«الصوت المسلم» الذي أزم علاقات تركيا - أميركا

الأتراك يتساءلون: طالما أن واشنطن تريد دعمنا في العراق وإيران وأفغانستان وسلام الشرق الأوسط.. فلماذا أوصت باعتماد كلمة «إبادة» الأرمن؟

المذابح ضد الأرمن ما زالت نقطة توتر في علاقات تركيا الخارجية (أ.ب)
TT

كانت حقا حفلة تعذيب على الهواء عبر النقل المباشر الذي قدمته أجهزة التلفزة التركية واستغرق ساعات طويلة تابع خلالها الأتراك عملية تصويت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي على اقتراح بإصدار قانون يوصي الرئيس الأميركي باعتماد كلمة «إبادة» خلال الحديث عن أحداث عام 1915 التي وقعت في شرق الإمبراطورية العثمانية ويدعوه لإعلان يوم 24 أبريل من كل عام «يوم تضامن مع مليون ونصف مليون أرمني سقطوا ضحايا المجازر المرتكبة» من قبل العثمانيين في تلك الحقبة.

ومع أن الجميع كان يعرف منذ البداية أن نتائج التصويت يتحكم فيها 4 أصوات أمام حالة التعادل السلبي بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس، إلا أن الأتراك ظلوا متفائلين حتى الدقائق الأخيرة بحسم المسألة لصالحهم بعدما كانت الأرقام التي تعكسها الشاشات الصغيرة تبرز تقدم الجهة الداعمة لموقفهم بفارق واضح. وكادت أن تكون المرة الأولى التي يسجل فيها الأتراك انتصارا كبيرا من هذا النوع في اختراق «قواعد اللوبي الأرمني» والمتعاطفين معه تحت سقف الكونغرس الأميركي، إلا أن مفاجأة آخر لحظة دفعت لجنة الشؤون الخارجية لقبول الاقتراح المقدم بفارق صوت واحد ليحقق للأرمن غايتهم مرة أخرى، وهى اعتراف دولة كبرى أن ما حدث للأرمن في ذلك العام كان «إبادة» جماعية، تماما كما حدث عندما قال البرلمان الفرنسي إن تلك المجازر «إبادة» لتستمر «المسألة الأرمنية» بمثابة «العقدة» في علاقات تركيا مع العالم. ومن المعروف أن أميركا ودول أخرى استخدمت حتى الآن مصطلح «الفاجعة الكبرى» في وصف أحداث 1915 مراعاة للحساسية التركية إزاء الموضوع.

«الصوت الواحد» هو مركز الثقل في غضب تركيا على القرار الذي ظهر في تصريحات المسؤولين الأتراك، وفي مقالات الصحف فكلها أجمعت على انتقاد الخطوة. لكن ما أغضب الأتراك واستفزهم أكثر من غيره هو ذلك الصوت الواحد لنائب أميركي عن ولاية مينسوتا من أصل مسلم وهو كيث أليسون الذي كان وعد قبل جلسة الكونغرس بساعات أن يدعم الأتراك «فنحن جميعنا مسلمون، ولا يمكن أن نخذل بعضنا البعض». بعد التصويت لصالح اعتبار المذابح «إبادة» غادر أليسون المكان على الفور، وعلى الفور أيضا بدأت الأزمة الدبلوماسية التركية - الأميركية، فسحبت أنقرة سفيرها في واشنطن نامق تان على الفور للتشاور.

