سليمان فرنجية: الرابح

«ملتزم بالخط» منذ بدأ مسيرته السياسية.. وهذا «الخط» يقوده مباشرة إلى «قصر المهاجرين» في دمشق وقصر الرئاسة اللبنانية

TT

يتباهى النائب اللبناني سليمان فرنجية بأنه ملتزم «الخط» منذ بدأ مسيرته السياسية، وهو لم يزح عنه ولم ينقلب عليه، كما هو حال عدد كبير من أهل السياسة في لبنان، هذا «الخط» يقوده مباشرة إلى «قصر المهاجرين» في دمشق حيث مقر الرئاسة السورية، ويطمح عبر هذا «الخط» في الوصول إلى قصر الرئاسة اللبنانية، عندما يحين الوقت لذلك، فيحقق في نهاية المطاف الحلم الذي يراود كل سياسي ماروني في لبنان، ولكن بأوراق أقوى مما لدى غيره.

عود على بدء، لا يخفى على أحد أن علاقة خاصة وثابتة تجمع فرنجية مع الرئيس السوري بشار الأسد، ولم تهتز هذه العلاقة أو يتغير موقعه الثابت فيها على الرغم من الأزمات التي عرفتها الدولتان الجارتان، كما أنه لم ينكر ارتباطه بدمشق وعدم انقطاعه عن زيارتها مرة كل أسبوع أو أكثر، وفي ظل الظروف الصعبة التي أقفلت طريق الشام على كل الخطوط السياسية اللبنانية، وقبله كان جده رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية قد أسس هذا الخط من خلال علاقته الوثيقة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.

هو إذن الحفيد الذي ولد في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1965، وينتمي إلى واحدة من أهم الأسر السياسية المارونية الموجودة بقوة في منطقة زغرتا ومحيطها في شمال لبنان، جده هو الرئيس الراحل سليمان فرنجية، ووالده هو النائب والوزير طوني فرنجية، وأخو جده هو حميد فرنجية (والد النائب السابق سمير فرنجية) أبرز رجالات الاستقلال اللبناني، ومن الزعامات المارونية التي كانت تؤيد الاستقلال عن فرنسا، في مواجهة تأييد بعض زعامات الموارنة استمرار الانتداب.

وصفة الحفيد ملزمة في تاريخه الإنساني والسياسي، إلزامية هذه الصفة بدأت صباح الثالث عشر من يونيو (حزيران) 1978، حينها أقدم مسلحو «القوات اللبنانية» بأمر من الرئيس الراحل بشير الجميل (مؤسس القوات المنبثقة من حزب الكتائب الذي أسسه والده الراحل بيار الجميل) على اقتحام منزل الرئاسة في المنزل الصيفي للرئاسة في إهدن (شمال لبنان)، وقتلوا والده طوني ووالدته فيرا قرداحي وشقيقته جيهان (3 سنوات)، إضافة إلى نحو 30 شخصا كانوا مع العائلة، آنذاك كان الفتى سليمان البالغ الـ13 من عمره، وحدها المصادفات شاءت أن يكون في منزل جده في جونيه، لينجو من مجزرة إهدن ويصبح وحيد جده، وتفرض عليه «الإقامة الجبرية» تحت «الحماية المشددة» في زغرتا مدة 13 عاما، وتتقوض أحلامه بالتخصص الجامعي في الميكانيكا أو الهندسة، المراهق الشقي الذي عاش في كنف جده، كان يهرب من المدرسة، مفضلا عليها نقاط مراكز شباب تيار المردة، الذي كان أسسه والده عام 1969، ليتولى عام 1987 تأسيس كتيبة من 3400 شخص ضمن تيار المردة، ومن ثم يتولى عام 1990 رئاسة هذه الميليشيا مبعدا عمه روبير عنها، ومحولا إياها إلى حركة سياسية زغرتاوية.

