«صنع في اليابان».. لماذا ضعفت الثقة؟

بدأت شمسها في الغروب فهي تعاني جبالا من المشكلات بل إن صورتها المتعلقة بـ«الجودة» قد تشوهت

طوكيو التي قادت نهضة آسيا الأقتصادية.. تعاني مشاكل متزايدة (الشرق الأوسط)
TT

بدأت شمس اليابان، التي كانت تشتهر بأنها شمس الشرق الصاعدة، في الغروب، فهي تعاني جبالا من المشكلات المحلية والدولية. فاليابان لا تعاني من المشكلات على الصعيدين السياسي والاقتصادي فحسب، بل إن صورتها المتعلقة بالجودة والاحترام قد تشوهت بفعل إخفاقات الخطوط الجوية اليابانية و«تويوتا». لا يخفى على أحد أن اليابان كانت في السنوات الأخيرة الاقتصاد الأكبر قدرة على المنافسة والأكثر قوة، كما أصبحت قوة كبرى في مجال التكنولوجيا وفي مجال الشركات، مما جعلها موضع حسد من جانب بقية الدول المتقدمة، لدرجة أن البعض اعتبر أن اللغة اليابانية هي لغة التجارة في المستقبل. لكن بعد أن حصلت البلاد على أعلى مستوى لها من الاعتراف المالي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت قيمة القصر الإمبراطوري في طوكيو أكبر من قيمة جميع العقارات في كاليفورنيا، بدأت سمات عقليتها المتعلقة بالعالم المتقدم تعوق نموها المستقبلي.

وقال ماهارجا كريشنا راسغوترا، الدبلوماسي الهندي الخبير ووزير الخارجية السابق لـ«الشرق الأوسط»: «كانت اليابان بمثابة رؤية للاستقرار، وكانت الدولة التي يوجد بها كل شيء تحتاجه الدول الأخرى في آسيا لمدة عقود، بما في ذلك الأموال والتكنولوجيا والعلامات التجارية العالمية، والمكانة بين أكبر الدول الصناعية في العالم. ويتذكر الكبار في السن أمثالنا أيضا أن اليابان اعتادت أن تمثل مصدرا للخوف بالنسبة للأميركيين أو أي شعب آخر. فبالعودة إلى ثمانينات القرن الماضي، كانت اليابان أولى القوى الصاعدة في آسيا، وبدت وكأنها متجهة إلى أن تتخطى الولايات المتحدة كقوة ديناميكية تقود الاقتصاد العالمي. وكان الخبراء ينظرون إلى اليابان في سياق بحثهم عن الإرشاد الذي من شأنه إعادة إحياء أميركا، التي اعتقد كثيرون أنها ضلت طريقها. وخلال العشرين عاما الماضية، كانت اليابان في حالة من الشلل السياسي والاقتصادي. ومنذ أن انهارت فقاعة أسعار العقارات وأسعار الأسهم في بداية تسعينات القرن الماضي، كان الاقتصاد على وشك المعاناة من الكساد، بل وأحيانا سقط فيه. وباستثناء واحد فقط (جونيتشيرو كويزومي)، قاد البلاد سلسلة من القادة بدوا راضين على مضض بإصلاح الاقتصاد، بحيث يحفظونه من أن ينهار كلية، لكن ذلك لم يكن كافيا لمساعدة هذا الاقتصاد على العودة إلى أيام ازدهاره في الماضي».

وبدأ الاقتصاد الياباني، وهو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، في التدهور بأسوأ وتيرة له منذ أزمة البترول في سبعينات القرن الماضي، حيث تأثر بانكماش الصادرات ونقص الإنفاق الداخلي. وتواجه اليابان مشكلتين رئيسيتين؛ أولا، انخفاض النمو الاقتصادي انخفاضا كبيرا. وانكماش الاقتصاد بمعدل سنوي بلغ 12.1 في المائة عام 2008، وبعد ذلك بمعدل يزيد على 5 في المائة عام 2009، وهو ما يمثل أسوأ انخفاض منذ الحرب العالمية الثانية.

ويعد التأثير الأكثر أهمية لهذه الأزمة على اليابان هو نقص الطلب العالمي. وقاد اعتماد اليابان إلى حد كبير على السوق العالمية، إضافة إلى نقص الطلب العالمي على المنتجات اليابانية، إلى انخفاض تاريخي للصادرات، من دون وجود أية علامات للانتعاش مرة أخرى.

ووفقا للبيانات الصادرة عن وزارة المالية اليابانية، وصل العجز في الميزان التجاري في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2009 إلى 952.6 مليار ين (نحو 9.8 مليار دولار أميركي)، وهو أكبر عجز واجه البلاد منذ عام 1979.