لكن بتصويت لجنة الكونغرس لصالح قرار الإبادة، ماذا كانت رسالة واشنطن لأنقرة؟

أولا كانت هناك تطمينات أميركية متواصلة أن القضية ستتوقف عند هذا الحد كما حدث أكثر من مرة في السابق. فالعلاقات الأميركية - التركية، خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة، أهم بكثير من الدخول في أي أزمة ثنائية لا يحتاجها أحد. لكن أنقرة تعرف أن الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون تعهدا أمام قواعدهم الانتخابية بقبول «الإبادة» ضد الأرمن في حال الوصول إلى السلطة. وبالتالي لم يكن من الممكن للإدارة الأميركية الضغط حقيقة على لجنة الكونغرس لعدم الاعتراف بالإبادة. في ردة الفعل الأولى قال الرئيس التركي عبد الله غل إن قرار اللجنة هذا لا قيمة له بنظر الشعب التركي، أما رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان فردد أن تركيا «لن تردعها مثل هذه الكوميديا الأميركية». فيما تحدث وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو عن «قصر النظر الاستراتيجي الأميركي» في التعامل مع هذه المسألة، منتقدا وقوف إدارة أوباما على الحياد حتى الساعات الأخيرة على الرغم من اتصال غل بالرئيس الأميركي مباشرة، مطالبا بعدم تعريض العلاقات التركية الأميركية للخطر، قائلا: «إذا كنتم تقولون إن هناك نوابا وحرية رأي في البرلمان الأميركي، ففي أنقرة أيضا نواب وحرية رأي». وهو ربما أراد تذكير واشنطن بحرب العراق عام 2003 واعتراض مجلس النواب التركي على فتح الحدود أمام القوات الأميركية المتوجهة إلى ذلك البلد. بل إن غل بعث برسائل إلى إدارة البيت الأبيض يذكرها أن «الخدمات التي تنتظرها واشنطن من تركيا تفوق وبكثير جميع التوقعات»، غامزا من موقع ودور قاعدة «إنجرليك» العسكرية التركية القريبة من مدينة أضنة، فهذه القاعدة «شريان حياة الخطة الأميركية للانسحاب من العراق» و«مركز الثقل في تأمين الدعم اللوجيستي للقوات الأميركية العاملة في أفغانستان وباكستان». كما أن الأميركيين يريدون دعما من تركيا في ملفات لا تقل حساسية، منها الملف الإيراني وسلام الشرق الأوسط.

الأتراك غاضبون مما جرى، وهم يحملون إدارة البيت الأبيض المسؤولية الأكبر لأنها لم تتحرك سوى في الساعات الأخيرة على الرغم من أن الحكومة التركية جيشت الكثير من نوابها ورجال أعمالها وجماعات اللوبي المقربة إليها كما قال الإعلامي والكاتب كورشاد بومين.

مراد مرجان، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي، وصف ما جرى بأنه كان «مسرحية مضحكة» على طريقة «سيت - كوم» الأميركي. (بالإنجليزية: Situation Comedy‏)، أي «الكوميديا على الهواء وسط مشاهدين في الاستوديو»، وهي نوع من المسلسلات التلفزيونية الكوميدية بدأ في الولايات المتحدة بالمسلسل الشهير «أحب لوسي»، حيث يقوم الممثلون بأداء مشاهدهم أمام جمهور حي، وأحيانا يتم تسجيل ضحكات الجمهور لإذاعتها كما هي، وأحيانا أخرى يأتون بالجمهور بعد تسجيل الحلقات ليشاهدوا عرضها ويسجلوا ضحكهم الحي الطبيعي. والنموذج الأمثل لهذا النوع من الكوميديا هو مسلسل «الأصدقاء».

أما الكاتب الليبرالي سامي كوهين فيرى أن ما يجري سيضر مباشرة بسياسة الانفتاح التركي الأرمني التي بدأت العام المنصرم «خصوصا إذا ما كانت غاية البيت الأبيض هي الضغط على أنقرة للإسراع في قبول بروتوكولات المصالحة والانفتاح على أرمينيا».

أصوات مقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بدأت تذكر واشنطن منذ الآن بـ«عشرة مليارات» من الدولارات من المصالح الأميركية مع تركيا بينها 7 مليارات دولار مردود للصناعة العسكرية الأميركية. أصوات أخرى داخل تركيا تنتقد تقدم الخيار السياسي الأميركي على حساب مراجعة الوثائق التاريخية والمستندات الموثقة التي تناقش أحداث 1915. فالأتراك يقولون إن واشنطن التي تتحدث عن احترامها للقيم الإنسانية العالمية كان عليها قبل مراشقة الأتراك بالحجارة التنبه إلى بيتها الزجاجي وتاريخها الحافل بمجازر كثيرة في علاقاتها مع زنوجها وهنودها الحمر والسلاح التدميري الذي استخدمته في الحرب العالمية الثانية ضد اليابانيين العزل. الإعلامي قدري غورسال في جريدة «ميليت» التركية يرى أن قرار لجنة الكونغرس لا يفسر تحت شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، إنما السبب حقيقة هو التنافس بين رجال السياسة الأميركيين على «صوت الناخب الأرمني» والاستفادة من قواه وانتشاره في مراكز القوى والنفوذ الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة. لكن أحمد تاش غتيران، الكاتب الإسلامي المعروف، يحاول تذكير واشنطن أن «حشر أنقرة يعني اختناق أميركا في أكثر من مكان»، موضحا «أميركا ستدفع ثمن فعلتها هذه، ولعبتها لن تنطلي على أحد. ليتفضلوا ويمرروا هذا الاقتراح في مجلس النواب الأميركي لنعرف مصالح من التي ستتضرر؟».