الحفيد سليمان أصبح الوريث الشاب وأكمل مسيرة جده زعيم موارنة الشمال في محالفة سورية، مخالفا الخط العام السائد لدى الموارنة في النظر إلى هذه الجارة على أنها الخصم التاريخي لهم، سواء كان من يحكمها سنيا أو علويا، ومثلما استفاد الجد من دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 لتنقذه من أيدي الجبهة الوطنية والفلسطينيين، الذين كانوا على وشك حسم الصراع لصالحهم وإنهاء الحرب الأهلية في فترة وجيزة، مع إمكانية إلغاء النظام الطائفي، بقي الحفيد أحد أهم المستفيدين من فترة الوجود السوري.

هو لم يعرف مهنة غير النيابة والوزارة، كان يأخذ مصروف الجيب من جده (الذي توفي عام 1992) حتى حانت الإشارة الأولى لحظوته لدى الحكم السوري عام 1990 عندما عين نائبا ومن ثم وزيرا للإسكان عام 1992، في الحكومة الأولى بعد الطائف، ويبقى ثابتا في كل الوزارات المتعاقبة حتى عام 2005 وكان وزيرا للداخلية في حكومة الرئيس عمر كرامي عندما خرج الجيش السوري من لبنان عام 2005 بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، ليخرج من النيابة والوزارة، لكن ليعود أقوى وأكثر ثقة بدوره وحضوره في المعادلة الحالية على الساحة السياسية.

دخوله الباكر إلى السياسة سبقه دخول أبكر إلى القفص الذهبي، مع زواجه الأول من ماريان سركيس عام 1983، ورزق منها بولدين هما طوني عام 1987، وباسل عام 1992، إلا أن زواج الصغر لم يكتب له طول العمر، لينتهي على الورق بعد جفاف اعتراه، عندما التقى فرنجية الإعلامية ريما قرقفي وتزوجها عام 2003 بعد قصة حب شغلت الأوساط الاجتماعية والسياسية واستوجبت قرارا من الفاتيكان بإبطال زواجه الأول، بعد رفض البطريركية المارونية في لبنان ذلك، ورزقا قبل نحو عامين بابنتهما فيرا. حياته الشخصية بقيت بعيدة عن التداول، لكن قبل الانتخابات النيابية الماضية بدأت تظهر للإعلام من خلال مقابلات معه ومع زوجته ريما، وبدت جوانب هذه الحياة إنسانية جذابة تكشف عن عفوية شخص لا يجيد التصنع والتكلف، ولا يحب السهرات الصاخبة، ويفضل سماع الموسيقى الكلاسيكية والطرب العربي، أصدقاؤه المقربون يختارهم بدقة، ويعيش بينهم، مكرسا الوقت الأكبر لعائلته، التي يكنّ لها عاطفة كبيرة، وغالبا ما يجهل كيف يعبر عنها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بصغيرته فيرا، التي أعطاها اسم والدته، قال في إحدى المقابلات التلفزيونية، «إن شعوره تجاهها يختلف عن شعوره تجاه طوني وباسل، لأن العاطفة بين الأب وابنته تكون دائما أقوى»، كما عرف عنه الجمهور ممارسته هوايات مترفة، كالصيد وقيادة الطائرات والتصوير والغطس والاهتمام بالبيئة وتكريسه وقتا لمحمية «بنشعي» التي يجلب إليها حيوانات من رحلات الصيد.

كذلك عرفه هذا الجمهور قريبا من جماعته، سمعه وشاهده قُبيل الانتخابات على شريط فيديو يستشيط غضبا، ويعنف بعض مناصريه بكلام لاذع ويصفهم بأشنع الأوصاف، ليعلق أحدهم «نحن تربيتك يا بيك»، والأمر صحيح فهو ينهرهم ويحميهم ويغطيهم مهما ارتكبوا من أخطاء، لطالما هتفوا له «أنت البطرك (البطريرك) يا سليمان»، يرون فيه الفتى الذي نجا من مجزرة، والزعيم الذي نما في أحضان جدّه وأحضانهم، القبضاي الذي ينطق لسانه بما يختلج في قلبه ولا يعترف بالخطوط الحمراء.

