الرجل الذي يريد زرع مليون يهودي

نفتالي بانيت خدم في وحدة رئاسة الأركان الإسرائيلية التي عرفت بعمليات اغتيال شرسة منها اغتيال أبو جهاد وشارك في حرب لبنان والآن يرأس مجلس المستوطنات

TT

لأن كل شيء جائز في السياسة الإسرائيلية، فإن اختيار نفتالي بانيت مديرا عاما لمجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، يطرح عدة تساؤلات عن وجهة هذا المجلس ووجهة هذه الحكومة، التي يقودها بنيامين نتنياهو، وعن السبيل التي يأخذون المنطقة عبرها ولأي هدف. فنفتالي بانيت كان فقط قبل سنتين رئيسا لطاقم نتنياهو، عندما كان رئيس الوزراء الحالي رئيسا للمعارضة الإسرائيلية. والمفترض أن مجلس المستوطنات، هو رأس الحربة في الدفاع عن المستوطنات اليهودية الذي يحارب ضد أي انسحاب من الضفة الغربية وضد إخلاء أي مستعمرة. فإذا كان نتنياهو جادا فعلا في التوجه إلى مفاوضات مع الفلسطينيين للتوصل إلى تسوية دائمة، فإن نفتالي بانيت سيكون في خط المواجهة الأول ضد الحكومة. فهل يعقل؟ أم أن المسألة تنطوي على توليفة سياسية من نوع جديد، تحوي بداخلها توزيع أدوار؟

هنالك تناقض واضح بين الموقعين اللذين يحتلهما الرجلان، ومن يراقب تطورات الأزمة الإسرائيلية - الأميركية على خلفية توسع الاستيطان، يدرك أن التناقض سيتحول إلى صدام، مع أول خطوة تقدم عليها الحكومة في المفاوضات. ولا نتحدث بعد عن إخلاء مستعمرات، فمثل هذا التطور بعيد جدا عن مفاهيم نتنياهو وحكومته في الوقت الحاضر، ولكن يكفي أن تقرر هذه الحكومة تحت الضغوط الأميركية والعالمية الانسحاب من منطقة فلسطينية ما أو أن تقرر تمديد التجميد الجزئي الحالي للبناء الاستيطاني، حتى ينفجر هذه الصدام.

ومع ذلك، فإننا لم نجد أي اعتراض على اختيار بانيت لمنصبه في قيادة المستوطنين، ولا حتى من غلاة المتطرفين.. فماذا يختبئ وراء هذا التطور؟

* فلسطين هي أرض الشعب إليهودي

* ولنبدأ بمجلس المستوطنات. اسمه بالعبرية «مجلس ييشع»، أي «مجلس الاستيطان في يهودا والسامرة وقطاع غزة». وقد تأسس في بداية السبعينات كمؤسسة شبه رسمية تضم رؤساء المستعمرات اليهودية التي أقيمت في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد سبقته إلى هذا النشاط حركة «غوش ايمونيم» (تكتل المؤمنين)، التي أدارت معارك كثيرة لفرض الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. وقد نجحت في بناء عدة مستعمرات وتحويل معسكرات للجيش إلى مستعمرات مدنية. ومع إقامة مجموعة كبيرة من المستوطنات التي صادقت عليها الحكومة وتحولت إلى بلدات، تم شق الشوارع إليها وفيها وبناء المدارس والمؤسسات، وأقامت الحكومة لها مجالس بلدية. وبما أن عدد السكان المستوطنين فيها كان قليلا، نشأت حاجة للتنسيق فيما بينها وتوزيع الموارد، مدرسة لكل عشر مستعمرات أو كنيس لكل مستوطنتين أو ثلاث، وهكذا، أقيم مجلس المستوطنات للتنسيق فيما بينها.