وفي شهر أبريل (نيسان) من عام 2009، أعلنت الحكومة عن صدور تقرير اقتصادي شهري بهدف إطلاع الشعب على التطورات. وأظهرت هذه التقارير أن الانكماش الاقتصادي الياباني استمر حتى منتصف عام 2009. وانعكس ذلك في انخفاضات كبيرة في الصادرات، فضلا عن الانخفاض في الإنتاج وأرباح الشركات. وعانت صورة العلامة التجارية اليابانية كثيرا في الخطوط الجوية اليابانية، وهي شركة الطيران الوطنية في البلاد، وشركتي «سوني» و«تويوتا». فقد أعلنت الخطوط الجوية اليابانية عن إفلاسها، وقامت شركة «تويوتا» بعمليات سحب ضخمة لسياراتها، ولم تعُد شركة «سوني» الشركة الرائدة في مجال الإلكترونيات. وبعد «سوني» و«تويوتا» اللتين أصبحتا علامتين تجاريتين عالميتين خلال العقدين الماضيين، لم تظهر أية علامات تجارية يابانية جديدة. وكان هناك بعض المؤشرات على التدهور حتى قبل الاستدعاءات التي قامت بها «تويوتا» لسياراتها. وفقد كثير من العلامات التجارية اليابانية البارزة جاذبية عبارة «صنع في اليابان». فقد ذهبت «سانيو»، وبيعت فروعها في عملية إعادة هيكلة، وتعيد «توشيبا» و«فوجيتسو» تنظيم أوضاعهما، وعقدت كل من «ميتسوبيشي موتور» و«مازدا» و«نيسان» شراكات مع شركات أجنبية خلال الأعوام الماضية.

وكان العام الماضي عاما مثيرا للاهتمام على الصعيد السياسي، لكنه كان عاما كئيبا على الصعيد الاقتصادي بالنسبة لليابان. فللمرة الأولى على مدار الـ16 عاما الماضية قاد اليابان الحزب الديمقراطي الياباني بدلا من الحزب الديمقراطي الليبرالي، ويشغل منصب رئيس الوزراء الآن في البلاد يوكيو هاتوياما من الحزب الديمقراطي الياباني.

ويحاول الحزب الديمقراطي الياباني حاليا كسر مثلث الإنفاق المحلي لصالح فئات معينة، عن طريق تحويل الموارد، حسبما يطلقون عليها، من كونها موارد ملموسة إلى موارد تخدم حياة الشعب. وهناك كثير من المشكلات الظاهرة والخفية التي تواجه الحكومة الائتلافية بقيادة الحزب الديمقراطي الياباني، وعلى وجه الخصوص، تتطلب السياسة الأمنية، بما في ذلك الوجود العسكري الأميركي في أوكيانوا، حلا عاجلا، نظرا للتوتر الخطير والاحتكاك الذي نشأ بين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما وحكومة هاتوياما.

ويوافق العام الحالي الذكرى الخمسين للمعاهدة الأمنية بين الولايات المتحدة واليابان، لكن الولايات المتحدة ليست في مزاج في الوقت الحالي يؤهلها للاحتفال بهذه المناسبة. ويتطلب نظام التعليم الياباني مزيدا من الاهتمام إذا ما أراد الاقتصاد أن يكون قادرا على المنافسة في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، لا تزال هذه المشكلات قائمة وتزداد سوءا عاما بعد عام.

ووفقا لـ«إيه في راجواد» الخبير الاقتصادي الهندي المطلع على الاقتصادات الآسيوية، فإنه «في العقدين الماضيين، تسبب غياب الإرادة السياسية لدى الحكام اليابانيين للقيام بفعل شيء ملموس في أمور السياسة، بهدف الحفاظ على الصورة السائدة عن اليابان في السوق، في إلحاق ضرر كبير بالبلاد. وتتدهور الموارد المالية للحكومة في الوقت الذي يرفض فيه السياسيون اتخاذ قرارات صعبة بشأن ما تحتاجه البلاد وما لا تحتاجه. وفي ظل عدم الرغبة في اتخاذ قرارات صعبة، تلقي الحكومة ببساطة أموال دافعي الضرائب هنا وهناك أملا منها في الحفاظ على تأمين الوظائف للشعب من دون تقديم تغييرات كبرى في الاقتصاد. وفشلت الصناعة اليابانية، التي تحظى بحماية مفرطة في الداخل، في الاستفادة من لعبة العولمة؛ حيث فقدت شركاتها، التي لا تعد قادرة على التكيف مع عالم متغير، ولا تزال تفقد، حصتها في السوق العالمية لصالح منافسين أكثر ذكاء. وأخفقت الدولة، التي قادت في الماضي الطريق صوب الرخاء والازدهار في آسيا، في إيقاف ما يحدث في الوقت الذي تغتصب فيه الصين نفوذها».