أما حكاية «أنت البطرك يا سليمان» فجاءت لدعم «البيك» في خلافه مع البطريرك الماروني نصر الله صفير، وتناوله إياه بكثير من النقد والتجريح، حتى وصل به الأمر إلى الهجوم السافر على صفير، نيابة عن سورية وحلفائها، ورفعا للحرج الطائفي، وآخرها وصفه بعض رجال الكهنوت بـ«المنغلقين على أنفسهم الذين يأكلهم الغبار والصدأ»، إلا أن هذا الأمر لم يقطع شعرة معاوية بين فرنجية وصفير، ولم يحُل دون محطات «وفاقية» ترجمت بزيارات متقطعة قام بها فرنجية إلى البطريركية المارونية.

هذا هو سليمان فرنجية الذي لا يرضى بالبقاء هامشيا بين حلفائه اللبنانيين، لذا «لا يمزح» إذا سعى البعض إلى مس حيثيته كزعيم من زعامات «8 آذار»، ولا يرضى إلا بالجلوس معهم على قدم المساواة، كذلك لا يرضى أن يقترب من زعامات «14 آذار» إلا بقوة، كما ظهر دوره خلال مفاوضات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في تعامله مع رئيس الحكومة سعد الحريري، وكذلك في «التمهيد» لزيارة الحريري إلى دمشق. إلا أن فرنجية يرفض أن يصنف «وسيطا» لأنه لا يعرف ولا يرغب في هذا الدور، يقول في أكثر من تصريح، إنه لا يدّعي أي علاقة مباشرة بلقاء الحريري والأسد، لكنه لم ينفِ قدرته على نقل الأجواء الطيبة والمساعدة مع جو التقارب السوري - السعودي، ليذكر أن الزيارة جاءت ثمرة تقاربات إقليمية، وهو يوافق على أن تنازله عن حقيبة وزارية سهل إنجاز التشكيلة الحكومية، لكن ذلك لا يعني أنه كان «عرابا» ليصر على أنه لاعب أساسي.

في تلك المرحلة برز واضحا التباين بين فرنجية وعون، وتحديدا عندما انتقد عون علنا تنازله عن الحقيبة، اكتفى فرنجية بالصمت ومتابعة جهوده، وبعد فترة قال في مقابلة تلفزيونية، إنه اختار التنازل لقدرته على ذلك «وحتى لا يدفع الثمن حلفاء لنا داخل تكتل الإصلاح والتغيير»، ويشير إلى أنه «فاوض الحريري ليحصل عون على حقائبه الوزارية».

وإذ لا ينكر الخلاف مع عون يشدد على أن ذلك لم يؤدِ لإلى القطيعة، ويوضح: «نحن الاثنان طباعنا حادة والجنرال كان يعتبر التنازل غير محق، أما أنا كنت أراه تسهيلا ومرت غيمة ولكن هناك خط سياسي يجمعنا، وخطّي عمره 30 سنة قبل كل الناس»، ويضيف: «العلاقة عادت سليمة، تحدثنا وتصارحنا وكل الأمور عادت طبيعية، حدث فتور وانتهى».

ويشدد فرنجية في كل مناسبة على وجود تكامل بين تيار المردة مع التيار الوطني الحر، لينفي كل كلام عن تنافس مع التيار في جبل لبنان، ويرفض ربط عزوفه عن حضور اجتماعات تكتل التغيير والإصلاح بأي خلفية تنافسية، ليؤكد أنه «حليف عون وفي تكتل واحد إلى جانبه، لأنه الأقوى على الساحة المسيحية ولأنه الأكبر سنا قبلنا بقيادته، ونحن بحاجة إلى تقويته على الصعيد الوطني، لذا أقول إنني لا أتقدم يوما عليه وهو يتقدمنا جميعا».