رئيس لجنة الصداقة التركية - الأميركية سعاد قنق أوغلو يقول: قبل القدوم إلى واشنطن كنا نعرف أن مهمتنا في غاية الصعوبة، فهناك تجارب قديمة في الكونغرس. وهي المحاولة السادسة بين عامي 1975 و2010 لإصدار قرار حول «إبادة الأرمن». لكن هذه المرة كانت مختلفة عن المرات السابقة، خصوصا مع محاولة عام 2005 مثلا التي سجلت 7 أصوات تؤيد الموقف التركي مقابل 37 صوتا تدعم وجهة النظر الأرمنية.

وربما يخفف هذا غضبة الأتراك الذين أشاد بعضهم، مثل الدبلوماسي السابق والنائب المعارض في حزب الشعب الجمهوري شكري الكداغ، الذي قال: «النتيجة لم تكن في صالحنا، لكنها كانت ملفتة وإيجابية، كونها قلصت الفوارق في الأصوات والدعم المطلق للطروحات الأرمنية التي تتحدث عن أعمال قتل مفترضة دون أن تقدم أي وثائق وأدلة». لكن نقطة أخرى تحتل دورا كبيرا في النقاش الدائر لا يمكن الاستخفاف بها وهي «الدور الإسرائيلي في هذه الأزمة». فعلى الرغم من أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يصر على عدم وجود أي دور إسرائيلي في عملية التصويت الأخيرة، وأن النتائج التي ظهرت إلى العلن تؤكد ذلك، إلا أن كثيرا من المراقبين والمتابعين في تركيا بدأوا يبحثون عن دور إسرائيلي في هذه الضربة، مثل الكاتب المعارض أوكتاي أكشي.

فالكثير من الأتراك يصرون على أن «مواجهة دافوس» بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس العام قبل الماضي وما تلاها من مواجهات سياسية ودبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب كانت الحاضر الأكبر تحت سقف الكونغرس الأميركي، على الرغم من أن الإسرائيليين يقولون إنهم لم يدعموا «اللوبي التركي» في واشنطن هذه المرة كما حدث في المرات السابقة، ووقفوا على الحياد، وتركوا الأتراك يواجهون منفردين اللوبي الأرمني ومن يدعمه في المؤسسات الرسمية والخاصة الأميركية.

السؤال الآن: هل هذه أزمة مصغرة لما سيحدث إذا مرر مجلس النواب الأميركي في أبريل (نيسان) المقبل قرار الإبادة؟ الجواب قد يكون عند رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي هوارد بيرمان وتحركاته، وسلوكه المثير للانتباه خلال الجلسة. فرئيس اللجنة الذي أعلن أنه «يهودي قبل أن يكون ديمقراطيا» قاد علنا خلال جلسة التصويت حملة مكشوفة ضد أنقرة باسم الدفاع عن المصالح الإسرائيلية قبل الدفاع عن مطالب الدياسبورا الأرمنية وحقوقها. فهو عطل عملية التصويت أكثر من مرة، وغادر القاعة باحثا عن النواب الذين لم يحضروا، واتصل مباشرة بالمترددين لتشجيعهم على الحضور، وكان له ما أراد في النهاية، فهو الذي قلب المعادلة في اللحظة الأخيرة بعدما كانت تميل الكفة لصالح الأتراك الذين جهدوا على مدى أسابيع في المدن الأميركية وراء الكواليس. أنقرة تعرف تماما أن الاستمرار على هذا النحو، وتسجيل المزيد من النقاط لصالح الدياسبورا الأرمنية في العالم سيقود الأتراك إلى المواجهة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، الذي قد يترك الأتراك أمام خيارات لن يكون من السهل تجاوزها أو تجاهلها، من بينها استصدار قرار دولي يتحدث عن المجازر بصوت دولي، وقد يطلب من الأتراك أكثر من اعتذار، يتبعه التعويضات المادية والمعنوية وإعادة الممتلكات التي تطالب بها بعض المؤسسات الأرمنية العالمية في شرق تركيا التي تغيرت خارطتها، وانتقلت ملكيتها إلى أكثر من يد خلال عشرات السنين.

«صوت واحد» إذا عقد المسألة ودفع الأتراك للانتظار مرة أخرى ومعرفة كيف ستتصرف إدارة البيت الأبيض، وهل ستسحب طلب لجنة الكونغرس الأميركي كما حدث أكثر من مرة في السابق لحماية علاقاتها الاستراتيجية مع أنقرة، أم أن واشنطن ستجد نفسها ملزمة هذه المرة بقبول توصية لجنة الشؤون الخارجية الداعي لتبني «الإبادة» الأرمنية، فاتحة الأبواب أمام الكثير من الدول والعواصم التي ستجد «الضوء الأخضر» الأميركي هذا كافيا لإطلاق مواقفها التي ظلت تؤجلها مرة بعد الأخرى.