وليد جنبلاط.. يغلق الجرح مع سورية

تيمور جنبلاط يضع وردة على قبر جده بدلا من والده.. وتدخل نصر الله شخصيا سهل التواصل

TT

زيارة وليد جنبلاط المتوقعة لسورية، تغلق باب «مرحلة عاصفة» من تاريخ لبنان كان له فيها دور محوري، وتنهي قطيعة بينه وبين النظام السوري عمرها ست سنوات. «وليد بيك» زعيم طائفة درزية صغيرة لا يزيد عددها على 200 ألف نسمة، ومع ذلك استطاع أن يكون لولب «ثورة الأرز» ومحركها، وخطيبها الأشرس، وحين قرر أن يتخلى عن فريق 14 آذار أصاب التحالف كله بطعنة سامة في القلب، وقد تكون قاتلة.

كان وليد جنبلاط قد سبق رفيق الحريري إلى إعلان تململه من الوجود السوري في لبنان. والحقيقة أن علاقته بالرئيس بشار الأسد منذ خلف هذا الأخير والده عام 2000 لم تكن ودية بالقدر الكافي، ومع ذلك لم يتخل عن خطابه العروبي والتضامني مع الجارة سورية. آخر زياراته إلى دمشق كانت في 11 فبراير (شباط) 2004 حيث قابل الرئيس بشار الأسد وعبر له عن تشاؤمه من سوء الإدارة السورية للبنان. وكان يفترض أن يعود جنبلاط في أغسطس (آب) 2005 يوم استدعي إلى دمشق مع الرئيسين رفيق الحريري ونبيه بري، للموافقة على التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود، لكنه رفض التمديد، وذهب الرئيس رفيق الحريري منفردا إلى ذاك اللقاء الشهير الذي قيل إن الرئيس بشار الأسد هدده خلاله قائلا له بأن التمديد للحود سيتم أو أني «سأكسر لبنان على رأسك ورأس جنبلاط». بحسب شهادة النائب مروان حمادة للمحكمة الدولية.

بعد التمديد للحود أطلق جنبلاط مجموعة مواقف معادية لسورية، أصبحت بعد ذلك جزءا من مطالب حركة المعارضة في «البريستول»، أهمها مطالبته بإغلاق مراكز المخابرات السورية في لبنان، وفصل المسارين وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وفتح الحدود العربية أمام المقاومة وإلا عودة لبنان إلى اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، كما طالب بنزع السلاح الفلسطيني مقابل إعطاء الفلسطينيين حقوقا مدنية. انضم رفيق الحريري بعد ذلك إلى لقاءات المعارضة في «البريستول». وفي 14 فبراير (شباط) 2005 وقع الانفجار المشؤوم الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري وفتح أبواب لبنان على نيران جهنم. وفي حفل التشييع المهيب قال جنبلاط لدمشق: «لماذا جعلتم الشعب اللبناني يكره سورية».

وفي 20 فبراير (شباط) 2005 كان لوليد جنبلاط الدور الأبرز في إطلاق وقيادة «انتفاضة الاستقلال»، والعمل على إسقاط إميل لحود وأركان نظامه والانسحاب السوري الكامل من لبنان. ورغم أن جنبلاط لم يكن يدعو حينها إلى إسقاط النظام السوري فإنه في 20 مارس (آذار) 2006 قال صراحة: «لن يرتاح بلد ديمقراطي مثل لبنان يجاوره نظام ديكتاتوري وحفنة من العائلية السياسة تقبض على سورية ومصيرها».

وبعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان التي شنتها في يوليو (تموز) عام 2006 كان لوليد جنبلاط مواقف صارمة من سلاح حزب الله والنظام السوري. أما الخطاب الذي قصم ظهر البعير، وقطع الشعرة الأخيرة التي كان يمكن لها أن تربط جنبلاط بسورية، فهو ذاك الذي ألقاه يوم 14 فبراير 2007 في الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث قال أمام مئات المناصرين من 14 آذار الذين صفقوا له بحرارة في ساحة الشهداء: «جئنا إلى ساحة الحرية، لنقول لك يا طاغية دمشق، يا قردا لم تعرفه الطبيعة، يا أفعى هربت منها الأفاعي، يا حوتا لفظته البحار، يا وحشا من وحوش البراري، يا مخلوقا من أنصاف الرجال، يا منتجا إسرائيليا على أشلاء الجنوب وأهل الجنوب، يا كذّابا وحجّاجا في العراق، ومجرما وسفّاحا في سورية ولبنان. جئنا لنقول إنه صحّ فيك قول الشاعر نزار قباني «في كل عشرين سنة يأتي رجل مسلح ليذبح الوحدة في سريرها ويجهض الأحلام». (...) في كل عشرين سنة يأتي إلينا رجل معقّد يحمل في جيوبه أصابع الألغام. لكن في هذه السنة، والقول لنا لـ14 آذار وكل اللبنانيين، في هذه السنة ستأتي المحكمة ومعها القصاص والعدل وحكم الإعدام».

هذا الخطاب هو الذي سيجعل سورية فيما بعد تشترط على وليد جنبلاط الاعتذار علنا قبل قبول الرئيس السوري استقباله في دمشق، رغم كل التنازلات التي قدمها، والتي اعتبرها جمهوره مهينة له وللطائفة جمعاء. علما بأن الغضب الجنبلاطي لم يقف حينها عند هذا الحد بل بقي مشتعلا وفي (مايو) أيار 2008، كان جنبلاط وراء القرارين الوزاريين اللذين اتخذتهما الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة اللذين استهدفا حزب الله وأشعلا مواجهات بين المعارضة اللبنانية حينها وفريق 14 آذار كادت تذهب بلبنان إلى حرب أهلية. لكن ما إن شعر جنبلاط أن مسلحي حزب الله وصلوا إلى الجبل حتى استنجد بالزعيم الدرزي المناوئ له طلال أرسلان، طالبا منه المساعدة والعمل على وحدة الجبل في مواجهة أي تهديد.

أحداث 7 أيار 2008 هذه التي هاجم خلالها قوات حركة أمل وحزب الله أحياء بيروت ومناطق الجبل الدرزي، كانت اللحظة المفصلية التي قرر بعدها وليد جنبلاط الابتعاد عن 14 آذار. شعر الزعيم الدرزي أن حلفاءه أضعف من أن يستطيعوا مساعدته مع طائفته، فيما الرئيس الأميركي جورج بوش أدار ظهره لما يحدث في لبنان، يومها، وكأنما الأمر لم يعد يعني أميركا. وكان الزعيم الدرزي قد أسر أثناء اجتماعات الدوحة التي عقدت إثر هذه الأحداث وجمعت الزعماء اللبنانيين، أنه لا يستطيع أن يقاتل حتى آخر درزي، وأن مصلحة طائفته الصغيرة لا تسمح له بالبقاء في هذا الموقع السياسي.

من حينها ووليد جنبلاط يعيد تموضعه، بدءا من توثيق العلاقة بالزعيم الدرزي الثاني طلال أرسلان الحليف لسورية، مرورا بنبيه بري وصولا إلى إعادة الحوار مع حزب الله الذي كان قد وصل في عدائه معه، إلى حد اتهامه بالمسؤولية عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

كانت ثمة أشياء تحدث بعيدا عن الإعلام هذه المرة، ويقول مصدر مقرب من جنبلاط لـ«الشرق الأوسط»: «إن التحولات كان قد نقلها جنبلاط إلى حلفائه قبل أن يعلنها، لذلك لم يفاجئ بانقلابه حلفاؤه بعد الانتخابات النيابية في يونيو (حزيران) 2009».

وكان جنبلاط أيضا قد عمد إلى أكثر من تسريب صحافي، عبر من خلاله عن مواقفه دون إعلان مباشر يصدم الرأي العام.