واتسم نشاط هذا المجلس بالقتال من أجل تحصيل المزيد والمزيد من الميزانيات. ولدى انتصار اليمين في الحكم، لأول مرة سنة 1977، أصبحت هذه المستوطنات «الابن المدلل» للحكومة. فأغرقت بالموارد المالية والمادية وتم تشجيع الصناعة فيها. وأقيمت مئات المشاريع السكنية. وحتى عندما اصطدم نشاطها بقرارات حكومية وتسبب في أزمات دولية، كون إنجازاته تمت غالبا على حساب الفلسطينيين، كانوا يخرجون من كل معركة منتصرين. وفي بعض الأحيان كانوا ينجحون في شق صفوف الحكومة نفسها ما بين مؤيد ومعارض. واشتهر أرئيل شارون، وهو وزير للبنى التحتية، بسياسة تشجيع خاص للمستوطنين، فدعاهم إلى احتلال كل قمة جبل أو تلة في الضفة الغربية وإقامة نواة لمستوطنة عليها. وهكذا تم بناء 153 مستعمرة، بينها مدينتان استيطانيتان، هما أرئيل الواقعة على مقربة من نابلس ومعاليه أدوميم قرب القدس، ويعيش فيها نحو 300 ألف مستوطن، وهذا إضافة إلى نحو 200 ألف مستوطن في القدس الشرقية المحتلة وضواحيها. وبموجب تقرير لمركز الأبحاث «أدفا» في تل أبيب فإن الحكومات الإسرائيلية اليمينية حرصت على اتباع سياسة تمييز لصالح هذه المستوطنات، حتى بالمقارنة مع البلدات الإسرائيلية الأخرى. فقد خصصت لها موازنات تبلغ ضعفي المعدل الإسرائيلي في التسعينات (باستثناء سنوات حكم اسحق رابين الذي عاملها بمساواة)، وعليه فقد حصلت المستعمرات على موازنة بمعدل 6189 شيكلا للفرد (الدولار يساوي اليوم 3.7 شيكل)، بينما المعدل في إسرائيل 4924 شيكلا، ولدى العرب في إسرائيل 3959 شيكلا. وخلال الفترة من 1991 وحتى 2000 بني في المستعمرات 39625 وحدة سكنية، مع العلم بأن مجموع ما بني في إسرائيل كلها لم يتجاوز 50 ألفا. وحسب تقرير حركة «سلام الآن»، فقد كلفت المستوطنات خزينة الدولة العبرية نحو 90 مليار دولار خلال 42 سنة. وعمل إلى جانب المجلس مجموعات من المستوطنين المتطرفين، الذين لم يكتفوا بنهب الأرض الفلسطينية، بل راحوا يعتدون على الفلسطينيين دمويا. وقد نفذوا كثيرا من العمليات الإرهابية، مثل محاولة اغتيال ثلاثة رؤساء بلديات فلسطينية في نابلس والبيرة ورام الله، كما نفذوا مذبحة الخليل وأحرقوا الأقصى المبارك، وهذا عدا عن العمليات الإرهابية التي اكتشفت قبل تنفيذها والاعتداءات اليومية على الفلسطينيين. وقد أصبح مجلس المستعمرات يتحفظ من مثل هذه الجرائم ويدين أصحابها، ولذلك فإن تلك المجموعات تمردت عليه واتهمته بالاعتدال الزائد. وعندما انسحبت إسرائيل من قطاع غزة وأزالت جميع المستعمرات من هناك، اتهمت هذه المجموعات مجلس المستوطنات المذكور بالفشل في منع هذا القرار. فدخل المجلس في أزمة حقيقية في صفوف جمهوره. واضطر قادته إلى الاستقالة. وفي سنة 2008، أعيد بناء المجلس من جديد. ووضعت له أهداف أكثر حدة وحزما، لإرضاء المتطرفين. منها - حسب دستور المجلس الجديد:

أولا: إكمال تعزيز وتطوير الاستيطان اليهودي الذي كان قد بدأ منذ تحرير (احتلال) قلب أرض إسرائيل في حرب الأيام الستة.

ثانيا: تشكيل نواة لحركة شعبية واسعة لتجديد الروح اليهودية الصهيونية في الشعب اليهودي ودولة إسرائيل، لمواصلة تعمير البلاد وإقامة علاقات مع كل التيارات والحركات المؤمنة بنفس الطريق.