والآن الصين هي التنين الآسيوي في عام النمر، لقد تفوقت على اليابان باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. وتجاوز إجمالي الصادرات الصينية الصادرات الألمانية العام الماضي، لتحتل الصين المركز الأول في العالم من حيث الصادرات، كما شهدت الأعوام الخمسة الماضية زيادة نفوذ الصين ونشاطها في شرقي آسيا، بينما انخفض نفوذ اليابان ونشاطها انخفاضا نسبيا خلال هذه الفترة. وفي غضون أعوام قليلة، من المحتمل أن تتفوق الصين، ما لم تكن هناك أية أزمات سياسية أو اقتصادية، على الولايات المتحدة وتصبح أكبر اقتصاد في العالم. وفي الوقت الذي لا تزال فيه معايير الخدمة عالية في اليابان، يشير كثير من المستهلكين والناقدين إلى انخفاض واضح في جودة المنتج، ويشعرون بالقلق بشأن آثار ذلك. وتشعر الحكومة اليابانية بقلق متزايد بأن أزمة «تويوتا» قد تتحول إلى اتجاه عالمي ضد السيارات اليابانية، أو حتى المنتجات اليابانية، وقد تقود إلى الإضرار بالعلاقات بين الولايات المتحدة واليابان.

وقال توموهيرو كوسيكي، الذي يؤلف كتبا حول المصانع اليابانية لصحيفة «آساهي» اليابانية: «أشعر بقلق شديد بشأن احتمالية فقدان الثقة في المنتجات اليابانية. يجب أن تعي (تويوتا) جيدا وضعها المسؤول في ما يتعلق بالصناعة اليابانية ككل. إن فقدان الثقة في (تويوتا) من شأنه أن يكون له أثر سيئ على كثير من المقاولين من الباطن والشركات التابعة لها».

وقال مسؤول تنفيذي في صناعة السيارات اليابانية إن استدعاء «تويوتا» لسياراتها سيكون له أثر سلبي على الاقتصاد الياباني «من خلال شبكة التوريد الخاصة بها. وسيكون له أثر سلبي كذلك من الناحية النفسية في ما يتعلق بعقلية التفوق الصناعي. إنه لدرس صعب بالنسبة للشركات الأخرى في اليابان. لا شيء معصوم من الخطأ، ولا حتى سياسة (تويوتا)». وفي الواقع إن لدى اليابان كثيرا لتقلق عليه باعتبارها رابع أكبر دولة مصدرة في العالم.

ويقول مانجوشري تشاوهان، الأستاذ المشارك بمركز الدراسات اليابانية بجامعة جواهر لال نهرو في دلهي بالهند، إنه «في ظل غياب الإصلاح الاقتصادي الجذري، لم يكن الاستثمار في الملكية الفكرية كافيا للعودة باليابان إلى النمو النشط. واصلت القوة العاملة اليابانية في التسبب في تكاليف ضخمة بالنسبة للشركات في الدول المتقدمة. ولمعالجة ذلك، اتجهت الشركات بدرجة كبيرة إلى الدول النامية، وهذه الخطوة قد تقوض الاقتصاد المحلي الهش. من الممكن أن تضطر الشركات اليابانية عالية الجودة الحكومة إلى خفض قيمة الين، حيث إن ذلك من شأنه أن يجعل صادراتهم متاحة بأسعار مناسبة. لكن عبء الدين الحكومي الضخم في البلاد يعتمد على المستثمرين المحليين، الذين قد ينقلون استثماراتهم إلى الخارج إذا ما انخفض سعر الين».

ووفقا لمدير مكتب وكالة أنباء «كيودو» اليابانية في جنوب آسيا شيميزو: «قد تكون البلاد في حاجة إلى تطبيق تغييرات هيكلية إذا ما أرادت تكييف نفسها على الاقتصاد العالمي المتغير وزيادة إمكانات النمو الاقتصادي. حققت اليابان التقدم سريعا في الماضي بفضل نموذج النمو القائم على الصادرات، لكنها الآن تعاني بسبب اعتمادها الكبير على الطلب العالمي. الاهتمام الرئيسي للحكومة هو حماية الوضع الاقتصادي من مواجهة مزيد من التدهور، والتركيز على التوظيف وحل مشكلة عدم كفاية الأموال المخصصة للمشروعات».

ولتمويل حزمة الإنقاذ الأخيرة، ستصدر الحكومة سندات خزانة تتعدى قيمتها 10 تريليونات ين. وعقب ذلك، سيتجاوز إجمالي سندات الخزانة في اليابان بنهاية العام المالي 2009 الإيرادات الضريبية. ولا يزال السؤال حول ما إذا كانت حزمة الإنقاذ ستنجح في المحافظة على دخل الشعب وإعادة بناء الثقة ودعم الطلب المحلي قائما ويتطلب مزيدا من البحث. وفي ما يتعلق بهذه الأمور مجتمعة، سيكون عام 2010 عاما مهما للغاية بالنسبة للقرارات الكبرى، وبالنسبة لحكومة الحزب الديمقراطي الياباني وبالنسبة للاقتصاد الياباني والعالم أيضا.