عقدت برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، وهكذا بات واضحا أن حماية الفصائل الفلسطينية المسلحة انتقلت إلى حلفاء سورية.

ومع زيارة أبو موسى هؤلاء الحلفاء ليطلق تصريحاته المثيرة للجدل، يُطرح سؤال عن قدرة الدولة على نزع هذا السلاح، إذا سلمنا بأن هذا القرار يحظى بإجماع وطني، ويكرّس هذا السؤال ردود فعل اعتبرت الأمر رسالة سورية بمعزل عن محاولات التخفيف من وطأتها.

مصادر رسمية لبنانية أوضحت لـ«الشرق الأوسط» أنه «لا حاجة إلى خطة لدى الدولة اللبنانية لنزع سلاح الفلسطينيين خارج المخيمات، يكفي القرار والتوافق الوطني بشأنه»، وأشارت إلى «أن المطلوب أن يتم التفاهم مع مرجعيات هذه الفصائل لتقوم بالترتيبات اللازمة لتنفيذ هذا القرار، سواء في منظمة التحرير أو لدى النظام السوري القادر على التأثير على الأطراف الفلسطينية الموالية له»، وتنفي المصادر «أي توجه ليتولى الجيش اللبناني هذه المهمة، لأن المطلوب تكريس التفاهم وليس المواجهة والتصادم وتوريط الجيش في ملف يمكن حله بالعودة إلى مرجعياته، وليس إلى كل من يخطر في باله إطلاق التصريحات».

وفي هذا الإطار قال قائد الكفاح المسلح الفلسطيني العميد منير المقدح لـ«الشرق الأوسط»: «إن حوار تحالف القوى الفلسطينية مع الدولة اللبنانية كان قد بدأ عام 2006، برعاية الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكان حوارا إيجابيا بكل ما يتعلق بالمخيمات وخارجها، إلا أنه توقف نتيجة العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006»، وأضاف: «اليوم نتمنى أن تكون الدولة اللبنانية، وفي ظل التوافق الناتج عن حكومة الوحدة الوطنية، جاهزة لفتح الملف الفلسطيني بكل جوانبه».

وعن تصريحات أبو موسى قال: «لا نريد أن تنعكس هذه التصريحات سلبا على الحوار المنتظر، أو تؤدي إلى خلاف بين الفلسطينيين أنفسهم، كما أننا لا نريد أن نكون عقبة في طريق السلم الأهلي اللبناني، لا سيما أن لدينا مع الدولة اللبنانية اتفاقا واضحا ومتينا بشأن رفض التوطين والتمسك بحق العودة، ما يعني أن لبنان يتكلم فعلا بلسان الفلسطينيين، وكل ما هو دون التوطين وحق العودة يمكن مناقشته والاتفاق عليه».

بيد أن المستشار في سفارة فلسطين لدى لبنان هشام دبسي قال: «يذكرنا أبو موسى بلحظات مأساوية للشعب الفلسطيني، سواء لجهة الانقسام على حركة فتح أو الهجوم على مخيمي البارد والبداوي ومخيمات بيروت، وهذه اللحظات تشكل تاريخا أسود في العلاقات الداخلية الفلسطينية، واليوم تحمل تصريحاته نذير شؤم للشعب الفلسطيني، لأنها تأتي معاكسة وبشكل كامل لمجمل العلاقات الفلسطينية - اللبنانية التي قطعت شوطا في بناء التفاهمات».

من جهته لا يجد المقدح الوضع مأساويا، ويعيد الكرة إلى الملعب اللبناني، فيقول: «إذا صدقت الحكومة اللبنانية في التعامل مع هذا الملف، ستحصل الإيجابيات التي تصب في مصلحة الشعبين اللبناني والفلسطيني، وأبو موسى كان واضحا في هذا الشأن فقال في تصريحه إنه يريد الحوار، وهو على أي حال لن يخرج عن الإجماع الفلسطيني».

تصعب قراءة ما قاله أبو موسى، بشأن السلاح خارج المخيمات، في إطار عدم خروجه عن الإجماع الفلسطيني، فالتصريحات التي أعقبت زيارته تدل على ذلك، وأوضحها دلالة ما صرح به أمين سر حركة فتح، سلطان أبو العينين، من رام الله، فقال «إن أبو موسى وبعد موته السياسي قبل 30 عاما، يحاول أن يستحضر نفسه اليوم على حصان السلاح خارج المخيمات، وهو لا يعلم شيئا عن واقع الفلسطينيين في لبنان ولا يدري أحوالهم، خصوصا أن الحكومة اللبنانية الحالية تضع على جدول أعمالها تقديم الحقوق المدنية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين وإعمار مخيم نهر البارد»، وأبدى أسفه على «فتحِ جرح عميق مع الأشقاء اللبنانيين بعد التوافق».

