صعوبة جمع الزكاة

رغم زيادة الرقابة من الدول الغربية والشفافية التي تظهرها الجمعيات الإسلامية في جمع الزكاة وطرق إنفاقها.. فإن هناك طريقا طويلا قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها

TT

الزكاة كما نعلم هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ويقول تعالى: «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون». وقد قرن الله سبحانه وتعالى بين الصلاة والزكاة في أكثر من ثمانين موضعا في القرآن الكريم. والإنسان جبل على حب المال وادخاره: «وتحبون المال حبا جما»، لذا أوجب الله تعالى هذه الفريضة ليتخلص الإنسان عن طريقها من مشاعر الأنانية وحب الذات ويتعلم كيف يؤثر على نفسه ويطهرها من داء الشح والبخل اللذين يقترنان بجمع المال وادخاره. ويقول تعالي: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها». والزكاة لا يمكن أن تغيب عن واقع المسلمين أينما كانوا. وهذه حقيقة بديهية لا بد من تثبيتها ابتداء. والزكاة في الإسلام هي أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع؛ حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة. ولا شك في أن العدالة الإلهية واضحة هنا تمام الوضوح، فالشخص الذي يكسب قوته يوما بيوم لا تجب عليه الزكاة، والشخص الذي يمتلك مالا وفيرا، ولكنه مستمر في إنفاقه بحيث لا يبقى منه شيء قبل فوات عام لا تجب عليه الزكاة. وهناك نصاب محدد للزكاة. وتؤدي الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشكلات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أحسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها.

وتعرف الزكاة بأنها الجزء المخصص للفقير والمحتاج من أموال الغنى. وتحسب الزكاة بنسبة 2.5% من المدخرات السنوية وإذا تعدت قيمة معينة تعرف بالنصاب.

والمسلم الغني يعلم جيدا أن الزكاة المفروضة عليه لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من دخله العام ومن مدخراته وتجارته وزراعته، ولذلك فهو مدعو دائما إلى «التبرع» في وجوه الخير، والإصلاح الاجتماعي. ومن هنا، رأينا كثيرا من المسلمين يبنون بأموالهم الخاصة المساجد، وينشئون المدارس والمستشفيات المجانية للمحتاجين، ويوصون بوقف بعض ممتلكاتهم بعد موتهم ليصرف عائدها على الفقراء والمساكين. ثم لا يمكننا أن نستعرض دور الزكاة بالنسبة للوجود الإسلامي الحديث في أوروبا من دون أن نعيد التذكير بالسياق العام لهذا الوجود ولطبيعة الظروف التي تبلور من خلالها. فالمسلمون في أوروبا أقليات، ينحدرون في معظمهم من أصول مهاجرة، خاصة في أوروبا الغربية. وقد كانت الهجرة الاقتصادية هي العامل الأول المشكل للوجود الإسلامي في الدول الخمس عشرة المشكلة للاتحاد الأوروبي حتى عام 2004. فالأيدي العاملة المسلمة التي كانت تحسب في البدء أنها على موعد مع رحلة عمل لا مشروع استقرار سيفضي إلى المواطنة؛ ارتبط نشاطها الاقتصادي في مراحله الأولى بتحويل المدخرات إلى الأوطان الأصلية، كما اعتادت أن تفعل الشيء ذاته بالنسبة للزكاة والصدقة. لكن في الأعوام الأخيرة وبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 باتت الجمعيات الإسلامية في أوروبا تواجه صعوبات في ما يتعلق بالزكاة وتضييقات نابعة من الخوف من أن تكون تلك الأموال ستستغل في أنشطة راديكالية أو دعما لمنظمات مسلحة أو حركات متطرفة، وفي هذا السياق باتت هناك مراقبة لصيقة لكثير من المنظمات والجمعيات الإسلامية التي تتعامل مع أموال الزكاة. لكن وبينما تواجه الجمعيات الإسلامية في أوروبا إجراءات جديدة في ما يتعلق بطرق استخدام أموال الزكاة وذلك للتأكد من الشفافية ومراقبة الجهات المستفيدة، فإن إخراج الزكاة من قبل مسلمي أوروبا ما زال يتم من دون تغيير. يقول الدكتور أحمد الدبيان مدير المركز الثقافي الإسلامي في «ريجينت بارك» بوسط لندن لـ«الشرق الأوسط»: «هناك صناديق مخصصة لجمع الزكاة متناثرة داخل أرجاء المركز الإسلامي لا تخطئها العين. وهناك صناديق للزكاة وأخرى لجمع التبرعات أو أخرى للإغاثة كما حدث من جمع أموال لإغاثة منكوبي زلازل باكستان. والصناديق مكتوب عليها بالعربية والإنجليزية لتيسير مهمة جمع الأموال لمساعدة أبناء الجالية المسلمة». ويضيف الدبيان: «يزيد عدد صناديق الزكاة في شهر رمضان. وهناك لجان مخصصة تفتح هذه الصناديق، مكونة من موظفي المركز، بالإضافة إلى شخصين عاديين من المصلين. ومهمة هذه اللجان فصل وإحصاء أموال الزكاة والتبرعات وتسجيلها في دفاتر قبل إيداعها في الحسابات البنكية الخاصة». وتطرق الدبيان إلى لجان أخرى لصرف الزكاة مكونة من مستشارين متطوعين ومن مسلمين عاديين غير موظفين في المركز الإسلامي، وتجتمع هذه اللجنة مرة أسبوعيا للنظر في الطلبات المقدمة من عموم أبناء الجالية المسلمة في بريطانيا، مثل طلبة ابتعاث خارجي تقطعت بهم السبل ولا يستطيعون إكمال دراساتهم بسبب الحاجة المالية، أو مسلمين فقدوا وظائفهم، أو عابر سبيل سرقت حاجياته ولا يستطيع الحصول على تذاكر سفر والنوع الأخير من هؤلاء يكثر في أشهر الصيف، أو مرضى جاءوا للعلاج ولا يستطيعون إكمال مسيرة التداوي بسبب قلة الأموال.