ويقول مصدر سياسي «وسطي» لـ«الشرق الأوسط»: «إن سورية تريد حاليا أن يبقى عون الزعيم المسيحي الأول في لبنان والشرق، إلا أنها تنظر إلى فرنجية على أنه صديق وفي، يمكنها الاعتماد عليه في المهمات الصعبة، لديها ثقة به على المستوى السياسي وعلى المستوى الشخصي، كما أن آل فرنجية منفتحون على العروبة تاريخيا، فهم يعتبرون أنفسهم موارنة العرب أو عرب الموارنة، أما عون فانفتاحه العربي جديد».

على التجاذب بين فرنجية وبين عون، يقول المصدر: «جميع القادة اللبنانيين يتجاذبون فيما بينهم حتى داخل الصف الواحد، وبين عون وفرنجية كان التجاذب واضحا خلال مرحلة تشكيل الوزارة، إلا أن فرنجية يعرف حجمه جيدا وهو يطمح للبقاء حليفا قويا إلى جانب عون، إلا أن ذلك لا ينفي أنه يتوسع ليخرج من المنطقة والعشيرة إلى رحاب أوسع، لذا افتتح مكاتب لتيار المردة في جبيل وكسروان والمتن، يريد الخروج من الشمال باتجاه لبنان كله، لا سيما أن البعض يصف تياره بأنه تجمع صغير لآل فرنجية وليس حزبا له فكره وبنيته».

لكن مصدر قريب لـ«14 آذار» يرى أن «فرنجية صناعة سورية بالكامل، لا يوجد شيء لبناني في حضوره السياسي، لذا بقي وزيرا لمدة 15 عاما بإرادة سورية، فرضه النظام السوري على رؤساء الحكومة الذين تعاقبوا منذ اتفاق الطائف وحتى خروجهم من لبنان عام 2005، فقد خرج من المراهقة إلى الوزارة، وساعده مركزه الوزاري على تقديم خدمات إلى أهالي دائرته الانتخابية في زغرتا ومحيطها»، ويقول: «دور فرنجية لا يختلف عن دور عون في الأجندة السورية لإعادة إحياء المجموعات الكفيلة بتولي مهمة الثورة المضادة على الفريق المسيحي المستعصي على الوصاية السورية، بدءا من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ومرورا برئيس مجلس النواب نبيه بري وليس انتهاء بعون وفرنجية، دور هذه المجموعات إعادة النظام السوري إلى النسيج اللبناني».

ويضيف: «التنافس بين فرنجية وعون موجود، وقد أصبح في جزء منه تنافسا في العلاقة مع سورية، على الرغم من العلاقة الشخصية بين فرنجية والأسد، فالسوريون أخذوا عون زعيما واستقبلوه بحفاوة فائقة فرشوا له السجاد الأحمر وطوبوه زعيم المسيحيين في الشرق، ولدى تأليف حكومة الوحدة الوطنية، بادر فرنجية إلى موقف إيجابي بقبوله وزارة من دون حقيبة، فانزعج عون لسعي فرنجية إلى تسهيل تشكيل الحكومة حتى يسرّع آنذاك لبشار الأسد زيارته إلى فرنسا، لذا سارع عون إلى إرسال صهره الوزير جبران باسيل برفقة ميشال سماحة ليقدم التنازل، ويقول للسوريين: نحن هنا، ولا لزوم لفرنجية ليقوم بمبادرات نستطيع أن نقوم بها لأجلكم». وتعتبر رغبة فرنجية في وراثة التيار العوني واضحة وحقيقية، فهذا التيار سينتهي مع عون الذي يعرف ذلك ويرغب أن يكون باسيل وريثه المدعوم من السوريين، من هنا إشكالية العلاقة بين فرنجية وباسيل، التي برزت خلال المفاوضات لتشكيل الحكومة، عندما قال باسيل له: إذا لم أصبح وزيرا فإن التيار سيحبط، ليرد فرنجية: إذا جئت وزيرا سيحبط التيار بالتأكيد، لكن حلم الوراثة هذا دونه أمور كثيرة، أولها وأهمها أن الزعيم الزغرتاوي يبقى محكوما بالجغرافية ولن يستطيع الدخول مرتاحا إلى جبيل وكسروان والمتن، لا إمكانية لولادة مثل هذه الزعامة لمنطقة تصنف كل ما هو خارجها بـ«الغريب»، ليستطرد: «كذلك ليس صحيحا أن فرنجية هو الزعيم المطلق في زغرتا، فقد جاءت نتائج الانتخابات النيابية متقاربة بينه وبين ميشال معوض، انطلاقا من الواقع العشائري في هذه المنطقة، وعلى الرغم من عدم تقديم آل معوض خدمات بالحجم الذي قدمه فرنجية إلى الناخبين على امتداد سنوات من خلال توليه حقيبة وزرة الصحة».