ومع ذلك وفي 14 فبراير 2009، وفي الذكرى الرابعة لاغتيال الحريري، عاد جنبلاط وهاجم سورية بشراسة، بينما خاطب أفرقاء 8 آذار في لبنان بليونة ولغة هادئة متفهمة. وقال عن سورية: «غيرنا يحارب عبرنا وعبر غزة وأرضه محتلة ويباهي بالتحرير ويفاوض إسرائيل وكأن أهل لبنان وغزة يباعون ويشترون على طاولة المفاوضات». وقال جنبلاط مخاطبا عشرات الآلاف الذين احتشدوا لإحياء المناسبة في إشارة إلى النظام السوري «أخرجتم نظام الوصاية، نظام القهر والحقد والدم». فيما قال لخصومه اللبنانيين: «لا عدو لنا في الداخل على الإطلاق والحوار فوق كل اعتبار، نحترم شهداءهم ونتمنى أن يحترموا شهداءنا».

وبعد أقل من شهرين وقبيل الانتخابات النيابية قال جنبلاط في حديث لـ«بي بي سي» العربية: «إن حالة العداء مع سورية لا يمكن أن تستمر»، وقال إنه سبق أن ساق الاتهامات بحق دمشق «في فترة كانت من أصعب الفترات في تاريخ لبنان، خاصة عندما كانت تتلاحق الاغتيالات».

وانتظر جنبلاط انتهاء الانتخابات النيابية اللبنانية ليشهر أمام جمهوره بشكل واضح وصريح وخلال مؤتمر حزبي في 2 أغسطس (آب) 2009 أن تحالفه مع قوى 14 آذار ذات الغالبية النيابية «كان بحكم الضرورة ويجب ألا يستمر»، داعيا إلى «وجوب إعادة التفكير بتشكيلة جديدة» على الساحة السياسية اللبنانية، وإقامة علاقات «مميزة» مع سورية التي كان من أشد مناهضيها.

11 أكتوبر (تشرين الأول) 2009 عقد وليد جنبلاط لقاءه الثاني مع السيد حسن نصر الله وكتبت إحدى الصحف معلقة: «يمكن الاستنتاج بناء على المعطيات التي توافرت أن مغادرة جنبلاط لفريق 14 آذار وخياراته قد اكتملت، وتظهير هذه الحقيقة بمختلف أبعادها ينتظر أمرين: الأول تشكيل الحكومة، والثاني زيارة سعد الحريري إلى دمشق، حيث من المتوقع بعدها أن يصبح جنبلاط طليق اليدين واللسان في التعبير عن قناعاته». لكن ربما أن أبرز ما في هذه الزيارة للأمين العام لحزب الله أنها تمت برفقة ولده الأكبر تيمور مواليد 1982 والذي يسعى جاهدا لتسليمه الزعامة متخففة من أعباء العداء مع سورية. وقال جنبلاط يومها: «أريد أن يسير تيمور على طريق المختارة، كما رسمها كمال جنبلاط، عندما أخرج المختارة من الأفق اللبناني الضيق إلى الأفق العربي الواسع الذي تشكل فلسطين نقطة الارتكاز فيه».

وهكذا وبعد مصالحات زار خلالها جنبلاط خصوم الأمس وأصدقاء سورية، وإتمام زيارة الحريري التاريخية إلى دمشق جاء دور زيارة جنبلاط، التي يبدو أن التحضير لها مر بمراحل عسيرة، واستدعت جهدا استثنائيا من الأمين العالم لحزب الله حسن نصر الله شخصيا، وأخرتها شروط سورية عديدة، كان أصعبها وأشقها على نفس جنبلاط ومحازبيه، طلب الاعتذار العلني الذي أخرجه جنبلاط بطريقة تلفزيونية أشرك فيها قناتين تلفزيونيتين بدل واحدة.