ويؤكد الدبيان أن صرف جزء من أموال الزكاة لهؤلاء لا يتم إلا بعد التحقق من جدية تلك الطلبات سواء بالاتصال بالطبيب المعالج أو الكلية الجامعية أو صاحب العقار للتأكد من أن الشخص السائل متأخر في دفع الإيجار. ويقول: «بقدر الإمكان نسعى إلى تحقيق الشفافية والتأكد من جدية هؤلاء، وهناك طلب خاص مكون من صفحتين يتطلب من صاحب الحالة أن يستوفيه حتى يتسنى للجنة المذكورة النظر في الطلب المقدم». وبواقع الأرقام، فإن هناك عملا ضخما تقوم به لجان المركز الإسلامي بوسط لندن في عمليتي جمع وتصريف أموال الزكاة إلى مستحقيها الشرعيين. وتقدر تلك الأموال بنحو 50 ألف جنيه إسترليني سنويا. لكن هناك أيضا شركة حسابات خارجية ليس لها علاقة بالمركز الإسلامي تدقق في الأرقام الحسابية للزكاة وتقدم تقريرها السنوي لمجلس الأمناء بمنتهى الشفافية والوضوح. ويقول الدكتور كمال الهلباوي المتحدث السابق باسم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في الغرب، والرئيس المؤسس للرابطة الإسلامية في بريطانيا لـ«الشرق الأوسط»، إن هناك قيودا متزايدة ومراقبة مستمرة على عمليات جمع الأموال منذ هجمات سبتمبر، بل إن هذه القيود تزداد يوما بعد يوم في رصد جمع أموال الزكاة، موضحا أن بريطانيا من أكثر الدول التي ترصد ما يحدث في المؤسسات الإسلامية.