ثالثا: أرض إسرائيل (فلسطين) هي أرض الشعب اليهودي بكل أجياله، له الحق المطلق للسيادة عليها وحيدا. ولا يوجد حق لأحد أن يتنازل عن حق/ واجب الشعب اليهودي تجاهها. وعليه، فإننا سنمارس حقنا في امتلاك الأرض في جميع أنحاء البلاد والاستيطان فيها.

رابعا: مجلس المستوطنات يعمل على تعميق جذور الشعب اليهودي في كل أنحاء البلاد وتعزيز وتوسيع الاستيطان اليهودي في القدس الكاملة وفي يهودا والسامرة والجليل والنقب وهضبة الجولان (السورية المحتلة) بهدف الوصول إلى أكثرية يهودية راسخة فيها ويكافح ضد إجراءات التجميد والخنق والتيبيس التي تأتي للمساس بالمشروع الاستيطاني وتسعى لاستعادة الاستيطان في المناطق التي تم تدمير الاستيطان فيها، مثل قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. كما تسعى إلى فرض السيادة اليهودية على جميع أنحاء أرض إسرائيل.

ويخصص المجلس في دستوره بندا يتحدث عن الفلسطينيين فيقول: «المواطنون العرب في أرض إسرائيل (فلسطين) هم جزء لا يتجزأ من العالم العربي الكبير، وفق كل مقاييس الانتماء القومي: الأصول الاثنية واللغة والتاريخ والديانة والتقاليد. وعليه فإن تطلعاتهم القومية تجد التعبير عنها في الدول العربية. وللعرب القاطنين في البلاد تعطى حقوق العيش وحقوق الفرد، ولكن ليس لهم أي حقوق قومية على أرض إسرائيل. فهذه هي البيت القومي للشعب اليهودي، وعليها لا تقوم سلطة وطنية غريبة».

* الرجل الذي يريد مليون مستوطن

* أما نفتالي بانيت، فقد أصبح مديرا عاما للمجلس منذ أقل من شهر فقط. وقد صرح عدة مرات منذ انتخابه للمنصب، أنه يريد مضاعفة حجم الاستيطان إلى ثلاثة أمثال، حتى يصبح عدد المستوطنين مليون نسمة «على الرغم من الضغوط الغربية لوقف نمو الجيوب الاستيطانية فيها». وأكد بانيت أنه يضع نصب عينيه عمل كل ما في وسعه لإبطال تجميد البناء الجزئي في المستوطنات معتبرا هذا التجميد تمييزا ضد اليهود، يقول: «هل يعقل أن يتمكن اليهود من البناء في نيويورك وموسكو وباريس، ويحظر عليهم البناء في أرضهم؟ إنه أمر جنوني». واتهم بانيت الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بالتسبب في إثارة العنف عن طريق الضغط الذي يمارسه على إسرائيل فيما يتعلق بقضية القدس. وبانيت هذا، له قصة مثيرة، وأغرب منها هو الوصول إلى منصب مدير مجلس المستوطنات..

ولد بانيت في مدينة رعنانا وسط إسرائيل شمال شرقي تل أبيب، قبل 37 عاما، وفيها يعيش مع زوجته وأولاده الثلاثة حتى اليوم. أنهى خدمته العسكرية واستمر في الجيش النظامي حتى تخرج ضابطا برتبة رائد. جل خدمته كانت في وحدة مختارة في الجيش الإسرائيلي تعرف باسم وحدة رئاسة الأركان، وهي التي خرجت أيضا ايهود باراك، وزير الدفاع، وعرفت بعمليات اغتيال شرسة في العالم العربي؛ مثل اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين في بيروت، واغتيال أبو جهاد خليل الوزير في تونس، وغيرهما. وقد شارك في حرب لبنان الأخيرة أيضا ضمن جيش الاحتياط. وخلال خدمته العسكرية درس المحاماة، وعندما فتح مكتب محاماة بدأ يهتم بالتطور التكنولوجي. فأقام شركة برمجة حاسوب، لكنها فشلت. وفضت الشركة. لكن بانيت توصل إلى قناعة بأن الفشل الأول كان من الإدارة غير السليمة، فأقام شركة أخرى طورت نظام حماية للتحويلات البنكية في الإنترنت، وقد اشترتها شركة أميركية بقيمة 145 مليون دولار. ومن هنا بدأ يرتقي سلم المجد كرجل أعمال ناجح، يشهد له الجميع. وقد بلغ صيته عند نتنياهو، فدعاه ليكون رئيسا لمكتبه وطاقمه كرئيس حزب الليكود المعارض. واستجاب للدعوة معلنا أنه يقدم نشاطه له مجانا، باعتبار أنه ليس بحاجة إلى المال.