إلا أن المقدح، وفي حين يعترف بالمشكلة الموجودة، يؤكد أن أبو موسى موجود كغيره من الفصائل الفلسطينية، وأضاف: «القوى الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير وحماس، قررت عدم نقل ما يحصل في الضفة وغزة إلى لبنان، وذلك لخصوصية هذا البلد، وقد ذهبنا موّحدين إلى كل حوار أو اجتماع يتعلق بنا، مهما تكن التناقضات التي تسود صفوفنا، يبقى أن معاناتنا واحدة ومطالبنا واحدة، حول كل القضايا التي لا تزال تحتاج إلى حل، ولهذا تبحث منظمة التحرير في كيفية إصلاح الواقع الفلسطيني وإشراك جميع القوى غير الممثلة حتى الآن».

لكن هذا الطرح يبدو وكأنه يلزم الدولة اللبنانية بمفاوضات مع قوى غير ممثلة في المنظمة، في حين المفروض أن يكون الحوار والقرارات الناتجة عنه بين لبنان والسلطة الفلسطينية بما تمثل من شرعية، يجيب المقدح: «السلطة الفلسطينية لا تمثل الشعب الفلسطيني في الشتات، إنما فقط في الضفة وغزة، والمرجع هو منظمة التحرير ويجب أن تكون القوى والفصائل الفلسطينية تحت سقفها».

ويقول دبسي: «هذا السلوك التلفزيوني لأبو موسى ينطوي على نوايا لا تهدف إلا إلى إثارة الرأي العام اللبناني ضد الوضع الفلسطيني برمته، في حين تسعى منظمة التحرير إلى كسب ثقة اللبنانيين من خلال الإصرار على الالتزام بسيادة لبنان وشرعيته وقوانينه وتنقية الذاكرة»، ويضيف: «أعتقد أن النشاط المفاجئ لشخص منسي ومنفي عن الساحة اللبنانية منذ سنوات ليس عفويا، بل هو مقدمة لأشياء لا ندري مدى خطورتها، ويجب التعامل معها بحذر شديد».

دبسي يعتبر أن «موقف أبو موسى أساء إلى اللبنانيين الذين يعملون على حل مشكلة الفلسطينيين، وهو يتحدى جهود الدولة اللبنانية وسيادتها وقدرتها على فرض القانون على أرضها ومعالجة ملف له تشعبات محلية وإقليمية».

هذا الطرح يدفع إلى سؤال عن أولويات القوى الفلسطينية، ألم يكن أجدر بأبو موسى أن ينسق مع منظمة التحرير عوضا عن تجاهل وجود دولة لبنانية لها سيادتها؟ أليس من الأفضل أن يرتب الفلسطينيون أوضاعهم ويوحدوا كلمتهم قبل طرح مواضيع سجالية تتعلق بسلاح خارج المخيمات لا شرعية فلسطينية أو لبنانية له، ومعروفة مرجعيته في سورية؟

يقول المقدح: «هناك قوى موجودة على الأرض ولا يمكن تجاهلها، والأفضل تجنب اللعب على التباينات في الساحة الفلسطينية وعلى الحكومة أن تبادر إلى فتح الملف الفلسطيني، ونحن ننتظر المبادرة».

إلا أن اللعب على التباينات كان سمة زيارة أبو موسى إلى لبنان ولقائه حلفاء سورية دون سواهم، من دون أي مراعاة لبلد له سيادته، لكن المقدح يفسر خطوة أبو موسى بالقول: «هناك إملاءات أميركية تعمل على مشروع توطين الفلسطينيين كما أن هناك تهديدات إسرائيلية للبنان، ولولا قوة المقاومة لكان الوضع أسوأ».

المقدح لا يملك أجوبة عن كل ما يتعلق بسيادة لبنان وسلطته على أراضيه، ليكتفي بالعودة إلى التخويف من التوطين، ويقول «إن عشرات الآلاف من الفلسطينيين حصلوا على الجنسية اللبنانية منذ عام 1948 حتى تاريخه»، لكنه لا يعلق على سعي الفلسطينيين إلى هذه الجنسية أو غيرها لضمان مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في ظل الصراع المستمر مع إسرائيل، وفي ظل انعدام توافق فلسطيني يساهم في ضياع البوصلة لدى شرائح كبيرة منهم، وبمزيد من الاضطهاد لهم وتحويلهم إلى ورقة ضغط على لبنان عندما تدعو حاجة بعض الجهات الإقليمية إلى العبث باستقراره.