وأضاف الهلباوي أن «الزكاة تدفع للمساجد، وهناك صناديق يتعرف عليها المسلمون، وهناك من يتبرع للمؤسسات الإسلامية أو جمعيات الإغاثة الخيرية الإسلامية». وأشار إلى أن «معظم أموال الزكاة التي تجمع من أوروبا توجه إلى بلدان تحتاج إلى هذه الأموال مثل فلسطين والعراق وأفغانستان عبر مؤسسات رسمية قانونية لا غبار عليها». وتطرق الهلباوي إلى «وجود مؤسسات إسلامية قطعت شوطا كبيرا في جمع الأموال ومسك الدفاتر بشفافية ووقفت أمام الاتهامات الظالمة التي وجهت إليها بكل قوة وشفافية ولم يثبت عليها أي أخطاء في تصريف تلك الأموال، ومنها مؤسسات مثل (إنتربال) ومؤسسة الإغاثة الإسلامية، وهناك عدد كبير من المسلمين يجد سعادة وعبادة في التبرع ودفع الزكاة إلى المستحقين في الداخل والخارج». لكن مع ذلك، وعلى الرغم من زيادة الرقابة من جهة الدول الغربية والشفافية التي لا بد من أن تظهرها الجمعيات الإسلامية في أوروبا في ما يتعلق بجمع الزكاة وطرق إنفاقها، فإن هناك طريقا طويلا قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها. ويقول ياسر السري مؤسس «المرصد الإسلامي»، وهو هيئة حقوقية تهتم بأخبار الإسلاميين حول العالم، لـ«الشرق الأوسط» إن الولايات المتحدة قامت بعد أحداث سبتمبر بإغلاق كثير من المؤسسات والهيئات الإغاثية المسلمة، وقامت بتجميد أرصدة جمعيات خيرية ورجال أعمال مسلمين، كما قامت بالضغط على الدول والبنوك الإسلامية وتم وضع القيود على الجمعيات الخيرية الإسلامية، وضغطت على بعض الدول لوضع قيود على العمل الخيري، وبدا ذلك جليا عندما شددت بعض الدول الإسلامية من قبضتها على عمل الجمعيات التي كانت تمارس نشاطاتها الخيرية من تلقي التبرعات وجمع الزكاة، وكل ذلك أثر على حجم الأموال التي تخرج للزكاة الآن مقارنة بأعوام قليلة مضت. وتابع: «أحدث القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في ديسمبر (كانون الأول) 2001 بتجميد أرصدة كبرى المؤسسات الأميركية الإسلامية التي تعمل في الحقل الإنساني والتنموي، استياء واسعا في صفوف المسلمين. فقد قررت الإدارة الأميركية تجميد أرصدة (مؤسسة الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية) بالإضافة إلى مصرفين تجاريين يعملان في الولايات المتحدة هما بنك (الأقصى) و(بيت المال)، وذلك بعد أن اتهمت المؤسسات الثلاث بدعم حركة حماس الفلسطينية». واتهم بوش «مؤسسة الأرض المقدسة» بجمع الأموال لإقامة المدارس وتعليم الأطفال الفلسطينيين كي يصبحوا انتحاريين على حد زعمه. وقال السري في هذا الصدد لـ«الشرق الأوسط»: «كانت الجمعيات الخيرية الإسلامية الموجودة في أميركا تقوم على جمع التبرعات والزكاة خلال شهر رمضان المبارك وتوزيعها على فقراء المسلمين واللاجئين في المخيمات في أنحاء العالم كافة، غير أن هجمات سبتمبر ومضايقات السلطات الفيدرالية التي تلتها بدعوى التحقيق الذي يتم بالشبهة في غالب الأحيان بشأن ارتباط الجمعيات الخيرية بالإرهاب واتهامها بتمويل تنظيم القاعدة ومنظمات فلسطينية مسلحة أو حتى عائلات الضحايا في فلسطين وكشمير، كل ذلك ساهم في تقلص الموارد المالية، في وقت أصبح بعضها مضطرا لجمع التبرعات من أجل تغطية نفقات المحامين الباهظة لمواجهة التهم أمام القضاء الأميركي». وتساءل السري: «المشكلة أن الإدارة الأميركية تفتقر لفهم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام وفرض على كل مسلم، ولا يتفهمون ذلك، مما جعلهم يلاحقون كل من يقوم بهذه الفريضة في الغرب». وأشار إلى أنه بعد أحداث سبتمبر حدثت تغيرات كبيرة أثرت على العمل الخيري، ومنها جمع وتوزيع الزكاة والصدقات، وبالفعل بدأت دول في سن قوانين ونظم لتوحيد جهة جمع الزكاة والسيطرة على المال والهدف منها إحكام السيطرة على أموال الزكاة، وضمان منع منحها لأنشطة قد تعد معادية للغرب أو لأميركا. لكن هذه الإجراءات بحسب السري تواجهها عقبات، حيث توجد فتاوى شرعية صدرت وتصدر عن مرجعيات إسلامية ذات ثقل وتحظى بقبول واسع لدى المسلمين تؤكد على «شرعية دفع الزكاة للشعوب المسلمة التي تقاوم المحتل وتسعى للاستقلال ووجوب إخراجها في مجال الإغاثة والعون للشعوب المنكوبة وذلك من سهم (سبيل الله) باعتبار أن موطن إنفاقه هو (الجهاد) وهو قول جمهور أهل العلم».