بيد أن عمله لم يطل سوى سنتين. ففي نهاية عام 2008، ترك المنصب. ورفض إعطاء الأسباب. لكن الصحافة الإسرائيلية، اعتمادا على مقربين من بنيامين نتنياهو، تقول إنه لم يكن محبوبا لدى سارة، زوجة نتنياهو، فظلت وراءه حتى زهق. ولكن المقربين من سارة يقولون إنه استقال لأن الاستراتيجية التي وضعها لمهاجمة حكومة «كديما»، بقيادة رئيس الوزراء ايهود أولمرت، ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني، في حينه، لم تنجح، بل أدت إلى نتيجة عكسية. وحسب هذه التقارير، فإن بانيت وضع خطة تقول إن «أسوأ قرار اتخذته حكومة أولمرت خلال حرب لبنان، هو القرار بإطالة الحرب أربعة أيام أخرى. ففي هذه الأيام قتل نحو ثلاثين جنديا إسرائيليا هباء». وبالفعل، أدار الليكود حملة شعبية حول هذه القضية، مما اضطر الجيش إلى تشكيل لجنة تحقيق. بيد أن اللجنة خلصت إلى أن قرار إطالة الحرب بحد ذاته كان صحيحا. وأن أولمرت لم يكن مسؤولا عن قتل عدد كبير كهذا من الجنود. ولذلك، فشلت حملة الليكود ضد أولمرت. واستقال بانيت.

غير أن المقربين من نتنياهو يؤكدون أنه على الرغم من موقف سارة نتنياهو السلبي من بانيت، فإن رئيس الوزراء ما زال يعتبره صديقا مقربا. ويريد، ولكنه لا يستطيع، إعادته إلى حاشيته. ونقلت صحيفة «هآرتس» على لسانه أنه يتمنى أن يرى بانيت «الرجل القدير الموهوب في موقع مهم من قيادة الدولة». ومن جهته فإن بانيت، ورغم مرور سنتين على تركه العمل السياسي، ما زال يكن الاحترام والتقدير لنتنياهو. من هنا، تثار التساؤلات: كيف وصل بانيت إلى هذا المركز في قمة هرم إدارة مجلس المستوطنات؟ هل هذا التعيين منفصل تماما عن السياسة الإسرائيلية؟ هل يمكن لبانيت أن يعمل بالانفصال عن رئيسه السابق نتنياهو؟ وهل سيكون بانيت مندوبا لنتنياهو لدى المستوطنين، أم مندوبا للمستوطنين عند نتنياهو؟ وقد نقل على لسان بانيت أنه يرى في منصبه الجديد تحديا كبيرا ورسالة ذات بعد كبير، فلمن هو التحدي وأي مغزى هذا؟ وهل اختيار بانيت، كان تكتيكا جديدا من المستوطنين للتقرب من نتنياهو، في الوقت الذي يتعرض فيه رئيس حكومة اليمين إلى ضغوط أميركية؟ وهل سيكون أداة تنسيق بين نتنياهو والمستوطنين؟ فاليمين في إسرائيل يبدي وعيا لأنه لا يريد أن يدخل في صدام مع نتنياهو، حتى لا يكرر خطأه القديم سنة 1999، عندما كانت خلافات اليمين وضغوطه سببا من أسباب سقوط نتنياهو وصعود ايهود باراك زعيم حزب العمل مكانه. فهل هو اليوم يغير تكتيكه لكي يحافظ على نتنياهو وينسق معه لمساعدته على مواجهة الضغط الأميركي بتوزيع أدوار بين الطرفين؟