وفي حين يرى المصدر «الوسطي» أن «دور فرنجية الحالي بين الأسد والحريري لم ينتهِ مع لقاء الرجلين ليبقى توفيقيا ومستمرا، انطلاقا من الحظوة التي يميزه بها آل الأسد، فهناك روابط وثيقة بين العائلتين»، يقول المصدر القريب من «14 آذار»: «اليوم استفاد فرنجية من ظرف التقارب السوري - السعودي، وانخرط في هذا التقارب بتوجهات سورية، فهو ينطق بمصالح تفرضها علاقته مع الأسد».

أما عن حظ فرنجية في رئاسة الجمهورية فيقول المصدر «الوسطي»: «إن حظه يكبر إذا توافقت عليه سورية والولايات المتحدة، ومعروف أن سورية تثق به، ولا تعتبره يهدد أمنها، مع أن الأفضلية لديها دائما لرئيس من صفوف الجيش اللبناني، على اعتبار أنها قولبت الجيش وفق مقاييسها منذ تسلمها لبنان بعد اتفاق الطائف»، ويشير إلى «أن نقطة الرئاسة هذه شكلت عقدة أو غيمة سوداء بين فرنجية والحكم السوري، وإن لم تنقطع العلاقة، ولعل المرحلة الحساسة كانت مع اختيار هذا الحكم الرئيس السابق إميل لحود لرئاسة الجمهورية، آنذاك كان فرنجية في الـ33 من عمره، ومعروف أن العلاقة بين لحود وفرنجية لم تكن جيدة أبدا، ولطالما اعتبر أن لحود يستمع كثيرا إلى ما يعطيه إياه المدير العام للأمن العام اللواء جميل السيد، لكن فرنجية سيكون في الـ50 لدى حلول الاستحقاق الرئاسي، بالتالي العمر يلعب لصالحه في المرحلة المقبلة، إذا نضجت الظروف المناسبة».

أين سليمان فرنجية من هذه القراءات لدوره حاضرا ومستقبلا؟

قد يكون الجواب في «الخط» الذي يصفه «البيك» بأنه «عربي مشرقي»، وفي وحدة «المسارين السوري واللبناني، وتحديدا على صعيد المفاوضات مع إسرائيل»، ليشدد على الشراكة من دون إلغاء للخصوصية والكثير من الواقعية السياسية، التي تدفعه إلى التحالف «مع الشرق ومع العروبة ومع إيران، ليس لأنه يحب إيران أكثر من الآخرين أو لأنه أحب الشرق أكثر من الغرب»، يقول في مقابلة صحافية: «إذا سألوني إذا كنت أحب أن أعيش في فرنسا أم في سورية، طبعا سأقول فرنسا، ولكن بالنتيجة أنا أنتمي إلى الشرق، وإقناع المجتمع المسيحي بذلك أمر صعب لأن هذا المجتمع يرى الشكل في كثير من الأماكن وينسى المضمون السياسي، والوجود العسكري للجيش السوري لم يساعدنا في إقناع الناس لأنهم كانوا يرون الأخطاء فقط، والأخطاء دائما تطغى على الحسنات، وأتصور أن الوضع أصبح أفضل اليوم لأننا أصبحنا قادرين على إظهار الحسنات، والأخطاء لم تعد قادرة على أن تطغى على الحسنات».