يقول المصدر المقرب من وليد جنبلاط تعليقا على الاهتمام الإعلامي البالغ بالزعيم اللبناني وليد جنبلاط لا سيما بعد مقابلته التلفزيونية التي قدم خلالها اعتذارا للرئيس السوري بشار الأسد: «وليد جنبلاط يهتم بالإعلام كثيرا، لكن حركة وليد جنبلاط تهم الإعلاميين أيضا، لأنهم يعرفون أهمية الرجل على الصعيد الداخلي والخارجي، وأنه مؤثر بالفعل». وقال المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط»: إن وليد جنبلاط يختار الوسيلة الإعلامية، تبعا لطبيعة الكلام الذي يريد أن يقوله، والجهة التي يريد أن يتوجه إليها سواء كانت هذه الجهة شخصية سياسية أو رأيا عاما» مؤكدا أن لجنبلاط «اهتماما كبيرا بالتوجه إلى الناس، في هذا العالم العربي الذي لا يعنى كثيرا بالرأي العام». ويصف المصدر الرسائل الإعلامية التي وجهها جنبلاط، طوال الفترة السابقة، بـ«الناجحة»، بدليل أنها لم تمر بدون ضجيج ونقاش، وإن كان جنبلاط نفسه يعترف أنه حين يوجه رسالة ما في الإعلام فإنه يبقى «منتظرا لردود الفعل لأنه لا يستطيع أن يتكهن بها سلفا».

وشكل الجانب الإعلامي من العلاقة السورية مع جنبلاط ظاهرة قد تكون فريدة، كون سورية طلبت كلاما محددا من جنبلاط في الإعلام، مما جعل تبادل الرسائل بين الطرفين علنيا ومكملا للحوار السياسي الذي تم حاليا بوساطة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بين الزعيم الدرزي وسورية.

وكان تلفزيون «نيو تي في» قد سجل حوارا مع الزعيم الدرزي بث تحت عنوان «في كواليس وليد جنبلاط» تم إجراؤه قبل وبعد مقابلته الاعتذارية الشهيرة التي قال فيها إنه «يطوي صفحة الماضي، ويفتح صفحة جديدة» واعتبر خلالها أنه في الماضي: غفر اغتيال والده ولم ينس، أما اليوم فهو يغفر وينسى. وخلال حوار «نيو.تي. في» الكواليسي الذي أجري بطلب من جنبلاط. سأل مقدم البرنامج جنبلاط: إن كان سينام في سورية لليلة حين يزورها، وإن كان سيقضي هذه الليلة في بيته الذي صودر أم في مكان آخر. فأجاب جنبلاط: «كله مرتبط بالمقابلة. لا أعرف إن دعوني سيكون هناك مبيت في سورية أم لا. لست أنا من يبرمج الزيارة».

وكان جنبلاط قد قدم نفسه منذ البداية على اعتباره الصوت الأعلى في فريق 14 آذار بعد اغتيال الرئيس الحريري، وعرف أيضا بأنه قدم الخطاب الأكثر استفزازا لسورية ورئيسها. وكان جمهور جنبلاط قد شعر بسعادة بالغة لتبوؤ زعيمه هذه المكانة الخطابية المؤثرة. لكن الوضع تغير اليوم وباتت وظيفة وسائل الإعلام مختلفة بالنسبة لجنبلاط، فعبرها حارب سورية ذات يوم، وعبرها يعود إلى دمشق «مشتاقا» كما قال، وعنده «الكثير مما يقوله للرئيس السوري».

وتأكيدا على طي الصفحة ونسيان الماضي وليس غفرانه فقط، وكرسالة إضافية من هذا الزعيم الذي يعشق الرسائل، استغل وليد جنبلاط تاريخ السادس عشر من مارس 2010، ولم يذهب لزيارة قبر والده كما جرت العادة في ذكرى اغتياله. هذه المرة وبمناسبة مرور 33 سنة على اغتيال كمال جنبلاط ذهب تيمور وليد جنبلاط، الخليفة المنتظر على الزعامة الدرزية إلى قبر جده برفقه أمين السر العام في الحزب التقدمي الاشتراكي شريف فياض، «ووضع وردة على قبر جده وأغلق الجرح المفتوح مع سورية». هكذا وصف وليد جنبلاط رمزية زيارة الحفيد لقبر الجد، في يوم لذكرى لا تشبه غيرها، ضاربا عصفورين بحجر واحد: إغلاق باب الماضي الأليم مع سورية، وفتح صفحة جديدة يدخل منها تيمور جنبلاط إلى خلافته آمنا برعاية سورية.