ويقول الشيخ أنور ماضي مدير المركز الإسلامي في بلفاست لـ«الشرق الأوسط»: «لقد شدد العلماء على حرمة منع الزكاة، حتى إن بعضهم جعل مانع الزكاة خارجا عن ملة الإسلام واستدلوا بقوله تعالي (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون). قال العلماء تعليقا على هذه الآية إن الله جعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرطا لدخول الإنسان في الأخوة الإسلامية. وعليه، فمن يترك الصلاة ويمنع الزكاة فليس أخا في الدين، أي إنه ليس بمسلم. ولكن الراجح أن ترك الزكاة من دون إنكار وجوبها إثم عظيم وذنب كبير لا بد لصاحبه من التوبة والعودة إلى الله سبحانه والالتزام بمنهج الإسلام في دفع الزكاة وإعطاء كل ذي حق حقه». ويوضح الشيخ أنور ماضي أن هناك مشكلة في موضوع الزكاة في أوروبا، مضيفا: «هناك عدم اهتمام من المؤسسات الإسلامية في الغرب بإنشاء لجان متخصصة في جمع وتوزيع الزكاة. وأرى أن هذه اللجان ضرورية ولا بد من أن تضم كثيرا من الشخصيات من مختلف الثقافات مع وجود عالم متخصص في أمور الدين. وتبدأ مهمة هذه اللجنة بتوعية الناس بهذه الفريضة وطبع المنشورات الدالة على ذلك، ثم بحث الحالة الاجتماعية للمستحقين وتحديد المبالغ المدفوعة على حسب حالة المستحق. وأيضا تحديد أولويات المجتمع لتوجيه سبل الإنفاق. والتنسيق بين لجان الزكاة المختلفة في المكان الواحد». وأشار الشيخ ماضي إلى أن كثيرا من أبناء الجالية الإسلامية في أوروبا «يفضلون دفع أموال زكاتهم خارج أوروبا أي في البلاد التي نشأوا فيها وقد يكون هذا الأمر سليما في حالة عدم وجود من يستحق في المكان الذي نعيش فيه، ولكن الحقيقة أن ما تحتاجه الجالية المسلمة في الغرب كثير جدا». وتابع: «في إحدى المرات قابلت أحد الساسة المرشحين لدخول البرلمان في أيرلندا الشمالية وشرحت له ما تعانيه الجالية المسلمة هنا من عدم القدرة على توفير أماكن اجتماعية وتربوية لأبناء الجالية مما قد يعرضهم للضياع أو لفقدان الهوية التي نحرص عليها جميعا، فما كان منه إلا أن قال لي ببساطة: إن هذا الأمر هو مسؤولية أبناء الجالية أنفسهم وهم الذين يجب عليهم أن يبحثوا في سبل توفير المصادر لذلك كما تبحث الكنيسة من دون دعم من أجهزة الدولة. وغضبت لفترة من هذا الرد الجاف ولكن بعد طول تفكير وجدته كلاما سليما من الناحية النظرية والعملية». أما بالنسبة لتقويض مصادر جمع الزكاة بعد أحداث سبتمبر، فقال ماضي لـ«الشرق الأوسط»: «هذا واقع نعاني منه جميعا، وأرى أن تجفيف هذه المصادر بحجة تجفيف منابع الإرهاب أصبح وسيلة تخويف للمتبرعين من العالمين العربي والإسلامي لرعاية مشروعات كبري تنموية للجاليات المسلمة في الغرب. كلنا نعلم أن الجالية المسلمة في الغرب تعاني كثيرا من المشكلات وأغلبها من وجهة نظري مشكلات اجتماعية؛ إذا لا يجد الفرد المسلم مكانا صالحا للتعليم والثقافة الدينية، كما لا تجد الأسرة مكانا آمنا تجد فيه المتنفس والترفيه داخل إطار إسلامي. ولا يكون ذلك إلا عن طريق رعاية مشروعات إنشاء مراكز إسلامية تكون منارات اجتماعية وثقافية. ولكن كيف يتسنى لنا هذا الأمر في ظل عدم وجود دعم خارجي من أبنائنا في الدول العربية والإسلامية. أرى أن أمر محاربة ما يسمى بالإرهاب تحول إلى سيف مسلط على المسلمين عامة كأفراد ومؤسسات، مما ينذر بعواقب سلبية في ما يتعلق بالاندماج الاجتماعي من ناحية، والحفاظ على الهوية الإسلامية من ناحية أخرى».