قد يقرأ البعض هذه المعطيات القديمة - الجديدة من زاوية الدور المستقبلي لسليمان فرنجية في المرحلة الراهنة بمواصفاته المارونية والسياسية، التي تتيح له أن يبقى أحد أهم المفاتيح للرئيس الأسد في لبنان، لذا اختار أن يستقر في منطقة الرابية (ليجاور عون) حاملا معه نائبين ومحمّلا بوديعة إضافية من حزب الله الذي أهداه نائب بعلبك - الهرمل، إميل رحمة ليستكمل كتلة «لبنان الواحد» لزوم الجلوس إلى طاولة الحوار. والأهم أنه نجح في الانتخابات النيابية الأخيرة بأصوات مؤيديه ليبرهن زعامته المارونية «المحدودة» لكن «القوية» بقوته الذاتية وليس بمجهود الحلفاء، كما أنه استبعد مرشح التيار العوني في منطقته بحزم ومن دون أن يفتح الباب للنقاش، في حين أن عون، وبحساب بسيط، لم يستطع الفوز انتخابيا من دون مساعدة كبيرة من حزب الله، والطاشناق وأصوات الحزب السوري القومي الاجتماعي وغيرهم من حلفاء سورية في لبنان. «استعراض العضلات» الودي هذا يتواصل ضمنا مع إنكار علني من الطرفين، وهو ضروري للزعيمين المارونيين، ويرجح أكثر من مصدر أن يستمر «الكباش» حتى الحصول على مفتاح الرضا السوري الكامل، وفي حين يستشرس عون ليمسك أكثر فأكثر بالمرجعية المسيحية سواء في الوزارات أو البلديات أو التعيينات، غير عابئ بالتضعضع التنظيمي لقواعد التيار الوطني الحر والفوضى المتفاقمة على مستوى الكوادر المناطقية، يعمل فرنجية بهدوء وحكمة للوصول إلى الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال سليمان، ويهتم بإطلالة سياسية جديدة من خلال توسيع قاعدة تيار المردة في الشمال وجبل لبنان، تستهدف رص الصفوف مجددا وتوسيع رقعة الانتشار وإبراز القدرات التنظيمية، ليظهر أن خطابه المرفوض سابقا، لم يعُد يختلف عن الخطاب الذي يطرحه حليفه اللدود و«السيادي السابق»، مع الحرص على قواعد اللعبة التي تفرضها التحالفات السورية الملزمة مع «التيار العوني» في مواجهة «القوات اللبنانية» ليؤكد «نواياه الصافية» فيقول: «نحن نريد توسيع المردة ولا نريد أن نرث أحدا».

أما على صعيد العلاقة التي ينسجها برؤية وحذر مع رئيس الحكومة سعد الحريري، فأولى علاماتها تبريد في الأسلوب «الحامي» الذي ميز فرنجية، ما حوّله من صقر المعارضة إلى أحد الحضر لأي دور إيجابي في سبيل المصلحة الوطنية، والاعتماد على الكيمياء لتوطيد العلاقة مع الحريري وإظهار المرونة إلى حد القول في عز أزمة تشكيل الحكومة: «لا نقبل أن ينكسر الشيخ سعد لأنه يريد تأليف حكومة لبنان»، ليستطرد فيؤكد أن «على الحريري ألا يقبل بأن يدخل فريقنا إلى الحكومة مكسورا».

وفق هذا الميزان يواصل فرنجية الالتزام بـ«الخط» ليشكل رقما ثابتا ويعزز نفوذه على «خطوط» التناقض المستعر تحت غلاف مرحلة التوافق، التي انبثقت عنها حكومة الوحدة الوطنية في انتظار التطورات الإقليمية، وما يمكن أن يرافقها من معادلات جديدة على الساحة اللبنانية.